أميركا والعالم: شركاء أم “ملازمون”؟!
نعوم تشومسكي
تعتمد كلّ دولة قوية على خبراء تتمحور مهمّتهم حول إظهار أعمال الدولة القويّة على أنها أعمال نبيلة وعادلة، والإيحاء بأنه، وإن عانى الطرف الضعيف جرّاء هذه الأعمال، فالذنب ذنبه. وفي الغرب، يُطلق على هؤلاء الخبراء “مثقفون”، وهم يؤدّون مهمّتهم بمهارة معتقدين أنهم أقوم أخلاقاً من الآخرين، وضمن إطار ممارسة سائدة منذ بدايات التاريخ المدوّن.
وكما نعلم، فإنّ انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي يُرمز إليه بسقوط جدار برلين، جعل الولايات المتحدة الأميركية القوة الأعظم في العالم. وفي غضون أشهر، رسمت إدارة بوش الأب المسار الجديد الذي ستسلكه واشنطن، والذي يبقي الأمور على حالها تقريباً، مع اعتماد حجج جديدة. ما زلنا بحاجة إلى نظام عسكري هائل، لكن لسبب جديد ألا وهو “التطور التكنولوجي” الذي تحرزه بلدان العالم الثالث، يجدر بنا الحفاظ على “قاعدة دفاع صناعية”، وهو تعبير ملطّف يُشير إلى “المجمع العسكري الصناعي”.
كما علينا إبقاء قوّات التدخّل موجّهة نحو الشرق الأوسط بصفة خاصة، حيث “لا يمكن إلقاء لوم” التهديدات الكبيرة “على ظهر الكرملين”، خلافاً لما جرى خلال عقود من الخداع.
ثم ذهبت إدارة جورج بوش الابن إلى أبعد الحدود في ميلها للحلول العسكرية وفي الازدراء المتغطرس. وقد أدينت بقسوة على ممارساتها حتى من قبل أكبر داعميها. أمّا العهد الرئاسي الثاني لبوش فكان أكثر اعتدالاً، إذ تم استبعاد بعض الأوجه المتطرّفة.
ومع تسلّم أوباما مقاليد السلطة، توقّعت “رايس” أن ينتهج المنحى ذاته الذي اعتمده بوش خلال عهده الثاني، وكانت محقة في توقّعاتها، باستثناء أسلوب أوباما (المتكلف) الذي جذب العالم بأسره.
ثمة تباين جوهري بين إدارتي بوش وأوباما حول أمر سبق أن عبّر عنه مستشار في إدارة كنيدي في حقبة مختلفة، وتحديداً إبّان أزمة الصواريخ الكوبية. في ذلك الوقت، كان المخطّطون في إدارة كنيدي يتّخذون قرارات من شأنها تهديد وجود بريطانيا دون علم من لندن. عندها، عرّف المستشار “العلاقة المميزة” مع بريطانيا قائلاً: “بريطانيا ملازمنا، والكلمة الرائجة هي شريكتنا”.
كذلك، توجّهت إدارة بوش إلى العالم باعتباره “ملازمها”. وبالتالي، فعندما أعلنوا اجتياح العراق، خيّروا الأمم المتحدة بين اتّباع أوامر واشنطن أو البقاء “غير معنيّة بالموضوع”!
غير أن المنحى الذي يسلكه أوباما مختلفاً. فهو يرحّب بكلّ لباقة بقادة العالم وشعوبه على أنهم “شركاء”، ويستمرّ سرّاً بمعاملتهم على أنهم “ملازمون”.
من جهة أخرى، يبقى نظام العالم الحالي أحادي القطبية في بُعد واحد ألا وهو حلبة القوّة. فالولايات المتحدة تنفق على تجهيزاتها العسكرية مبالغ تضاهي إنفاق دول العالم الأخرى مجتمعةً، بالإضافة لكونها أكثر تطوراً منها بأشواط في مجال تكنولوجيا الدمار. كما أنها وحدها تملك مئات القواعد العسكرية خارج حدودها. ويمثل “الناتو” جزءاً من عدّة الحرب الباردة التي يستطيع أوباما نشرها. فبعد الحرب الباردة، توسّع “الناتو” بشكل متصلب نحو الشرق والجنوب، ويبدو أن أوباما ينوي المضي قدماً في هذا التوسّع.
ومنذ بضعة أسابيع، أعلنت إدارة أوباما عن إعادة تسوية للمنظومة الأميركية المضادة للقذائف في أوروبا الشرقية، ما أثار موجة كبيرة من التعليقات والنقاش، أبعدت تماماً، وبمهارة، التفكير حول الموضوع الأساسي.
يتمّ الترويج لهذه المنظومة على أنها دفاع ضد الهجمات الإيرانية. لكن يستحيل لهذه الحجة أن تكون الدافع الفعلي وراء إنشاء هذه المنظومة. فاحتمال أن تنفذ إيران اعتداءً بالصواريخ، مماثل لاحتمال أن يرتطم كوكب سيّار بالأرض!
لذلك فإن المنظومة الأميركية المضادة للقذائف، إنما تهدف إلى تجنّب أي ثأر جرّاء أي اعتداء أميركي أو إسرائيلي على إيران. وهو أمر تعيه الأطراف كافة، لكن يبدو وكأنه يستحسن إبقاؤه في الظلّ.
قد تشكّل خطة أوباما استفزازاً أقلّ لروسيا، وهي لا تهدف للدفاع عن أوروبا، إلا كردة فعل على ضربة أميركية أو إسرائيلية أولى ضدّ إيران.
إنّ الاحتجاج على إيران يغضّ النظر عن إعفاء الاتفاق النووي الهندي الأميركي من قرار الأمم المتحدة الصادر حديثاً حول معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. كذلك ردت إسرائيل بالرفض على دعوات الوكالة الدولية للطاقة الذرية لها كي تنضم إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وإخضاع منشآتها النووية للتفتيش… وهو رفض تولت حمايته الولايات المتحدة وأوروبا.
ورغم أن العالم أحادي القطبية عسكرياً، فإنه منذ سبعينيات القرن الفائت، أصبح ثلاثي القطبية اقتصادياً، إذ ثمة مراكز متشابهة في كلّ من شمال أميركا، وأوروبا، وشمال شرقي آسيا. وقد أصبح الاقتصاد العالمي أكثر تنوّعاً، لاسيما في ظلّ نمو الاقتصاديات الآسيوية.
ومن هنا، نرى بأن العالم يتجه لأن يكون متعدّد القطبية فعلاً من الناحيتين السياسية والاقتصادية، رغم مقاومة القوة الأعظم، فسيتمّ إحداث تغيير تقدّمي في التاريخ.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “نيويورك تايمز”
الاتحاد