أزمة المفاوضات وانهيار المشروع الفلسطيني
سلامة كيلة
بغض النظر عمّا إذا كان إعلان مــحمود عباس عن نيته عدم الترشح في الانتخــابات التي ستجري في كانون الثاني المقبل تعبّر عن مناورة أو أنها جادة، أو أنها نتجت من الشــعور بنــهاية دوره وبالتالي قرّر أن يرحل بهدوء وليــس كما رحــل ياسر عرفات، فإن النقطة التي تستحق التوقف هي إعلانه بأن أفق المفاوضات مسدود.
هل ستخضع الولايات المتحدة لهذا «الضغط» أم أنها، على العكس، تريد «التغيير»؟ الأرجح أنها سوف تدفع نحو تنحي محمود عباس، لكي تضع شخصاً يناسب المرحلة المقبـلة. وكذلك ستفعل الدولة الصهيونية.
المهم بالنسبة لنا أن السياق الذي بدأ منذ سنة 1974 عبر الميل للتفاوض والتعايش مع الدولة الــصهيونية من خلال الوهم بقيام «دولة مستقلة» قد انكسر، فقد أعلن آخر المراهــنين بأن مراهنته فاشلة. وإذا كانت تجري الإشارة إلى «التعنت الإسرائــيلي» فإن الوقائع على الأرض، التي تتعلق بالسيطرة على الأرض والتوسع الاستيطاني، لم تعد تخفي أنها أفضت إلى حصر الفلسطينيين في الضفــة الغربية في كانتونــات لا يمكن العيــش فيها. وبالتالي لم يبــقَ من الأرض ما يكــفي حتى للإقــامة والتــحرك وليس لإقامة دولة (حـتى دون أن تكــون مســتقلة). وفي هــذا الوضــع يبدو أن الميل الأميركي الإسرائيــلي يتجه إلى فرض «الدولة المــؤقتة» على بقايا وطن وشراذم أرض، في سياق نقل المشكلة إلى مكان آخر هو الأردن، ربما عبر التكرار الهزلي لمهزلة الوحدة بعد ضياع فلسطين سنة 1948.
بمعنى أن اكتشاف الوهم احتاج إلى أن «تفـقأ الوقائع كل عين»، لتأتي المناورة (إذا كان هذا هو هدف أبو مازن) لفــصل هزلي. لكن السؤال الذي يطرح ذاته هو: هل فعلاً سوف يفضي الوصـول إلى أن المفاوضات عبثية إلى تغيير الوجهة؟ أي، وهنا، العودة إلى المقاومة خياراً وحيداً في مواجهة كيان قرّر منذ زمن بعيد أن يفرض وجوده البشري والسياسي على كل فلسطين، وأبعد؟ في الغالب ليس من السهل تحقق هذا التحوّل، نتيجة «الترابط الاقتصادي» (الكومبرادوري) الذي بات يحكم قطاع ممن أصبح هو السلطة، محولاً إياها إلى سلطة كومبرادورية.
البديل من المقاومة هو ما بات يتكرر منذ مدة على لسان بعض قادة السلطة، وهو التلويح بطرح حل الدولة ثنائية القومية، أي الدولة الواحدة. ولقد استخدم هذا الطرح، ويبدو أنه ما زال يستــخدم، كتخويف للدولة الصهيونية، على أساس أن هذا الطرح يقود إلى إفشال «يهودية الدولة». حيث كان سري نسيبة قد طرحه نتيجة فشل المفاوضات منذ أكثر من عام، كما لوّح أبو علاء به بعدئذ، وأعاد صائب عريقات التلويح به خلال الأيام الماضية، وليلة إعلان أبو مازن نيته عدم الترشح.
وأشير إلى أن هذا البديل ربما يكون كمثل نية أبو مازن، بمعنى أنه يأتي في سياق عملي وصل إلى اللحظة التي بات طرح إنهاء «هدف» حل الدولتين والميل للتركيز على الدولة الواحدة الثنائية القومية، التي هي طبعاً الدولة الصهيونية. فهذا الطرح ينطلق من تحويل «النضال» من نضال من أجل الدولة المستقلة إلى «النضال» من أجل المساواة في المواطنة في إطار دولة واحدة. وهو «نضال» سلمي و«ديموقراطي» طبعاً. وهنا ينضــم هؤلاء إلى «نضال» الحزب الشيــوعي الإسرائيلي و«الــيسار الإسرائيلي» من أجل المسـاواة في المواطنة والحقوق القــومية. لكن يكــون قد جرى الاعتراف بكون فلسطين كلها هي الدولة الصهيونية، على أمل أن تقود المســاواة إلى إزالة الطابع اليهودي عن الدولة، ويجري تجاوز الأيديولوجية الصهيونيـة. وهذه هي الـلحظة الأخطر، لأنها تأتي من «الممــثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني» وليس من جزء من عصبة التحرر الوطني (الحزب الشيوعي) كما كان سنة 1948. حيث إنها تكرس «شرعية» السيطرة على الأرض كما يجري الآن في الأرض المحتلة سنة 1948، انطلاقاً من أنها أرض الدولة الصهيونية بغض النظر عن مالكها الراهن. كما تكرس الحصر في كانتونات تقوم على التمييز العنصري، وتجعل السكان أكثر فأكثر في وضع رث نتيجة الغلق الاقتصادي، وتدمير الزراعة والصناعة. وبالأساس تكرس فلسطين كدولة «يهودية».
وربما يكون الترابط الاقتصادي بالنسبة لرجالات الســلطة يفرض هذا الخيار خياراً بديلاً من الدولة المستقلة، لكن يجب أن يكون الاستنتاج من فشل المفاوضات هو فهم أن الدولة الصهيونــية ليست في وارد تقديم شيء للفلسطينيين، أي شيء حتى حق المواطنة كاملاً، وبالتالي يجب أن تتأسس كل استراتيجية أخرى على هذا الأساس. بمعنى أن الدولة الصهيونية تعمل بشكل حثيث لفرض ما يخطط له القادة منذ زمن بعيد، الذين يرون أن مشروعهم لا يكتمل دون أن يحقق الهيمنة المطلقة في المنطقة وليس في فلسطين فقط، وإلا فلسوف يزول. هذا «التحدي» هو الذي يحكم كل سياسات الدولة الصهـيونية، الذي يفرض أن تظل قوة أقوى وتسيطر على محيط مناسب لضمان وجوده وتطوره.
هذه المسائل هي البديهيات، ومخالفتها هي التي أفضت إلى انهيار كل المشروع الفلسطيني. وإذا كانت المراهنة تتحــدد في الدور الأميركي، فقد توضح بأن الولايات المتحدة هي مع الدولة الصهـيونية. وربما هذا هو الذي «فاجأ» أبو مازن بعد تصريحات هيلاري كلينتون عن دعم سياسة نتنياهو المتعلقة بالاستيطان في زيارتها الأخيرة إلى الدولة الصهيونية. لكن هذه من البديهيات كذلك، لأن الدولة الصهيونية هي مرتكز إمبريالي وليست دولة مستقلة، وسياستها هي السياسة الإمبريالية.
كل ذلك يعني أن البديل يجب أن ينطلق من إعادة صياغة الاستراتيجية الفلسطينية على أساس تطوير الصراع ضد المشروع الصهيوني، وبالتالي فكفكة كل ما نتج من سياسة الحــل المرحلي المفضي إلى اتفاق أوسلو وقيام سلطـة تابعة تــكرس الوجود الصهيوني والسيطرة الصهيونية على كل فلسطين. إن إعلان أبو مازن يوضح أن لا خيار غير ذلك، وكل خيار آخر سوف يفـضي إلى الفشل ذاته.
السفير