صفحات الناس

سوريا: مَنْ ينقذ منطقة الجزيرة من التصحُّر السلطوي؟!

null
نوري بريمو
مثلما يخاف العالم من تداعيات توسع ثقب الأوزون في طبقات الجو العليا، وكما تخشى المجتمعات الزراعية من مغبة امتداد الصحارى الزاحفة صوب ديارهم وابتلاع “التصحر الطبيعي” لأراضيهم الخصبة ولبساتينهم الخضراء التي هي مصدر عطاء رزقهم الذي قد ينقطع بسبب الجفاف والحرارة واليَبَسان و…إلخ، فإنّ الإنسان السوري بات يخشى ويحسب ألف حساب لديناصور المجاعة الذي أضحى يدق أبوابه جراء انتشار ظاهرة “التصحير السلطوي” المستفحلة والتي أصبحت تهدد حياته بحرمانه من لقمة عيشه المغموسة في أوقيانوس مختلف أوجه المعاناة الآدمية، وبشكل خاص ما يتعلق بمعيشة مئات ألوف الآدميين الواقعين تحت خط الفقر في ظلّ موجة الغلاء الفاحش التي يتجرّعها السوريون بسبب القحط الاقتصادي الدافع لجهة رفع وتيرة الهجرتين الداخلية والخارجية اللتان تعرضان السكان المدنيين لأخطار مفتوحة على المجهول ويصعب التكهن بنتائجها التي تكون في العادة وخيمة وتنعكس سلباً على الفرد والمجتمع.
في الحقيقة إنّ غول التصحر بفعل فاعل سلطوي يمضي في ممارسة الاستبداد السياسي والانحدار الاقتصادي وفشل الخطط التنموية وضعف القطاعات الإنتاجية وطغيان الأنماط الاستهلاكية وتواصل مسلسل الفساد والإفساد في أحضان البيروقراطية و..إلخ، قد أدى إلى ندرة فرص العمل واستشراء التسوُّل وانخفاض الأجور مقابل الارتفاع الجنوني لأسعار السلع ولكلفة الخدمات العامة والخاصة، ويؤدي في النهاية إلى تدمير الوضع المعيشي للمواطن في سوريا التي ترتفع فيها نسبة العاطلين عن العمل إلى أعلى مستوياتها محلياً وعالمياً، وينخفض فيها متوسط دخل الفرد إلى أدنى مستوياته بين دول المنطقة.
وصحيح أن هذا النوع من التصحر الفوقي الذي يتعرض له أهل سوريا ليس بجديد على الإطلاق، فعمره من عمر الأنظمة الشمولية التي استلبت خيرات البلد واستعبدت عباده، غير أنّ حالة الجفاف الطبيعي و”تسونامي” ارتفاع الأسعار العاصف بالبلد في السنوات الأخيرة، قد انعكس بشكل لا يمكن احتماله على كافة مناحي الحياة، وما نشهده اليوم ليس مجرّد هبة لغلاء الأسعار وإنما ذروة في مسلكية التجويع الممنهج للإنسان السوري الذي بات يشعر بالغربة في دياره التي أضحت تُدار بشكل أمني يستلب الأخضر واليابس ويستمد قوته ومشروعيته من حالة الطوارئ السائدة منذ حوالي نصف قرن.

وبهذا الصدد الذي يخص كافة أشكال التصحر السارقة للقمة عيش ملايين الآدميين، اعترف موظفون سوريون معنيون بالشأن في اعترافات قلما يدلون بها، أثناء ندوة (الثلاثاء الاقتصادي) المنعقدة مؤخراً بالتقصير السلطوي المترافق بموجات الجفاف التي أتلفت محصول القمح لعام 2008 وشردت مئات الألوف من مواطني المحافظات الشرقية وبشكل خاص منطقة الجزيرة الكردية، واقترح عدد منهم أولئك المسئولين بضرورة تنويع أشكال اقتصاد تلك المناطق المتصحرة عبر البحث عن بدائل من شأنها مواجهة ظواهر الفقر والبطالة والأمية وندرة الاستثمارات، وقال حسان قطنا مدير الإحصاء والتخطيط بوزارة الزراعة: (ما يجب أن نفكر فيه هو أن نخطط للتنمية الشاملة لتشمل الزراعة والصناعة والاقتصاد والصحة والتعليم وليس النشاط الزراعي فقط.. وإن الحكومة خفضت بالفعل المنطقة المخصصة لزراعة القطن بسبب نقص المياه لكن لا يتوقع أن يلتزم بذلك المزارعون الفقراء.. وإنّ التحدي الحقيقي هو أن يكون لنا خطط واستراتيجيات طويلة الأمد لهذه المنطقة لنستطيع أن نعرف من خلالها كيف أن نوفر نشاطا اقتصاديا جديدا إضافة ودعما للنشاط الزراعي)..وفي تلك الندوة أكد خضر المحيسن رئيس اتحاد الفلاحين بمحافظة الحسكة: (إن مستويات الفقر في شرق سورية تبلغ 80 في المائة..)، يُذكر بأنه انتقل كثير من الأهالي الذين شردهم الجفاف الى دمشق وحلب وحماه وباقي كبريات المدن السورية التي باتت محاصرة بأحزمة الفقر التي أمست مأوى غير آمن لجموع الجياع من كورد الجزيرة، علما بأنّ منطقتهم غنية بإنتاج الحبوب والقطن وهي صاحبة امتياز كافة آبار النفط البالغ إنتاجها 375 ألف برميل يوميا.
إنّ الرأي العام الديمقراطي السوري بعربه وكورده وباقي أطيافه وخاصة لسان حال قوى المعارضة الديمقراطية ونشطاء حقوق الإنسان والشعوب، يحمِّل السلطة بكافة مؤسساتها وأجهزتها مسؤولية تخريب الاقتصاد وحالة البؤس والحرمان والفاقة التي يعيشها المواطنين، كما يحملها مسؤولية ما يترتب على هذا الملف المتأزم من عواقب وخيمة على الحياة العامة في البلد، وإن الحالة التصحّرية المزرية التي آلت إليها الأمور ستدفع بكافة المكونات (القومية والدينية والطائفية) صوب الدفاع بلا تردد عن لقمة عيشها وحقوقها والوقوف في وجه المتسببين الفعليين بنشوب هذه الأزمة المستعصية، فعندما يقف المواطن وأسرته على حافة هاوية الجوع لا يبقى لديه ما يخسره وسيسعى بما أوتي من قوة في سبيل حياة أفضل.
ولعل من المفيد التذكير بأنّ خير الخيارات السياسية للتخلص من هكذا تصحُّر خانق ومفتعل بفعل فاعل سلطوي أو طبيعي، هو إعادة ترتيب بيت المعارضة السورية بشقيها الكوردي والعربي لمواصلة وتفيعل الحراك السياسي السلمي الهادف للتغيير الديمقراطي الذي من شأنه إنعاش البلد وإغناءه وتوفير مستلزمات العيش لأهله والإتيان بدولة دستورية يسودها العدل والحق والقانون وتنتفي في ظلالها كافة أشكال التصحر السلطوي والطبيعي وغيرها من الظواهر الفوقية المعكرة لصفوة حياة الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى