صفحات سورية

الأسد وساركوزي والقراءة في كتاب واحد

null
خليل حسين
تأتي زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى فرنسا في الثاني عشر من الشهر الحالي، في سياق سياسة خارجية سورية وفرنسية، بدأها الجانبان مؤخراً، بعد توتر في العلاقات كان سببها القرار الدولي 1559 المتعلق بلبنان. وفي واقع الأمر ارتدت العلاقة بين الجانبين لبوس الغموض والتوجّس في بعض الحالات التي دخل فيها أطراف آخرون على خط معالجة بعض القضايا ذات الصلة بالشؤون الاستراتيجية، أو التي تمسُّ مصالح البلدين بشكل مباشر. فالقراءة الدقيقة لبعض محطات العلاقة تظهر عدداً من الأسباب والعوامل التي ساعدت في استقرارها أو تأزمها، فما هي هذه العوامل؟ وكيف تعاطى الطرفان معها؟ وما هي الظروف المستجدّة التي ستظهّر نتائج الزيارة؟
بالطبع ليست زيارة الرئيس بشار الأسد هي سابقة في نوعها أو توقيتها أو الأهداف المتوخاة منها، بل هي الرابعة، بدأها في العام 1999 قبل وصوله لسدّة الرئاسة، وأتبعها بزيارتين رئاسيتين. وإذا كانت البداية في عهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك التي وصفت بأنها الإطلالة الدولية الأولى له، لم تستمر كما هدفت لها دمشق، نتيجة سياسات شيراك لاحقاً ومضيه وراء السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط وبالتحديد القرار ،1559 رغم محاولة التمايز الفرنسي آنذاك.
فسوريا التي حوصرت سياسياً في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش، تمكّنت في ما بعد من هضم سياسة العقوبات والتهميش، وفتحت كوة كبيرة في جدار سياسة العزل المفروضة عليها، عبر عدة وسائل وأذرع في سياستها الخارجية، الأمر الذي كان مؤشراً واضحاً عرفت باريس كيف تتلقفه والبناء عليه. فكانت زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لدمشق منعطفاً لافتاً لمستقبل العلاقات بين البلدين، فيما توجها حضور الأسد لقمة دول الاتحاد من أجل المتوسط، التي شهدت مواقف وإشارات واضحة في غير ملف من بينها الشراكة السورية  الأوروبية ومتطلباتها.
وإذا كانت هذه المستجدات، المنطلقات المبدئية لإعادة رسم صورة ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الجانبين، فإن عاملاً آخر يبدو مساعداً، بل دافعاً إضافياً لذلك، وهو رتابة الحوار الأمريكي  السوري وعدم تقدّمه كما رغب وأوحى به الرئيس باراك أوباما. فواشنطن التي لعبت دوراً أساسياً في توتير العلاقة بين دمشق وباريس بعد احتلالها للعراق، عادت وضمن استراتيجية خارجية وضعت سوريا في لائحة الدول التي يمكن الحوار معها لأهداف كثيرة ومتنوعة ليست بالضرورة مرتبطة بالمصالح المباشرة للبلدين، وإنما لملفات لها علاقة بدول أخرى كالعراق ولبنان وغيرهما، ورغم ذلك لم تقدم واشنطن الشيء العملي الذي يرضي سوريا ومن بينها ملفات الصراع العربي  “الإسرائيلي” وملفات السلام، واكتفت بمطالب ابتعادها عن طهران وما يرتبط به من قضايا، مقابل وعود السلام وسبع زيارات لوفود أمريكية إلى دمشق لم تثمر شيئاً يُصرف في السياسة.
في الواقع، ثمَّة رغبة فرنسية وسورية مشتركة لقيام علاقات متميّزة من منطلق مصالح متقاطعة في أغلب الأحيان والحالات. فمن حيث المبدأ ما زالت باريس تعتبر المشرق العربي حلماً دفيناً في سياستها الخارجية يصعب عليها تركه، وهي بالتالي تحتاج إلى موطئ قدم سياسي للعودة إلى الساحة الدولية من الأبواب المشرقية الفاعلة، فهي وإن لم تتمكن من الاستحواذ على ذلك عبر البوابة اللبنانية مباشرة، فهي تدرك أن مفتاح ذلك هو دمشق لا غيرها. في المقابل، إن عدم قدرة الولايات المتحدة على تقديم ولو القليل جعل من سوريا وبشكل دائم تواقة للبحث عن خيارات دولية أخرى فاعلة نسبياً للاتكاء عليها في حالات الضغوط والمطالب والمواقف الصعبة، وهي سياسة سورية مستقرة منذ بداية السبعينات وقادها الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي ترجمها في زيارة دولة لباريس رغم ندرة زياراته الخارجية، التي أعطت انطباعاً متمايزاً لمستقبل العلاقات السورية  الفرنسية آنذاك.
وإذا كان الإطار العام يبدو بهذا الشكل من تقاطع المصالح في الفترات السابقة، فثمة ملفات يمكن أن تلعب فيها دمشق دوراً ما في هذه المرحلة، ومن هنا تأتي زيارة الرئيس بشار الأسد، في هذه المرحلة لتعطيها أبعاداً إضافية ذات قيمة لبعض ملفات المنطقة. ومن بينها ملف البرنامج النووي الإيراني والتحفظ الإيراني على الدور الفرنسي في مشروع التخصيب الروسي  الفرنسي المشترك. ومشروع تشكيل الحكومة اللبنانية، والوضع العراقي، إضافة إلى ملفات السلام وغيرها.
ففي الوقت الذي لم تصل فيه محادثات فيينا بين إيران ومجوعة الستة وكذلك عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، سوى لموافقة إيرانية مشروطة للتخصيب الخارجي مع التحفظ على الدور الفرنسي، يمكن لباريس استثمار الزيارة في هذا الملف عبر إمكانية وساطة سورية مع طهران لإيجاد مخارج لذلك، سيما وان إشارات متعددة أطلقت في السابق لهذه الخيارات. وفي واقع الأمر ورغم حساسية هذا الموضوع لطهران، فثمة مصالح استراتيجية سورية  إيرانية مشتركة تسمح لدمشق بإمكانية الولوج في تلك المحاولات بصرف النظر عن حجم أو فاعلية التأثير ونهاياته المرجوة للأطراف.
في مقابل ذلك، ثمَّة تصريحات للرئيس السوري في مجال مشاريع السلام لها دلالات لافتة أطلقها إبان زيارته لكرواتيا، من بينها أن سوريا تفتقد إلى الشريك الآخر للسلام في ظل حكومة نتنياهو، وبالتالي ليس بمقدور الولايات المتحدة تقديم شيء يذكر في هذا المجال ولو في حدود الرعاية، أليست رسالة واضحة لواشنطن بعدم قدرتها على أن تكون راعية، وهل أن زيارة الأسد لباريس إشارة لمن يعنيهم الأمر للقيام بفعل ما في أجواء ضبابية تلف المنطقة برمتها. كما أن إشارة الرئيس السوري بشار الأسد، في إحدى تصريحاته الأخيرة، “بأن سوريا شعبياً ورسمياً” مستعدة للسلام، هي سابقة في هذا المجال، لجهة ذكره أنَّ السلام هو مطلب شعبي وليس رسمياً فقط، فهل تتلقف باريس هذه الإشارة وتبني عليها؟
لقد اتكأت السياستان السورية والفرنسية على مصالح متقاطعة تكتيكياً واستراتيجياً، وتمكَّن كلا الطرفين من تحقيق مكاسب مهمة في حالات كثيرة، فهل تعيد هذه الزيارة بناء ما تصدَّع في فترات سابقة؟ يبدو أن الطرفين بحاجة للقراءة في كتاب واحد بصرف النظر عن حجم الإنجازات التي يمكن أن تتحقق، لكن الرغبة متوفرة لدى الطرفين بالتأكيد. فالرئيس ساركوزي علق آمالاً كثيرة على السياسة الخارجية السورية، بخاصة بعد خروجها من لبنان، وهذا ما دفعه لزيارة دمشق في عز المحاولات الأمريكية لعزلها، الأمر الذي عرفت سوريا كيف تقرأه وتعيد إنتاجه في مواقف وسياسات اعتادت عليها ولو في أحلك الظروف.

أستاذ المنظمات والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى