لماذا لا تعترف أمريكا بدولة فلسطين؟
ميشيل كيلو
تراجعت أمريكا أمام أطماع “إسرائيل” الاستيطانية، وبررت ذلك بحجة واهية هي أن مشكلة الاستيطان ستحل عند رسم الحدود النهائية للدولة الفلسطينية. هذا التبرير له معنى من ثلاثة:
إما أن قيام الدولة الفلسطينية ورسم حدودها ليس قريباً. لو كان قريباً، لوجب أن يقول الأمريكيون ل “الإسرائيليين”: يا جماعة ما محرزة. أنتم ستنسحبون من المستوطنات بعد فترة قصيرة، فلماذا تكبدون دافع الضرائب الأمريكي كل هذه النفقات؟ ولماذا تخلقون هذا الإشكال المتفجر مع الشعب الفلسطيني اليوم ومع مئات آلاف المستوطنين “الإسرائيليين” غدا، مع أنكم ستتخلون عن المستوطنات وسترحلون عن الأرض الفلسطينية؟
وإما أن المستوطنات ستبقى رغم قيام الدولة الفلسطينية. وكانت فكرة بقائها قد طرحت، وإن بصورة غير نهائية، مرات متعددة، فقيل تارة بتبادل أراض يعطي الفلسطينيين جزءاً في صحراء النقب مقابل أراضي الضفة الغربية التي استولى عليها المستوطنون، أو يخضع المستوطنات لسيادة “إسرائيلية”، أو “إسرائيلية” فلسطينية مزدوجة، بصورة دائمة أو لفترة محدودة، مقابل ترضية ما للدولة الفلسطينية.
وإما أن الموقف الأمريكي من الاستيطان مراوغ وكاذب، هدفه الحقيقي منح “إسرائيل” الوقت الكافي لخلق حقائق على الأرض يصعب تغييرها، يمكن لاحقاً إقناع بقية الدول الكبرى بها، بحجة أن المشكلات التي ستترتب على إزالة الاستيطان أكثر من تلك التي ستنشأ عن استمراره، وأنه يمكن إخضاعه لسيادة مزدوجة فلسطينية “إسرائيلية”، أو لسلطة الدولة الفلسطينية، تحت إشراف ورقابة دوليين.
أما أساس الفساد في الموقف الأمريكي من الاستيطان فهو كامن في موقف واشنطن من الدولة الفلسطينية، التي كثيرا ما قيل إنها خيار أمريكا، وإلا لما كانت تبنت ما تسميه “حل الدولتين”.
ثمة فساد في موقف واشنطن من الدولة الفلسطينية، تفسره حقيقة أن حل الدولتين ليس جديدا، وأنه الحل الذي تبناه قرار التقسيم عام ،1947 قبل اثنين وستين عاماً. مع ذلك، وبهمة واشنطن والأنظمة العربية و”جيش الدفاع الإسرائيلي”، قامت دولة واحدة على أرض فلسطين التاريخية هي “إسرائيل”، ولم تقم الدولة الأخرى، العربية الفلسطينية، وخسرت، بتأييد أمريكا وتغطيتها، نصف الأرض الوطنية المخصصة لها في قرار التقسيم. هل كانت أمريكا يومئذ ضد قيام الدولة الفلسطينية؟. إنها لم تعلن يوماً أي موقف رسمي ضد قرار التقسيم، ولم يسمع أحد تصريحا أمريكياً واحداً يقول إن قرارات الأمم المتحدة ليست واجبة النفاذ، وإن تطبيقها يتوقف على رغبة ومصالح “إسرائيل”؟ لقد أيدت واشنطن قرار التقسيم، أي أنها أيدت قيام الدولة الفلسطينية إلى جانب “إسرائيل” واعترفت بوجودها وإن لم تقم علاقات دبلوماسية معها. وهذا كان ببساطة “حل الدولتين” الدولي، فلماذا لا تتوقف عن تمنيننا بأكذوبة أنه حل أمريكي، وأن أمريكا وافقت عليه مؤخراً، أيام جورج بوش، وأن باراك أوباما تبناه بدوره .
