الإخوان المسلمون.. من التنظيم المغلق إلى الفضاء المفتوح
محمد بن المختار الشنقيطي
إن الحرب أهم من أن تترك في أيدي الجنرالات، كما قال أحد الرؤساء الفرنسيين. والخلاف الأخير داخل الإخوان المسلمين بمصر أهم من أن يترك في أيدي الإخوان وحدهم. ففضل السبق جعل للإخوان المصريين مكانة تأسيسية خاصة في العمل الإسلامي المعاصر.
فشأنهم شأن أي جيل تأسيسي: لصوابه قيمته العظمى ولخطئه خطره الجسيم، نظرا لاستسهال التقليد، والتقيد بذلك من لدن اللاحقين. فليسمح لي الإخوان –وهم يغارون على “مجالهم الحيوي” أحيانا- أن أبدي رأيا في مغزى أزمتهم الأخيرة وأبعادها التي تتجاوز حدود مصر.
لقد كنت نشرت منذ سبع سنين خلت على موقع الجزيرة نت مقالا عن “ملامح المأزق القيادي لدى الإخوان المسلمين” بينت فيه جوانب من الجمود القيادي والتصلب الإجرائي السائدة في هيكل الإخوان بمصر، وضعف الشرعية القيادية والمرونة الداخلية، وغلبة معايير الهيبة التاريخية والسبق الزمني في الحركة على معايير الكفاءة وحسن الأداء. وثارت ثائرة بعض الإخوان حينها، وجاءتني ردود غاضبة من بعضهم، كما شجع آخرون منهم هذا الطرح ورأوه كاشفا موضوعيا لواقع الحركة.
وتشير الأزمة الأخيرة في صف الإخوان إلى أن الحركة تقف اليوم على مفترق طرق: إما الاستمرار في مسار الاكتفاء والانكفاء المميت لكل حركة تغيير اجتماعي، وإما الانفتاح على المجتمع وعلى مناهج التغيير والقبول بالنقد الضامن لاستمرار الحيوية والعطاء.
الأزمة في إطار أرحب
ومن المهم التذكير هنا بأن الشروخ التي بدأت تظهر في جسد الإخوان المسلمين بمصر، ليست خاصة بهم، بل هي ظاهرة عاشتها حركات إخوانية عدة في الحقبة الأخيرة، منها “حركة مجتمع السلم” الجزائرية، وتنظيم “الإخوان في بلاد الشام” وهو المظلة التي كانت تجمع إخوان الأردن وفلسطين المحتلة إلى عهد قريب. وقبل كل أولئك عصف الخلاف بإخوان السودان ووأد مشروعهم السياسي، وقد كان أكثرَ مشاريع الإخوان نضجا تنظيميا وتخطيطيا وإستراتيجيا في العالم العربي. فمن الحكمة النظر إلى الخلاف الأخير بين إخوان مصر في إطار أرحب، باعتباره عرضا لأزمة أوسع بكثير من مجرد جمود الجيل الرائد، ومطامح الجيل الصاعد.
كما أن شخصنة الخلاف الذي بدا على السطح مؤخرا داخل إخوان مصر لا تخدم فهم القضية، وهي قضية أعمق من مجرد ترفيع شخص الدكتور عصام العريان إلى عضوية مكتب الإرشاد ليسد مسدَّ عضو مكتب الإرشاد الراحل محمد هلال.
فأزمة الإخوان تلقي بظلالها على أمور كثيرة، وتستثير أسئلة وقضايا جوهرية، منها قضية العمل الإسلامي السري المنظم، هل هو ضرورة ومصلحة أم هو عبء على حركة التغيير؟ وإذا كان في العمل السري مصلحة فما هي حدود الإسرار والإعلان؟ ومنها مشكلة الفقر المدقع في الفقه القيادي لدى بعض الداعين إلى إقامة الدولة الإسلامية، فهل ستثق الأمة في وضع قيادتها في أيدي أقوام عجزوا عن قيادة حركة؟ ومنها تحول بعض الحركات الإسلامية إلى “طائفة دينية” لها هويتها الخاصة المتأسسة على أسوار عالية بنتها بينها وبين الناس وعلى جملة من هواجس الخصوصية التي تحمي بها نفسها، فهل تستطيع هذه الحركات أن تغير مجتمعا لم تعد تنتمي إليه شعوريا؟
نظرية الحل في الحل
إن الغاية من بناء أي تنظيم هي الإحساس بالحاجة إلى تنسيق جهود جماعية، وترشيدها وتسديدها، وتصويبها نحو الهدف المشترك، وتجنب تبديد الجهود أو تضاربها أو تناسخها. فإذا استطاع التنظيم أن يستوعب أعضاءه، وينسق بين جهودهم، بحيث يجد كل منهم مكانه المناسب دون إحساس بالغبن أو التهميش أو استئثار رفقاء الدرب بأمور التنظيم من دونه، ودون تضارب الجهود أو تناسخها، دل ذلك على أن التنظيم يسير في الاتجاه الصحيح.
أما إذا حدث العكس، وفقدَ بعض الأعضاء ثقتهم في التنظيم لضعف الإيمان بالأهداف، أو لنقص الثقة بالقيادة، أو لمجرد الإحساس بالغبن، أو سوء توجيه الجهد فإن ذلك مؤشر سلبي يدل على أن التنظيم بدأ يرتبك ويفقد رسالته، ويتحول إلى قيد على الطاقات الفردية التي كان أداة ترشيدها وتسديدها.
وقد بدأ العديد من الإخوان المسلمين داخل مصر وخارجها يدركون أن تنظيماتهم تحولت إلى قيد على العمل الذي هو مبرر وجودها. ووصل الحد إلى الدعوة الصريحة إلى حل كل التنظيمات والتحرر منها. وتحضرني هنا الأطروحات العميقة التي يطرحها المفكر الإسلامي القطري د.جاسم سلطان في قراءته لتاريخ الإخوان المسلمين، وقد توصل إلى خلاصات نظرية جريئة تشكك في جدوى التنظيمات السرية ابتداء، وتتبنى رؤية إسلامية نهضوية بدون تنظيمات بالمعنى العرفي السائد في الصف الإسلامي اليوم. ويمكن تسمية أطروحات د.جاسم سلطان تجاوزا بنظرية “الحل في الحل”.
كما يحضرني النقد اللاذع الذي يوجهه للإخوان بمصر عبد الستار المليجي، عضو مجلس شورى الإخوان بمصر سابقا. فهو يرى أن الجماعة “لا تمتلك مشروعية تنظيمية ولا يمثل مكتب الإرشاد اليوم إلا الجزء الأرضي والعالم السفلي من الجماعة العظيمة العدد والأهداف”. وقد دعا المليجي مؤخرا إلى تشكيل (لجنة قومية لتوفيق أوضاع الإخوان) هدفها إعادة بناء الجماعة على أسس قانونية، بعد أن تحل الجماعة نفسها وتخرج من الظلام إلى النور.
وربما كان د.جاسم سلطان قد عمم أكثر من اللازم، لكن الخلاصات التي توصل إليها جديرة بالتأمل، وهي في رأيي صحيحة في حق التنظيمات الإخوانية في دول الخليج، إذ ليس من الحكمة –فضلا عن الروح العملية- وجود تنظيمات سرية تحمل مشروعا بديلا عن السلط القائمة في دول الخليج، لأنها دول تحكمها أنظمة عميقة الجذور في مجتمعاتها، وهي تستظل بمظلة دولية رادعة.
لكن الأنظمة العربية الأخرى لها واقع مختلف، وهي في أغلبها نظم عسكرية سطحية الجذور، منبتة عن مجتمعها. ومع التحفظات التي يبديها الإخوان على نظرية “الحل في الحل” فإن هذه النظرية لا ينبغي رفضها بإطلاق، فلها وجاهتها في عدد من السياقات الاجتماعية والسياسية التي تنعدم فيها الحاجة إلى العمل السري أو يقود فيها العمل السري إلى طريق مسدود.
أما الأستاذ عبد الستار المليجي فقد حصر مشكلة الإخوان إلى حد بعيد في قضية الاعتراف القانوني، وذلك –في اعتقادي- اختزال لمشكلة أكثر تركيبا وتعقيدا. ولعل حديثه عن ضعف الشرعية الداخلية في التنظيم أكثر وجاهة وأولى بأن يؤخذ في الاعتبار، إذ بدون الشرعية الداخلية يفقد التنظيم مرونته وحيويته وقدرته على العطاء والنماء.
شجاعة العمل العلني
إن بعض الإسلاميين يرون أن العمل السري يحتاج إلى شجاعة، لما يصحبه أحيانا من مطاردات أمنية وحملات قمعية، لكن العمل العلني يحتاج شجاعة أكبر، لأنه صدْع بالحق، وتعرض للسهام، ومواجهة للظلم من غير لجلجة.
وحتى لو افترضنا أن العمل السري ضروري في بعض الدول لظروفها الخاصة, فإن الحركات الإسلامية ليست سرية بمعنى الكلمة، وليس من الضرورة ولا من المصلحة أن تكون كذلك. كل ما في الأمر أن لديها أسرارا تحتاج تأمينها في ظروف القهر. وقد تكون تلك الأسرار في شكل أشخاص أو برامج أو خطط أو هيئات خاصة.
إن المطلوب من الحركة هو أن تؤمِّن أسرارا محدودة، وأن تكتسب المجتمع كله أو جله. فكلما انفتحت الحركة على المجتمع وتضاعف كمها، كلما أمكن التستر على تلك الأسرار، كالدرة الثمينة في بحر محيط.
بيد أن الإشكال يكمن في أن من بين الإسلاميين من لا يملك شجاعة العمل العلني، ومواجهة المجتمع في فضاء مفتوح يمحِّص الكفاءات ويظهر الخلل وجوانب القصور في حركة التغيير الاجتماعي. بل يميل هؤلاء إلى العمل في الظل والتحرك تحت جنح الظلام، لأن ذلك أستر للعيوب، وأضمن للابتعاد عن عين الرقيب المتربص من خارج الصف، وعين المحاسب النبيه من داخل الصف.
والعمل في الظلام من خصائص المستبد، كما لاحظ عبد الرحمن الكواكبي، فكتب منذ أكثر من مائة عام: “لو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن أوى يتلقف دواجن الحواظر في غشاء الليل”.
وفي أجواء العمل السري يسهل على من لا كفاءة لهم أن يتشبثوا بالقيادة، ويسدوا منافذها أمام غيرهم، فأجواء “حالة الطوارئ” الذهنية والعملية التي تصاحب العمل السري هي أحسن مُعين لعديمي الكفاءة على بقائهم في أي منصب قيادي، ولمن تجاوزتهم حركة المجتمع للتشبث بما ليسوا له بأهل، حيث لا مجال للفرز الواضح أو للمدافعة العاصمة من الفساد.
ونقص الكفاءة لدى بعض القيادات التاريخية للإخوان هي التي دفعت بالشيخ القرضاوي إلى التصريح بانفعال أن سد المنافذ أمام صعود د.عصام العريان إلى عضوية مكتب الإرشاد “خيانة للدعوة والجماعة والأمة كلها” داعيا إلى تولية أهل القوة والخبرة، ومحذرا من أنه “بخسارة هذه العناصر القوية لن يبقى في الجماعة إلا المتردية والنطيحة وما أكل السبع”.
وليس القرضاوي بمتهم على الإخوان، فهو مرجعهم الشرعي والفكري، وقد بلغت بهم الثقة فيه أن عرضوا عليه تولي منصب المرشد العام. إنما أراد الشيخ –على يبدو- أن يهز الجمود السائد اليوم بتصريحات مزلزلة لم يعتدها الإخوان منه، لعل ذلك يكون حافزا على اليقظة في صف حركة تخلفت فيها القيادة عن القاعدة مدة مديدة.
ولأن القرضاوي لامس وترا حساسا في الجسد الإخواني فقد جاءت الردود على تصريحاته انفعالية كذلك، وبأقلام لم يكن يتوقع منها ذلك، وفي لغة تنقصها اللياقة أحيانا، حتى لقد دعا أحد أعضاء مكتب الإرشاد تصريح القرضاوي “حملة شعواء” و”سبابا مقذعا”!!
نحو الفضاء المفتوح
إن المحافظة على شرعية القيادة مع ظلمات العمل السري أمر عسير للغاية، فالشرعية والسرية أمران لا يجتمعان في الغالب الأعم، والاستبداد والسرية حليفان في الغالب الأعم. فكما تميل أنظمة الاستبداد بحكم طبيعتها الاستبدادية إلى السرية والتكتم، فإن الحركات السرية تميل بحكم طبيعتها السرية إلى الاستبداد.
ويلاحظ المراقب الفطن أن تحالفا ضمنيا يصاغ اليوم بين الجناح المتصلب في الإخوان وبين حسني مبارك ونظامه المترهل الساعي إلى تأبيد نفسه عبر التوريث، كما تدل عليه اللغة الغزلية التي يتحدث بها د.محمد حبيب عن توريث جمال مبارك، وهي طريقة تشبه تقرب بعض القادة العرب من الغرب والاستقواء به على شعوبهم للتعويض عن نقص الشرعية السياسية.
فكأن تيار التصلب التنظيمي والجمود الفكري داخل الإخوان لن يجد له سندا ضد قاعدته المتحركة سوى التحالف الصامت مع تيار الاستبداد والفساد في النخبة السياسية المصرية، أما تيار التجديد داخل الإخوان –وقد كان دائما إيجابيا ومنفتحا على قوى التغيير الأخرى- فليس أمامه سوى الاصطفاف العلني مع قوى الإصلاح والتغيير في مصر من كل المشارب والمذاهب لبناء دولة العدل والحرية.
فالأولى بالحركات الإسلامية اليوم هو الرفع من سقف المطالب، والتحالف مع قوى التغيير الاجتماعي، من أجل فضاء مفتوح يسع الجميع وعدالة غير منقوصة يستظل الجميع بظلالها. أما التحالفات الصامتة والناطقة مع الأنظمة العسكرية المستبدة فهي تطيل من عمر الاستبداد وتضر برسالة الحركة وبمستقبل الأمة.
ولعل من إيجابيات الأزمة الأخيرة في قيادة الإخوان المسلمين، أنها دفعت الجماعة إلى النور أكثر، وقربتها من العمل في الفضاء المفتوح. فقد صدرت بأقلام مصرية مطارحات فكرية عديدة وعميقة حول الأزمة، وظهرت قاعدة الإخوان حيوية ومشدودة إلى المشاركة في صياغة فكرها وتقرير مصيرها دون وصاية.
ويدل بعض ما كتبه د.عصام العريان على أن التوجه نحو الفضاء المفتوح سيتعمق أكثر فأكثر في الزمن الآتي. فقد قدم د.العريان برنامج عمل جديد للإخوان يدعو إلى اللامركزية التنظيمية، وتحرير طاقات المفكرين والدعاة من أعباء التنظيم، والالتحام بالمجتمع العام، والتركيز على معاني الإصلاح الدستوري والسياسي في مصر.
وهو ما يمكن تلخيصه بأنه دعوة إلى الخروج من التنظيم الضيق إلى الفضاء المفتوح. وهي دعوة يحتاجها الإخوان، وتحتاجها مصر، وتحتاجها كل المجتمعات المأزومة التي نسميها اليوم دولا عربية إسلامية.
الجزيرة نت