تفجير الدّيمقراطيّة أم تفعيلها؟
جون فانسون هولاندر
ترجمة : المنتصر الحملي
تعيش جلّ ديمقراطيات البلدان الغربيّة أزمة ثقة. فهل أنّ استعادة الثّقة تمرّ عبر تفعيلها من جديد أم من خلال تفجير النّظام؟
الجميع تقريبا ينسب نفسه اليوم إلى الدّيمقراطيّة. ولكن لا أحد متّفق على ما ينبغي أن تكون: ديمقراطيّة ليبراليّة أم راديكاليّة؟ تشاركيّة أم تمثيليّة؟ محلّيّة أم مركزيّة؟ هناك اليوم كمّ من التّحليلات عن وضع الدّيمقراطيّة وعن وسائل تجديدها. ولئن تعكس هذه النّقاشات حيويّة الجدل الدّيمقراطيّ والنّظريّة السّياسيّة المعاصرة إلاّ أنّها تبيّن كذلك أنّ الدّيمقراطيّة على ما يبدو لم تعرف من قبل أبدا هذا القدر من الشكّ في ذاتها. لا جدال في اعتبارها نموذجا سياسيّا، غير أنّ وجهتها مشكوك فيها. لقد اقترن ظفر الدّيمقراطيّة في نهاية القرن العشرين بفقدان الثّقة في قدرتها على حلّ أزمات القرن الجديد سواء أكانت اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو دوليّة. فهي أوّلا عاجزة عن تصدير نموذجها الخاصّ إلى الخارج مثلما يبيّن ذلك فشل الإستراتيجية الأمريكيّة في أفغانستان والعراق. وهي عاجزة أيضا عن التّقليص من التّفاوت الاقتصاديّ والاجتماعيّ مثلما تبيّنه الدّراسات الأخيرة حول الفقر. وهي عاجزة أخيرا عن ترميم الثّقة بين الحاكمين والمحكومين كما يشهد على ذلك الامتناع عن التّصويت أو التّصويت العقابيّ أثناء الانتخابات. ولعلّ هذا العجز الأخير هو الأخطر لأنّه يشمل البقيّة. إذا كانت هناك أزمة في الدّيمقراطيّة فهي أوّلا أزمة ثقة المواطنين في النّظام الدّيمقراطيّ الّتي تعبّر عن نفسها في رفضهم النّخب السّياسيّة والفكريّة. وهكذا يتمسّك الباحثون بعرض تشخيص للأزمة تشخيصا وان كان متنوّعا إلى أقصى حدّ إلاّ أنّه في جلّه يحوم حول مشكل الثّقة المفقودة بين الشّعب والنّخب.
يشدّد المؤرّخ بيار روزنفالّون Rosanvallon على شعور المواطنين بـ«الرّيبة» من السّلطة السّياسيّة. من الآن فصاعدا تنضاف الى الدّيمقراطيّة التّمثيليّة « ديمقراطيّة معاكسة » تمارس سلطة المنع، وربّما يمكنها أيضا أن تمثّل وسيلة لإحياء حياة سياسيّة على وشك الموت. ليست الدّيمقراطيّة المعاكسة هي أن تكون ضدّ الدّيمقراطيّة بل هي أوّلا أن تعتقد أنّه يمكن ممارسة السّياسة بشكل مختلف ( في الشّارع، في المنظّمات غير الحكوميّة، على الأنترنيت، الخ.) وبيّن ب. روزنفالّون أنّ المواطنين، وعلى عكس ما يبدو، يهتمّون بالسّياسة ومستعدّون للانخراط فيها. ولكنّه يشير أيضا الى أنّ قلقا حقيقيّا قد رشح في ذهن المواطنين الّذين يعتبرون الدّيمقراطيّة بمثابة الأرستقراطيّة المقنّعة. بل إنّ ألان باديو وسلافوج زيزاك، ومن منظور أكثر راديكاليّة بكثير، يمضيان الى حدّ القول إنّ الدّيمقراطيّة وهم، وإذا اعتبرنا كلّ شيء، فانّ نظاما استبداديّا معلَنا خير من ديمقراطيّة « رخوة » ومنافقة. ويرى س.زيزاك في توطئته لخطابات روبيس بيار أنّ الرّعب يمثّل وسيلة للنّضال ضدّ مجيء الرّأسماليّة المعولمة و« المادّيّة الرّأسماليّة ».
لفهم الصّدى الّذي ينجم عن هذه التّأكيدات التّي أقلّ ما يقال فيها أنّها ثاقبة، من الضّروريّ أن نأخذ بعين الاعتبار السّياق الذي وردت فيه. إذ يلاحظ جون-بيار لوكوف أنّ الدّيمقراطيّة « الما بعد شموليّة » تنحو لأن تصبح « همجيّة لطيفة »، حيث لا يكون الطّاغية ديكتاتورا من لحم ودم، بل تراكما لقواعد تحدّ من حرّيّة الأفراد باسم الأمن للجميع. وقد بيّنت تحقيقات عديدة بالفعل الصّعود القويّ للخطاب الأمنيّ، الملحوظ على جميع أصعدة المجتمع، فيما يتعلّق بقضايا خطيرة أو طريفة في ظاهرها: ولنتذكّر تفجير مقرّات الرّقابة المحكمة أو الإيقاف المؤقّت خلال حملات المحافظة على الصّحّة الغذائيّة والسّلامة المروريّة. إذ كانت النّيّة تتّجه جدّيّا نحو تطبيق حظر التّجوّل لمنع الشّباب من الاقتتال في الطّريق في آخر الأسبوع. صحيح أنّه تمّ التّخلّي الآن عن الفكرة غير أنّ ضبط الخطر ومبدأ الحيطة يمثّلان بالتّأكيد « أولويات حكوميّة ». وكما يوحي بذلك عالم الاجتماع ايلريتش باك، فانّ المجتمعات الدّيمقراطيّة الّتي لم تعد تعيش حروبا صارت مسكونة بهاجس الخطر الى حدّ أنّ هذا الهاجس سيمثّل من الآن فصاعدا تهديدا خطيرا على الحرّيات الدّيمقراطيّة.
فقدان الثّقة في الأمّة
المسألة إذن هي حماية الإنسان، ولو كرها، لأنّ حرّيته قد تنقلب عليه. لكنّ كتّابا ينتمون الى التّقاليد اللّيبراليّة يعتبرون أنّ هذه اللّيبراليّة الجديدة في القواعد تتعارض مع اللّيبراليّة السّياسيّة الّتي ظهرت في أوروبّا في نهاية القرن الثّامن عشر من خلال الشّكل السّياسيّ القوميّ. والخطر الأكبر الّذي يركّز عليه كتّاب مثل مارسيل ڤوشي أو بيار مانان هو القضاء على تسييس الدّيمقراطيات الّذي يعبّر عن نفسه مثلا في فقدان الثّقة في الأمّة في أوروبّا. قد يُفسَّر رفض الأمّة على أنّه رفض للسّياسة، بالنّظر الى أنّ المواطنين يفضّلون أن توجّههم قواعد ( قانونيّة وأخلاقيّة ) على أن تديرهم حكومة يعتبرونها غير شرعيّة وتعسّفيّة. غير أنّ بيار مانان يرى أنّه لا يمكن لنظام سياسيّ ما أن يزدهر إلاّ إذا اقترن بشكل سياسيّ ملائم. فالقدامى حقّقوا الدّيمقراطيّة المباشرة في إطار المدينة. أمّا المعاصرون فطبّقوا الدّيمقراطيّة التّمثيليّة في داخل الأمم. فهل بإمكان الأوروبّيين أن يحكموا أنفسهم دون شكل سياسيّ، أي بواسطة إجراءات بروكسيل؟ لا شيء يؤكّد ذلك حسب ب.مانان الّذي يتّفق معه في هذه النّقطة بول تيبو وجون-بيار لوكوف. وبعيدا عن المشكلة الأوروبّيّة، يبيّن هؤلاء الكتّاب أنّ الضّغط الخارجيّ أو التّكيّف مع العولمة أو كذلك حتميّة التّحديث يمثّل أعذارا مناسبة لدى الحكومات لكي تكفّ عن الاضطلاع بمسؤولياتها السّياسيّة.
ولكن، للخروج من هذا العجز المنظَّم، هل يجب التّعويل على انتفاضة « مواطنيّة » أم على عودة الأمّة والسّياسة اعتمادا على الآليات التّقليديّة ( البرلمان والتّنفيذيّ )؟ هل بالإمكان التّوفيق بين الدّيمقراطيّة التّمثيليّة والدّيمقراطيّة التّشاركيّة؟ إنّ الإجابات الّتي يقترحها الفكر السّياسيّ لإعادة دفع الدّيمقراطيّة لا تقدّم لنا حلاّ سحريّا. فهي بالأحرى تسلّط الضّوء على الشّروخ السّياسيّة الرّاهنة.
نزاعات حول المشاركة الدّيمقراطيّة
في فكر اليسار، يضع النّقاش منظّري الدّيمقراطيّة الرّاديكاليّة الّذين يريدون « تفجير » الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة في مواجهة كتّاب أكثر اعتدالا يرغبون في تفعيلها أو في إحيائها من جديد من خلال إعادة ضبط كيفيات مشاركة الشّعب.
يعتقد الأوائل أنّ على الدّيمقراطيّة أن تكفّ عن أن تكون ليبراليّة لكي تصبح فعلا ديمقراطيّة: هذا هو القاسم المشترك بين كتّاب مختلفين جدّا مثل نعوم كلاين وتوني نڤري وجاك رونسيار وألان باديو وهم قريبون نسبيّا من الحركات الاجتماعيّة الجديدة. فالاحتجاجات الاجتماعيّة، كما يرى هؤلاء المفكّرون، ليست أمراضا بل هي على العكس من ذلك إحياء من الأسفل للحياة الدّيمقراطيّة، إحياء صار ممكنا بفضل المساواة المؤسِّسة بين المواطنين. ومن يقول عكس هذا فهو حسب ج.رونسيار يعبّر عن « كره للدّيمقراطيّة » باحتمائه بتصوّر تضييقيّ ومؤسّساتيّ للحياة السّياسيّة. الرّهان كلّه حسب رونسيار هو إذن المحافظة على زخم الحياة الدّيمقراطيّة الّتي تتّخذ شكلها في النّضالات الاجتماعيّة لا في البرلمانات. وبإلهام من رونسيار، يتصوّر ميشال فوكو وبيار بورديو منظّرا اليسار الرّاديكاليّ « استراتيجيات » لمقاومة هيمنة السّلطات القائمة: مثل النّضالات المناصرة لمن هم « بلا أوراق » les sans-papiers والمقاطعة والعصيان المدني والاضطرابات… هذا التّصميم يكتسي عند ألان باديو الّذي لم ينكر أبدا إعجابه بماو دلالة حافّة ثوريّة. فينبغي على من هم « بلا » ( بلا أوراق، بلا عمل، بلا مأوى..) أن يتحالفوا فيما بينهم الى جانب المثقّفين لخلق « الحدث »، بعبارة أخرى لتحقيق اللّحظة الثّوريّة الّتي تمثّل يوم الحساب.
الى جانب هذه التّيّارات الّتي تنتمي الى الميراث الماركسيّ، توجد تحليلات أخرى تتعامل بجدّيّة مع مسألة إقصاء الشّعب بيد أنّها تقترح حلولا أقلّ راديكاليّة. فبالنّسبة الى ايفز سانتومي ولويك بلونديو تعاني الدّيمقراطيّة حقّا من عدم معرفتها بكيفية منح الكلمة الى المواطنين. والدّيمقراطيّة التّشاركيّة تصلح جزئيّا مساوئ الدّيمقراطيّة التّمثيليّة لأنّها تسمح بإعادة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين. فـ« اللّجان المواطنون » وأجهزة الدّيمقراطيّة المحلّيّة نُظِر اليها باعتبارها إضافات للدّيمقراطيّة التّمثيليّة لا باعتبارها بديلا لها.
غير أنّه تمّ التّساؤل عن مدى ملاءمة مفهوم المشاركة باعتبارها دافعا رئيسيّا للحياة الدّيمقراطيّة.
ميلان كونديرا والسّيّدة العجوز
في إحدى رواياته، يروي ميلان كونديرا بالتّفصيل هذه الحكاية الّتي وقعت في نهاية خريف براغ سنة 1968، عندما اجتاح السّوفييت تشيكوسلوفاكيا. يصف م.كونديرا امرأة عجوزا في الطّريق، بين الدّبّابات الرّوسيّة الدّاخلة الى المدينة. تتّجه المرأة العجوز نحو حقلها لتتأكّد من أنّ أجّاصها قد نضج، دون حتّى أن تلقي نظرة على الدّبّابات الرّوسيّة. هل كان على المرأة العجوز أن تقاوم بدلا من أن تجمع أجّاصها؟ لا يجيب كونديرا على السّؤال. ولكن مهما يكن، فانّ جماعة سياسيّة تجبر أعضاءها على مقاومة الاضطهاد أو حتّى على جمع الأجّاص ليست ديمقراطيّة. فالدّيمقراطيّة هي النّظام الوحيد الّذي تستطيع فيه العجائز أن تختار بحرّيّة أن تجمع أجّاصهنّ أو تنخرط في المقاومة السّياسيّة. الى حدّ ما ليس عدم المشاركة بأقلّ جدارة بالاحترام من المشاركة. لأنّ حرّيّة المشاركة أو عدمها في الدّيمقراطيات التّمثيليّة متروكة للمواطن.
حينئذ، كيف يمكن التّوفيق بين حرّيّة المواطنين وضرورات الحكومة الّتي يجب عليها أن تقرّر وأن تحسم وأن تجد تسويات؟ هذا هو عذاب النّظريّة السّياسيّة المعاصرة. وهو ليس بتحدّ جديد. بل هو في جوهر الدّيمقراطيّة. إنّ الدّيمقراطيّة هي بامتياز نظام حركة التقدّم، في حين أنّ الملكيّة هي نظام الأوضاع القائمة منذ نشأتها. والدّافع العميق للدّيمقراطيّة الحديثة هو عدم الرّضى المزمن هذا الّذي يدفعها الى الأمام بسرعة أكبر دائما، والى ما هو أبعد دائما. إنّها إحدى نقاط قوّته الرّئيسيّة ولكن أيضا إحدى نقاط ضعفه. فالشكّ ومذاق عدم الاكتمال هما الثّمن الّذي لا بدّ أن تدفعه الحركة والحرّيّة الدّيمقراطيّتان. من هنا يأتي الشّعور بأنّ الأزمة في الدّيمقراطيّة هي مرض متكرّر بل دائم. « لا شيء يجنح مثل النّجاح »، كما كان يقول جيلبار شسترتون. وهو مثل ينطبق جيّدا على ديمقراطياتنا العجائز الّتي انتصرت بيد أنّها تعاني من عدم بلوغ غاياتها أبدا.
المقال منشور في مجلّة Sciences Humaines. Com الإلكترونيّة، Jean-Vincent Holeindre ماي-2009.
موقع الآوان