وافقت أمريكا على حل الدولتين وكانت أشد الدول تحمساً، حين صدر قرار تقسيم فلسطين عام 1947. لكنها منعت تطبيقه قرابة ثلثي قرن. فما ومن الذي يضمن أن لا تواصل منع تطبيقه اليوم أيضا؟ وكيف يمكن قراءة موقفها من الاستيطان خارج سياق جهودها لمنع قيام دولة عربية في فلسطين، رغم قبولها اللفظي، القديم جدا، بوجودها؟ لو كانت أمريكا صادقة في مسألة حل الدولتين، لأعلنت اعترافها الدبلوماسي الكامل بالدولة الفلسطينية، ولأعلمت “إسرائيل” أنها ستعاملها من الاعتراف فصاعدا كدولة تحتل أراضي دولة أخرى، وأن عليها تفكيك مستوطناتها خلال فترة محددة، يعينها قرار دولي يصدر باقتراح أمريكي يدين “إسرائيل” ويعتبر الاستيطان عدوانا على أراضي وسيادة دولة فلسطين العربية. لكن أمريكا لا تفعل هذا، وتعمل في اتجاه معاكس له، مما يثير الشكوك في حقيقة نواياها ويلقي بظلال كثيفة من التوجس والريبة على مساعيها. بالمناسبة: لماذا لا تطالب السلطة الفلسطينية أمريكا بإعلان اعترافها الدبلوماسي بالدولة الفلسطينية في حدود عام ،1967 إذا كانت صادقة في تطبيق قرارات الأمم المتحدة في الموضوع الفلسطيني، وتعمل حقا من أجل حل الدولتين، أي لإقامة دولة فلسطينية على كامل أرضها الوطنية. أليس اعتراف أمريكا بالدولة الفلسطينية هو المدخل إلى السلام، الذي أعلنت واشنطن مرات عديدة أنها تبحث عنه من أجل بدء مفاوضات تتولى تحقيقه؟ إن اعتراف أمريكا بدولة فلسطين، والتقيد بما يترتب عليه من التزامات دولية ضد الاحتلال “الإسرائيلي”، هو معيار صدق موقفها من حل الدولتين، وعملية السلام عموماً. أما موقفها الحالي، الذي يرفض الاعتراف بدولة فلسطين، ويرى في أراضيها مناطق متنازعا عليها ل “إسرائيل” حق الاستيطان حيثما تشاء منها، وحق إجبار الدولة الفلسطينية، بالقوة أو بالتفاوض، على قبول التنازل عنها، فهو موقف يدمر حل الدولتين ويحوله إلى مطلب كلامي يتناقض جذريا مع ما كان يجب أن يترتب عليه من أفعال لصالح دولة فلسطين، منذ عام 1947 إلى اليوم.
تحاول السيدة كلينتون بيعنا بضاعة فاسدة تسميها حل الدولتين، يشجعها على ذلك وضع عربي شديد البؤس، ووضع فلسطيني أشد بؤسا وتهافتا. والآن: إذا كانت أمريكا و”إسرائيل” وحكومات العرب ومنظمات الفلسطينيين ضد فلسطين وقضيتها ودولتها، من أين سيأتي حل الدولتين؟ ومن ذا الذي سيفكر هناك وسيتمكن هنا من تطبيقه ومن وقف الاستيطان؟.
ليست فلسطين اليوم في متناول يد أحد غير يد “إسرائيل”. عندما ستصير في متناول أيدي شعبها وأمتها العربية، لن يتبجح أوباما أو غيره بقبول حل الدولتين بينما الاستيطان قائم على قدم وساق، وسيسارع إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وسيعتبرها قائمة بالفعل وليست فكرة في ضمير الغيب، وسيكون له شأن آخر مع “إسرائيل”، التي لن تتمكن عندئذ من القفز فوق خيالها، مثلما تفعل الآن، وستنفذ ما يريده عن يد وهي صاغرة .
لكن العرب في واد وفلسطين في واد. وفلسطين في واد ومنظماتها في واد آخر. فمن أين تأتي الحلول العادلة؟. ومن الذي سيوقف الحلول الجارية، التي تصهين القليل من أرض فلسطين، الذي لم تأخذه “إسرائيل” عليه عام ،1948 مع أنها فعلت ذلك بالأمس رغم وجود قرار ملزم بإقامة دولة فلسطينية، وتفعله اليوم في ظل كلام يترك لها حرية فعل ما تشاء، من دون أي التزام أمريكي بما يمكن أن يقرب فلسطين من أي حل عادل.
الخليج