انحسار الطلب الخارجي على… الديموقراطية
سمير الزين
من مفارقات الوضع العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين، أن «بازار» الديموقراطية فُتح للمنافسة بين العالم الخارجي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وبين أنظمة داخلية شمولية استبدادية تحدثت عن إصلاحات داخلية أقل من شكلية لمواجهة ضغوط قادمة من وراء الحدود. وبدت المطالب الديموقراطية في المنطقة وكأنها اكتشاف القرن الحادي والعشرين لحل المشكلات الداخلية للعالم العربي، الذي أطلق عليه بريجنسكي تعبير «بلقان العالم». فقد ظهر العالم العربي بوصفه تقاطع بؤر التوتر الدولية. وكأنه كان على العالم العربي أن ينتظر كارثة 11 أيلول، حتى يكتشف جبار العالم أن الديموقراطية تصلح لحل مشكلات المنطقة، خاصة عبر الديموقراطية المحمولة على الدبابة الأميركية، أو تلك التي تأتي عبر ضغوط أميركية وتصميم أميركي.
مفارقة أخرى أفرزها الوضع مطلع القرن الحادي والعشرين، وهي علاقة النخبة العربية بقضية الديموقراطية بعد المطلب الأميركي بالإصلاح من الأنظمة العربية، فالنقاش بين المثقفين العرب انقسم، بين من يعيد النظر في وجهة نظره في قضية الديموقــراطية ليتراجع عن تأييدها لأنــها باتت مــطلباً أمــيركياً، وباتت تشكل عنواناً للعمالة، وأن الأنظمة العربية حتى بنماذجها الأسوأ أفضل من الاحتلال. وبين من فقد الثقة بإمكانية امتلاك المجتمعات العربية قدرة التغيير الداخلي، ما يجعله يعتبر أن الأنظمة الاستــبدادية في العــالم العــربي أقوى من أن يتم التأثير عليـها داخلياً. ويـبدو من وجــهة نظر هؤلاء أن هذه الأنظمة الاستبدادية التي عاشت عشرات السنوات في المنطقة من دون أن تتعرض لخــطر داخلي حقــيقي، لا يمكن التأثير عليها وإسقـاطها، إلا بمساعدة خارجية، أو بفعل خارجي. فالداخل عاجــز عن الفعل على هذا المستوى. وليــس غريــباً أن وجدنــا مثقفين عرباً يعادون الولايات المتحدة فعلاً وليس ادّعاءً، عبروا عن نفاد صبرهم ويتساءلون متى تأتي الولايات المتحدة لتخلصنا من أنظمة الخراب الاستبدادية؟ وعلى قاعدة التبسيط، إن الخراب الذي ستجلبه الولايات المتحدة لا يمكن أن يكون أسوأ من الخراب الذي جلبته الأنظمة العربية لدولها.
إن الطريقة الاستقطابية التي تم طرح القضية من خلالها، أما أن نكون مع التدخل الخارجي أو نقف مع الاستبداد، ليست طريقة خاطئة فحسب، بل تجاوزتها الأحداث. فلم تعد قضية الديموقراطية في العالم العربي هي الشغل الشاغل للإدارة الأميركية التي على رأسها باراك أوباما. وبالتالي تلك المعادلة التي سادت في السنوات الأولى من هذا القرن لم تعد موجودة. وبالتالي عادت المسألة إلى سياقها الطبيعي، أو هكذا يجب أن يكون.
رغم انتصار الاستبداد والأنظمة الشمولية في الدول العربية بعد الاســتقلال، فإن دعـاة الحرية والديمــوقراطية الذين دفعــوا ثمناً غالياً يعدون بعشرات الآلاف. ولم تغب يوماً دعوات الحرية والديموقراطية عن المنطقة، مع أنها ضعفت في بعض الأوقات.
يجب إعادة القضية إلى سياقها وموقعها الطبيعي والصحيح على الأجندة الوطنية للدول العربية، من دون إغفال التعقيدات التي استجدت عليها من خلال الدخول الأميركي المباشر عليها، والذي نعتقد أنه يعوق قضية الديموقراطية في العالم العربي، بدل المساعدة على تحويلها لواقع قائم كما تُصور الولايات المتحدة قبل سنوات قليلة.
تحتاج العملية الديموقراطية الشاملة والمتكاملة إلى قيم، حتى تتحول إلى آلية راسخة، من احترام الفرد، وضمان حريته، وحقه في التعبير عن رأيه، إلى حقه في تشكيل التجمعات التي يرغب فيها، إلى حق النقد، وحقه في حماية حياته الخاصة… الخ. كل ذلك يحتاج إلى إقرار وحفظ عبر دستور ناظم للحياة العامة. مروراً بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية التي تحميه من الضغوط، وصولاً إلى تعزيز الديموقراطية عبر التعليم وعبر مؤسسات المجتمع المدني الذي يقف في وجه تعسف الدولة، وهذه المطالب هي في أعلى أولويات الأجندة السياسية للدول العربية، للرد على واقع يتردى منذ عقود، ومجتمعات تتفكك بفعل قبضة الاستبداد.
ولأن المجتمعات نتاج تاريخها وتتحرك انطلاقاً من هذا التاريخ ووفق معطياته، أكثر مما تتحرك بفعل العوامل الخارجية، رغم أن العامل الخارجي بات جزءاً من الحياة السياسية الداخلية للدول، في سياق تزايد السياسات التدخلية، ما حول العامل الخارجي إلى قضية داخلية بامتياز. ولكن يبقى الداخل عاملاً محدداً لكيفية استقبال التأثير الخارجي، خاصة إذا كان الداخل مالكاً لسلم أولويات واضحة وقادراً على تقديمها عبر أجندة تحرص على مصالح البشر. وهذا لا يعني أن الخارج في مثل هذه الحالة لا يتدخل، بل هو يتدخل في كل الحالات، ولكن وجود مجتمع قادر على التعبير عن نفسه بشفافية يجعل التدخل الخارجي أكثر صعوبة. ولا يمكن إنجاز أية اختراقات ديموقراطية حقيقية،من دون العمل من خلال التاريخ الوطني، وأن تكون العملية استجابة إلى حاجات داخلية, تعتمد شروطاً أفرزتها المجتمعات العربية، رغم ما يظهره الواقع العربي من حالة عجز غير مسبوقة.
لا تبشر التجربة الحديثة والمعاصرة للعالم العربي والسابقة على الدخول الأميركي على قضية الديموقراطية بالتفاؤل، فمع تجربة الانقلابات العسكرية التي تلت الاستقلال مباشرة، تمت عسكرة السياسة، التي أصبحت تدار من الثكنات، حيث قبض الجيش على السلطة وأخرج المجتمع من العمل السياسي، مما ألغى عملياً العمل السياسي، وفرض لوناً سياسياً واحداً. وكان مصير الألوان السياسية الأخرى الإعدام الفعلي والمعنوي. فتم إلغاء المعارضة السياسية نهائياً لأنها تعمل عبر مؤامرة خارجية لهدم الأنظمة «الوطنية». كانت المهمة الأولى التي قام بها العسكر الذين استولوا على السياسة ومن ثم على المجتمع، إلغاء التعبيرات الديموقراطية الهشة التي عرفتها هذه البلدان في سياق صراعها مع التجربة الاستعمارية، على قاعدة أن الديموقراطية «بدعة استعمارية»، وأن الدول «المتحررة» حديثاً لا تحتاج «ترف الديموقراطية» فهي بحاجة أولاً للخبز والديموقراطية تستطيع الانتظار.
في ظل عسكرة السياسة وعسكرة الدولة واحتكار الوطنية من قبل العسكر، وجد المثقف العربي نفسه في ظل معركة أسوأ من تلك التي كانت قائمة في زمن الاستعمار، خاصة مع تضخم الدولة على حساب المجتمع. فقد تقلصت الهوامش، وتلاشت وسحقت في العديد من الدول ذات التاريخ «الديموقراطي»، وأصبح للتعبير عن أي رأي معارض ثمن باهظ، من قتل وسجن وحصار ونفي… الخ. مما جعل المثقف العربي يفقد الأمان، وأصبح مستقبله غامضاً يتعلق أساساً بمزاج عسكر السلطة، وأصبح أسير ثنائية قاتلة، إما مسايرة العسكر أو الفرار من الوطن.
عمل الاستبداد على تغييب المجتمع, وبالتالي غياب المثقف الذي كان حاضراً بقوة في تجربة الصراع مع الاستعمار، ولم يبق من «المثقفين» سوى أبواق للسلطات القائمة، أو الذين يمارسون النقد المعمم الذي لا يصيب أية دولة على الإطلاق ولا يؤذي أحداً. وفي ظل هذه الأوضاع يستحيل ظهور المثقف النقدي المؤثر في المجتمع والسلطة. لأن قدرة المثقف على التأثير لا ترتبط برغباته أو بإرادته فحسب، بقدر ما ترتبط بمعطيات موضوعية تجعل هذا الدور ممكناً.
[ كاتب من فلسطين
السفير