اختلاف صورة السلف الصالح عند الاسلاميين
محمد سيّد رصاص
كان مفهوم (الزمان الاسلامي) من أهم مواضيع الإنشغال عند الاسلاميين منذ نشأتهم في عام1928عندما أسَس الشيخ حسن البنا تنظيم (جماعة الإخوان المسلمين)، وإذا أراد المرء الدقة فإن رؤيتهم للحاضر والمستقبل تنبع وتنبني على تلك الرؤية الموجودة عندهم حيال التاريخ الاسلامي: من هنا أتى مصطلح (السلف الصالح) عند الاسلاميين، الذي هو بشكل أو بآخر يعبر عن رؤية للماضي يمثل فيها (السلف الصالح) ما يمكن تسميته بـ “الزمن- الأنموذج”، قبل حصول “الإنحراف” أو “الإنحطاط”، وهو شيء تشير الكثير من المؤشرات، في التاريخ الاسلامي، إلى أن حالة مسلمي العصر الحديث ليست غير مسبوقة، حيث أن “فكرة عهد مثالي، يبتعد عنا بصورة حتمية لامرَد لها كالزمن الذي يمر،قد عايشت الاسلام على الدوام…وسنجد عند ابن قتيبة\ت 276هجرية\وعند الحسن البصري\ت110هجرية\…..وكلما ارتقينا في الأدب الاسلامي، سنجد مجدداً هذا الإحساس بابتعاد تدريجي للسماء عن الأرض، ومامن أحد تكلم البتة عن التجدد،والجميع يتحدثون عن الترميم والإعادة”(عبدالله العروي: “الايديولوجية العربية المعاصرة”، دارالحقيقة، بيروت1970،ص122)، وقد كانت الحالة الأكثر تعبيراً عن ذلك متمثلة في فكر الإمام مالك(93-179هجرية) لما كان التزامه المتشدد بسُنة سالفيه من الصحابة والتابعين مرتبطاً بصراعه ضد (مدرسة الرأي) في الفقه عند العراقيين، وضد (علم الكلام) الذي بدأ بالظهور آنذاك، وهو أمر تكرر عند الإمام أحمد بن حنبل (ت241هجرية) ضد المعتزلة، وإذا كنا نجد حالة شبيهة شكلاً عند ابن حزم (ت456هجرية) إلا أنها هي مختلفة المضامين عن الحالين السابقتين لما كان وقوفه ضد علم الكلام، بنسختيه المعتزلية والأشعرية، مبنياً ليس على “سُنة السلف الصالح” ولكن على (النبع) الممثل في (لحظة النبوة) بما أعطته من كتاب وسُنة، والتي يذهب إليها ابن حزم من دون وساطة أو دلالة (السلف الصالح).
إذا أتينا إلى العصر الحديث فإننا نجد أن بلورة الرؤية الفكرية لمفكر مثل الشيخ محمد عبده لم تكن مبنية فقط على مقاربة لأزمة المسلمين الحديثين أمام قطوعي(الهجمة الغربية) و(التفوق العلمي ـ التقني الغربي)، وإنما أساساً على محاولة للتجديد اقتداءً بـ(السلف الصالح) وهي كلمة “لايستعملها محمد عبده بمعناها الحرفي كمرادف للجيل الأول من صحابة النبي وأتباعه، بل بمعناها الأعم……فكبار علماء الكلام في القرنين الثالث والرابع هجري، كالأشعري، والباقلاني، الماتريدي، هم أيضاً من السلف الصالح” (ألبرت حوراني: “الفكر العربي في عصر النهضة”، دار النهار، بيروت1968، ص184) فيما تقلَص ذلك عند تلميذه رشيد رضا ليكون “اسلام السلف الصالح هو اسلام الجيل الأول الذي عرف النبي”(حوراني: ص276).
في حالة الشيخ البنا نجد أن تحديد (السلف الصالح) يُترك مبهماً أثناء إشارته إلى أن (الإخوان) يفهمون”الاسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم” (“الرسائل”، دار الأندلس، بيروت1965، ص246)، وإن كانت عملية اسباغه لصفة الإسلامية على الدولة العباسية حتى سقوط بغداد بيد التتار عام656هجرية (ص209)، ثم قوله “أن تقوم للاسلام دولة وارفة الظلال قوية البأس………تضم تحت لوائها معظم أممه وشعوبه……تلك هي دولة الأتراك العثمانية” (ص212)- توحيان بأن الشيخ البنا يقدم مروحة واسعة لمصطلح (السلف الصالح) رغم حديثه عن “عوامل التحلل\التي\………أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية…..حتى مزقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية في القرن السادس الهجري بأيدي التتار”(ص ص208-9)، ليكون تعداده لتلك العوامل بادئاً بالخلافات السياسية، ثم المذهبية، وبعدهما الترف، من دون أن يؤدي ذلك به لنزع صفة الإسلامية عن الدولة العباسية.
هنا، وفي تأسيس موازٍ للتيار الاسلامي ولكن مغاير، يقدم أبو الأعلى المودودي في عام1941، بكتابه “المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله والرب والدين والعبادة”، رؤية مختلفة، ترى أن هناك في القرون التي أعقبت عصر النبي والصحابة “والتي تلت ذلك العصر الزاهر جعلت تتبدل المعاني الصحيحة لجميع تلك الكلمات، تلك المعاني التي كانت شائعة بين القوم عصر نزول القرآن، حتى أخذت تضيق كل كلمة من تلكم الكلمات الأربع عما كانت تتسع له وتحيط به من قبل……..فكانت النتيجة أن تعذر على الناس أن يدركوا حتى الغرض الحقيقي والقصد الجوهري من دعوة القرآن”(“المصطلحات الأربعة”،عن نسخة ألكترونية كاملة للكتاب متوفرة في عدة مواقع)، وهو ما تابعه سيد قطب في كتابه المفصلي “معالم في الطريق”(مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، القاهرة1964) عندما قال بأن “وجود الأمة المسلمة يُعتبر قد انقطع منذ قرون طويلة”(ص6)، ليقوم بحصر(السلف الصالح) في الصحابة وحدهم عندما “خرَجت هذه الدعوة جيلاً من الناس ـ جيل الصحابة رضوان الله عليهم ـ جيلاً مميزاً في تاريخ الاسلام كله……….ثم لم تُخرِج هذا الطراز مرة أخرى”(ص13)،محدِداً أن”ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده\=القرآن الكريم\….ثم ما الذي حدث؟….اختلطت الينابيع!”(ص16)، وهو اختلاط يعتبره سيد قطب قد امتد إلى حدود أن”اختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضا……..ً”(ص17).
أمام هذا التيار (أو الإتجاه الجديد الذي توَلد أو أوحت بجنينه كتابات المودودي وقطب) وقف المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين حسن الهضيبي من خلال كتابه المكتوب بالسجن، ببحر عامي1968 و1969، المسمى “دعاة لا قضاة”، وإن كان يلفت النظر في هذا الكتاب (الإستشهادات منقولة عن نسخة ألكترونية كاملة للكتاب موجودة بعدة مواقع) عدم الرد المباشر من الهضيبي على سيد قطب، وإنما أن يقفز للرد مباشرة على المودودي، وبالذات على تلك الفقرة المذكورة آنفاً، رغم أن من الواضح أن دوافع تأليف ذلك الكتاب عند الهضيبي كانت ناتجة عن ما أحدثه كتاب “معالم في الطريق” من حراك وانقسام في الوسط الإخواني داخل السجن وخارجه: يعتبر الهضيبي أن جميع من نطق بالشهادتين، ماضياً وحاضراً، هم مسلمون، انطلاقاً من أن “قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله المعتبر شريعة لازمة……..فقد قبِلَ الرسول….اسلام الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً………دون اجراء ما يفيد ضرورة التأكد أن كل فرد منهم قد فهم من الشهادتين اللتين شهد بهما معلناً اسلامه معنى محدداً معيناً”، ثم يقول الهضيبي ببطلان “القول بإشتراط العمل” شرطاً لإكتمال الإيمان عند المسلم، ذاهباً إلى البعيد، بالنسبة لاسلاميي الحاضر الراهن وفترة الهضيبي(1951 ـ1973) وكذلك فترة البنا (1928ـ1949)، عبر استشهاده بكلمات الإمام النووي (ت672هجرية): “وأعلم أن مذهب أهل الحق ألا يكفَر أحد من أهل القبلة ولايكفَر أهل الأهواء والبدع”، وبعد هذا يمتد إلى أبعد، في رؤية ضمنية للتاريخ الاسلامي، عندما يرفض صحة حديث: “إن القدرية مجوس هذه الأمة” وكذلك حديث: “تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في النار، حاشا واحدة فهي في الجنة”، قائلاً: “هذان حديثان لايصحان عن طريق الإسناد”، فيما تترافق رؤية سيد قطب حول(الإنحراف) و(الجاهلية) مع رؤية ضدية لعلم الكلام، والفلاسفة، وعلماء أصول الدين، وعلماء الفقه، وفي السياق نفسه يلفت النظر اجتماع الحنابلة، ومعظم الأشاعرة، من جهة، وجميع الشيعة من جهة أخرى، على الأخذ بحديث “الفرقة الناجية”، بينما معظم أهل السُنة لا يقولون بصحته.
من خلال ما سبق، هل نستعيد قول العروي بكتابه المذكور(ص119) لطرح التساؤل التالي: هل أصبح “تاريخ الاسلام تاريخ اختفاء كبير أو كسوف أو محاق، وتُنتخب فترة قصيرة تتفاوت طولاً حسب المؤلفين، ثم يُغطى الباقي بحجاب الخيانة الأسود”؟!!…
المستقبل