ما يحدث في لبنان

موعد مع الهاوية

null

غسان شربل: الحياة 8/5/2008

كنا نعتقد بأن الحرب لن ترجع. وان اللبنانيين لن يسقطوا مرة جديدة في فخها. وأنهم استخلصوا الدروس والعبر. وخبروا المآسي والويلات. وتعلموا من مشاهد الجنازات ورصاص الوداع. واستمعوا الى آلام اليتامى والأرامل والثكالى.

كنا نعتقد بأن اللبنانيين قرأوا في كتاب الحرب التي اقامت طويلاً. وان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. واننا أسوة بشعوب اخرى. نسقط في التجربة فنتعلم منها. وان القراءة تمنحنا حصانة ضد اغراء تكرار محاولات الانتحار. وان الجيل الذي ذاق المرارات سيحاول تجنيب الجيل المقبل مهمة تجريب المجرب.

عليك ان تحسن الظن بشعبك. لا يجوز ان تسارع الى إشهار يأسك منه. لا يجوز ان تغسل يديك. ثم انهم درجوا على القول ان اللبنانيين شعب ذكي. وانا لا انكر براعتهم كأفراد. لكنني اخشى ان يكونوا أفراداً ناجحين من شعب فاشل.

هاجمتني هذه المشاعر البارحة وأنا اشاهد شباناً يتبادلون اطلاق النار او الحجارة في شوارع بيروت. هكذا تبدأ الحروب. تكتمل القطيعة مع جارك «الخائن». وبعد القطيعة لا يبقى غير ان تستعد. لكسر ارادته وإذلاله. لتهجيره أو إلغائه.

شعرت بالألم لرؤية شباب يسارعون الى الاحتكام الى السلاح. كأنه اللغة الوحيدة المفيدة في مخاطبة هذا الآخر المقيم في البناية القريبة أو الحي المجاور. كأن اهلهم لم يرووا لهم ما حدث. وكأن اساتذتهم لم يلمحوا الى ما جرى. غالب الظن انهم تعلموا الوطن في دفاتر الشاشات. من تصريحات الموتورين الباحثين عن شعبية وجمهور من المصفقين. من السياسيين الذين تشكل مناخات القطيعة فرصتهم الذهبية لشحذ ألسنتهم وشحذ الأسلحة أيضاً. نقول للشاب إن جاره خائن. وان جاره مصدر الخطر. وان شريكه في الوطن مصدر التآمر عليه. نعبئه بكل عوامل الانفجار والانتحار ثم نستغرب ان ينفجر أو ينتحر.

في السنوات الثلاث الماضية شهد لبنان سلسلة من الزلازل اطاحت القواعد السابقة للاستقرار فيه. دهمته زلازل اكبر من قدرته على الاحتمال. لم يكن جاهزاً لاستيعاب الرياح التي ضربته. لا يملك مؤسسات راسخة تفض النزاعات في ضوء قواعدها. غابت المؤسسات ولم تحضر الحكمة.

تعاقبت الزلازل على البلد الصغير. كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري من قماشة هذه الزلازل. ما تبع الاغتيال ينتمي الى الفئة نفسها. انسحاب القوات السورية لم يكن حدثاً بسيطاً في بلد كان يعتقد بأن قراره لن يعود اليه في المدى المنظور. حرب تموز كانت هي الاخرى من فئة الزلازل داخلياً واقليمياً. غيّرت نتائجها موقع عائلة رئيسية في التركيبة اللبنانية تماماً كما غيّر اغتيال الحريري موقع عائلة كبيرة اخرى وأولوياتها.

كان لبنان يتخبط في زلازله وارتداداتها وكان مكشوفاً أمام رياح المنطقة. الغزو الأميركي للعراق كان زلزالاً غير مسبوق. سقوط نظام صدام حسين لم يكن حدثاً بسيطاً. الهجوم الإيراني الشامل ليس حدثاً عارضاً في المنطقة. الفتنة المذهبية في بلاد الرافدين أيقظت كل أنواع المخاوف.

وسط هذا البحر من الحرائق ناءت التركيبة اللبنانية تحت اثقال المنطقة ومجازفات اللبنانيين. لا المؤسسات موجودة ولا الحكمة طاغية. ذهب الافرقاء بعيداً. تناسوا السر الذي قام عليه لبنان وهو لغة منتصف الطريق. انقسموا حول حاضر البلد ومستقبله. حول طبيعة نظامه وموقعه في الاقليم وعلاقاته الدولية. غابت لغة تبادل التنازلات وسادت لغة التخوين.

المشهد ينذر بالمزيد من الخسائر. القصر الرئاسي شاغر وتحوّل رهينة. الحكومة تعاني من غياب عائلة لبنانية كبيرة لا يمكن صناعة الاستقرار في غيابها. البرلمان مصاب بسكتة قاتلة تضعف عوامل التفجير. مشروع الدولة يصطدم بدولة المقاومة. الدولة أضعف مما كانت عليه. وجمهور المقاومة ينحسر خارج الطائفة الشيعية.

هذه الانقسامات أكبر من قدرة لبنان على الاحتمال. هذه المجازفات أخطر من ان يستطيع التعايش معها. من حق المرء ان يخاف من الآتي. من أن نكون في الطريق الى خسارة كل شيء. وحدة البلاد ومشروع الدولة والمقاومة. ما جرى في شوارع بيروت أمس يوحي بأن اللبنانيين يستعدون لوداع اشياء كثيرة وانهم ضربوا موعداً جديداً مع الهاوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى