صفحات العالم

حوار بين الجد والهزل على هامش مأساة اليمن: عندما تصير الدولة رجلاً فرداً

طلال سلمان
في لقاء مع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، قبل سنوات، توجهت اليه بسؤال جاد أوحت به «صلاحياته» المفتوحة على نواحي الحياة جميعاً في اليمن السعيد:
ـ هل أنت الخليفة، أمير المؤمنين، الرئيس القائد، شيخ القبيلة، الملك، صاحب الزمان، الآمر الناهي، مالك القرار في كل الشؤون؟…
ورد الرئيس الآتي بانقلاب عسكري من رتبة بسيطة في الجيش: أنا كل أولئك معاً! ضحك وضحكنا، لكنه كان ضحكاً مراً..
اليوم، واليمن تمور بالاضطرابات التي تهدد وحدة الدولة والشعب فيها، وتتمدد بالحرب الى جارتها السعودية، يصبح القلق مشروعاً على مصير هذا البلد العربي الذي أعادت الثورة على حكم الإمامة في 26 أيلول 1962 استيلاده كدولة، ثم تعززت هذه الدولة بالوحدة بين شماله وجنوبه، بعد تجربة حزينة وفاشلة، كلفت اليمنيين بحراً من دمائهم وخسارة فادحة في الزمن الذي يحتاجونه لكي يعودوا الى العصر.
إن الدولة التي بنتها ثورتان: في شمالها ضد حكم الجاهلية وفي جنوبها ضد الاحتلال البريطاني، تبدو مهددة بالتفكك والتبعثر دويلات أو جهات أو مشيخات قبلية أو محميات تتقاسمها قوى أجنبية مع «القاعدة» وأصوليات أخرى، مع كل ما ينجم عن هذا التفكك على محيط اليمن، وبالتحديد على السعودية التي تشدها الفوضى المسلحة الى التورط في حرب مفتوحة ضد قبائل وعشائر لم تعرف يوماً الحدود لتعترف بها، لأنها كانت عبر التاريخ تتجاوزها بالامتداد السابق على قيام الدول.
لقد تهاوت كل «المؤسسات» التي استولدها الحاكم الفرد على عجل، فعجزت عن وقف الانهيار، بل لعل بناءها الهش والمصطنع قد أعاد الاعتبار الى الواقع الصلب للتكوين القبلي الذي تثبت الوقائع الميدانية انه أقوى من طائرات الميغ اليمنية، الروسية الصنع، أو الأف 16 السعودية الأميركية الصنع.
على أن موضوعنا ليس حرب اليمن مع احتمال تمددها الى السعودية، وليس استجلاء أمر «الحوثيين» من هم، وحقيقة ما أشيع عن تشيعهم أم ثباتهم على مذهبهم الزيدي، بل انه مصير جمهورية اليمن (التي كانت عربية فأمر الحاكم الفرد بشطب الهوية من الاسم لأمر لا يعرفه غيره!!).
ان مصير اليمن، في هذه اللحظة، يرتبط بمصير رئيسها الفرد الذي تولى بنفسه بناء «مؤسسات» الحكم عسكرية ومدنية، وكذلك «المؤسسات الشعبية» فعهد بها الى أفراد عائلته وأصهاره وأبناء عشيرته و«حلفائها» عموماً، فصار هو الدولة والدولة هو،
وصارت سلامته شخصياً عنوان سلامة الدولة، فإن ضعف أو مرض أو أصابه العجز أو تعرض لأي حادث دخلت اليمن نفقاً مظلماً قد لا تخرج منه إلا مزقاً.
[[[
خطورة الأمر أن هذه الحالة ليست قائمة في اليمن فقط، بل هي تكاد تكون القاعدة في معظم «الدول» العربية، فالرئيس ـ الملك ـ الأمير ـ الشيخ (وقبيلته التي قد تموه ذاتها أحيانا باسم حزب) يختصر «الدولة» بشخصه، إن أصابه داء اعتلت وإن جاءته الوفاة تهدد وجودها بالانهيار.
قبل اليمن كان صدام حسين قد اختصر العراق بشخصه، وحصر القرار فيه، فكان هو وحده ولي أمر الثلاثين مليونا من العراقيين، ما يقرره يكون: وهكذا خاض حروباً مدمرة لحساب طموحاته كما لحساب الغير ذهبت بكيان العراق وثرواته الهائلة، وجاءته بالاحتلال الأميركي فشردت شعبه قبل أن تفتح أمامه أبواب جهنم بالحرب الأهلية التي تعددت وجوهها، فكانت مرة عرقية، ومرة عنصرية، ومراراً طائفية ومذهبية كادت تفرغه من المسيحيين (اشوريين وكلدانا، وهم بعض الأصل في شعبه) ثم أدخلت العرب في حرب مفتوحة على السلطة مموهة بصراع مفتعل ومغذى من الخارج بين السنة والشيعة، قبل أن نتحدث عن الدول المجاورة وتناقضات المصالح بينها، وتقاطع هذه المصالح مع ما يخدم أهداف الاحتلال الأميركي، وأخطرها التغلغل الإسرائيلي الذي وجد المدى مفتوحاً فلم يتأخر عن التغلغل المنظم في الشمال (الكردي) كما حيثما أمكنه ذلك في الجهات والطوائف جميعاً.
بعد العراق ومعه، وجنباً الى جنب مع اليمن، تتكرر التجربة المرة في السودان، اذ يتماهى الحاكم ـ السلطان ـ الخليفة مع النظام ومع الدولة فيصبح أي تهديد بسقوطه تهديداً للدولة بالتمزق في أتون الحرب الأهلية، واندثار الوطن.
إن النظام العربي يكاد يجبر رعاياه في العديد من الدول على خيار مر بينه وبين الحرب الأهلية: إن تحرك الشعب معارضاً أو معترضاً، مطالباً بالدستور ـ مثلا ـ أو بحكم القانون، بالعدالة الاجتماعية والرغيف، بحقه في العلم والتقدم الخ ، اتهم في وطنيته وحوكم بوصفه مثيراً للشغب وخارجاً على الإرادة التي لا ترد لصاحب الأمر.
الحاكم هو النظام. والنظام هو الدولة. والدولة لصاحب الدولة، فإن مسه ضرر أو استرد الله وديعته تهددت الدولة في وجودها وتزلزل الكيان وتعرض مصير الوطن لخطر قد يذهب به.
آخر النماذج المعروضة أمام العالم كله عن توحد المصير بين صاحب السلطة ومشروع الوطن، يتمثل في القرار المعلن لمحمود عباس بالاستقالة من بعض مناصبه أو رئاساته وهي عديدة: رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، رئيس المجلس المركزي لقيادة حركة فتح، رئيس دولة فلسطين (التي لا تزال في ضمير الغيب، رهينة الإرادة الأميركية المرتهنة للإرادة الإسرائيلية).
فجأة انتبه شعب فلسطين الى أن مثل هذا القرار الفردي إنما يهدد قضيته جميعاً بخطر جدي، لان السيد الرئيس ـ أي «الفرد» ـ إنما يختزل كل مؤسساته، فإن هو ذهب، لسبب أو لآخر، تعطلت جميعاً، من دون أن يكون ثمة بديل جاهز يؤمن استمرارية المؤسسات ويحمي «القضية» من خطر إضافي يتهددها في صميمها، اذ انه يفتح أبواب جهنم أمام هذا الشعب المنتشر بين الداخل وداخل الداخل، والداخل دواخل، وبين الخارج والخارج دولاً ومصالح وبين هويات مؤقتة وهويات مستعارة توزعه بين «لاجئين وعائدين» ومشردين في ديار الشتات.
[[[
نتحدث هنا عن موقع الحاكم في النظام العربي بوصفه شأناً داخلياً. لكنه في حقيقة أمره ليس كذلك: انه شأن دولي بامتياز.
لنضع جانباً موضع الخدع الديموقراطية التي توفر قدراً من الشرعية الشكلية لأي نظام قائم في هذه الدنيا العربية الواسعة… فالنظام في آخر المطاف ينتهي برأس. وللدول حق الرأي (وغالباً حق القرار) في هذا النظام، وبالذات في رأسه: فهو إما أن يكون مقبولاً فيتم التعامل معه، وإما أن يكون مرفوضاً فيمنع من الوصول بطرق شتى، فإذا ما وصل فرض عليه الحصار فصار كالوباء يتجنبه الجميع حتى لا تحل عليهم اللعنة!
حتى لا ننكأ الجراح العربية سنكتفي بشاهد من جوار دنيا العرب تابعنا معركته «الديموقراطية» التي تدار بقرار معلن للاحتلال الأميركي هو «الرئيس» الأفغاني حميد كرزاي.
لقد قرر الاحتلال إجراء انتخابات رئاسية في بلاد مضطربة، تدور فيها رحى حرب بين جيوشه الأجنبية المتحالفة، وقوى أساسية من الشعب الأفغاني الذي لم يعرف الاستقرار منذ عقود.
استقدم الاحتلال الأميركي الأمم المتحدة باعتبارها شاهد الزور الذي يعمل في خدمته، ومعها بعض الهيئات والمنظمات غير الحكومية (وهي في الغالب الأعم مشبوهة بمصادر تمويلها كما بمآل تقاريرها ودراساتها التي تذهب الى الخارج لتكشف الداخل)… واستخدم حواماته والبغال والحمير لنقل الصناديق البلاستيكية الضامنة للديموقراطية.
وليستكمل المشهد الديموقراطي دفع بمنافس مرضي عنه ومأمون كما الرئيس ـ المرشح لترشيح نفسه، فغدا شريكاً في اللعبة، وقبل إعلان النتائج جرت المساومة لإخراجه بترضية مقبولة، ولكنه أصر على «حقه» في الأصوات التي نالها! وكان لا بد للاحتلال من أن يستخدم «العرض الذي لا يمكنه رفضه» فأخرج نفسه من الميدان (حياً) … تاركاً الرئاسة لمن اختاره الاحتلال ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الأفغاني الذي يكتب تاريخ بلاده ذات الجبال بدمائه. وهكذا «انتصرت» الديموقراطية وصار مصير أفغانستان معلقاً على هذا «الرئيس» الديموقراطي في شرعية انتخابه وتمثيله لشعبه.
صار كرزاي هو أفغانستان، إن هو ذهب تهدد الاحتلال ولحق بأفغانستان المزيد من التدمير والقتل بالمجازر الجماعية ترتكبها الطائرات الحربية وكل أنواع أسلحة الإبادة البرية نصرة لديموقراطية الاحتلال.
[[[
كرزاي هو الممثل الشرعي الوحيد لشعب أفغانستان بقوة الدبابات الأميركية والطائرات الحربية والحوامات.
ومحمود عباس هو الممثل الشرعي الوحيد لشعب فلسطين، إن هو استقال أو أقيل، اعتل أو حانت ساعته، ذهبت السلطة، بل تهدد المشروع الوطني الفلسطيني بمؤسسات منظمة التحرير الوطني التي استولدها الجهاد ودماء الشهداء وأوجاع الشعب الذي شرده الاحتلال الإسرائيلي.
وعلي عبد الله صالح هو الممثل الشرعي الوحيد لشعب اليمن، حتى لو كانت سلطته وبالتالي نظامه هو المتسبب في مجمل المشكلات والأزمات المصيرية التي تعاني منها هذه الجمهورية التي قامت بدماء اليمنيين ونضالاتهم المشهودة خلال عقود طويلة، قدم خلالها آلافاً مؤلفة من الشهداء، في شماله والجنوب، والسودان مهدد في وحدته، وبالتالي في كيانه السياسي، لكن النظام الحاكم يواصل مسيرته الظافرة عبر الحروب الأهلية المشتعلة في معظم أرجائه أو الموشكة على الاشتعال.
والعراق مجهول المصير، وضع الاحتلال الأميركي يده على مصادر ثروته (النفط) وحرض العراقيين بعضهم ضد البعض الآخر، محركاً كوامن الأحقاد العنصرية وأسباب الفتنة الطائفية، فاتحاً الباب لتدخل الدول جميعاً.
لكأنما النظام، في معظم الأرض العربية، يهدد شعبه: أنا أو الوطن!
ولا خيار… اذ قد يسقط الوطن بسقوط النظام الذي يفرغ الدولة من أي مضمون، ويربط مصير الوطن بسلامته الشخصية فوق قمة النظام بينما «فروعه» تمسك بمفاصل القرار، وغالباً بحماية الأجنبي ـ محتلاً أو هيمنة بالنفوذ ـ بينما لا تكف أجهزة الإعلام عن إطلاق الأناشيد والأغاني التي تؤكد على مدار الساعة شعار لويس الرابع عشر الذي وجد الآن ترجمته العربية: أنا الدولة!
… اللهم إننا لا نسألك رد القضاء، ولكن اللطف فيه!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى