صفحات مختارة

الديموقراطية ونهاية الاستثناء الثقافي؟

بول شاوول
ثمة أسئلة غريبة تدور في الخواطر والأفكار، طالعة من الملموس، والوقائع والمحسوس والمشموم: كيف يمكن أن يرفض شخص ما حريته؟ واذا كانت الحرية فكرة أو حلماً أو وهماً لا تتجسد الا بالديموقراطية، فكيف يمكن ان تُرفض هذه الديموقراطية، من قبل أناس يأكلون من موائدها، ويتمتعون بخيراتها، ليسعوا، وبكل ما أوتيت عزائمهم، واراداتهم وقرائحهم واقلامهم وحبرهم وبكل ما تتفتق عنه ابداعاتهم، الى محاولة تدمير هذه الديموقراطية؟ غريب! والسؤال المقابل: كيف ينحاز “أهلٌ” يفترض انهم من اصناف الطيور المغردة بالحرية، والفردية وحقوق الناس والاختلاف والتفكير والحلم والمعارضة واليسار واليمين.. كيف ينحاز هؤلاء الى دكتاتوريات احادية، أو الى ظواهر قسرية، من فاشية وشمولية، وعائلية وقبلية ومناطقية: بحيث تتخذ هذه الشمولية معاني الأمكنة والأزمنة؛ واذا كانت هذه التناقضات “مبررة” الى حدّ ما في المجتمعات التي تعاني خللاً في مستويات الوعي والالتزام والنقد، فكيف تُبرّر في مجتمعات قطعت أشواطاً في تنامي ادراكها، وتطور افكارها وتبلور ادراكها واتساع معنوياتها وتطور امكاناتها من خلال ديموقراطياتها العريقة؟ بمعنى آخر، كيف يمكن لمثل هذه المجتمعات التي تقدمت بفضل الحرية، ان يصاب بعضها بعماءٍ يقود الى تبني شموليات قاطعة، واستبداديات مانعة، ودكتاتوريات طاغية، وايديولوجيات احادية؟
وعندما استحضر مثلاً مواقف شرائح من الشعب الفرنسي، ومن خلال أحزابها وقيادات فيها، المؤيدة للستالينية في الأربعينات وحتى الثمانينات، اعجب كيف يمكن ان يتجاوز هؤلاء جرائم هذا الطاغية (قتل 23 مليون روسي) ويضعوه في مرتبة الاعجاب، والتقدير وحتى “العبادة”؟ والأغرب ان بعض الطلائع الثقافية، الحزبية او غيرها، اصابها ذلك العماء، فدافعت عن هذه الظاهرة الاستبدادية المتوحشة، وبرّرت جرائمها، ونظامها الجديد، ونستحضر شعراء كباراً دانوا النازية، ولجأوا الى الستالينية (كبرشت مثلاً) أو آخرين فقزوا فوق انجازات الديموقراطية التعددية وذابوا في شخصية ستالين “الكاريزماتية” وفي متاهات “الحزب الواحد” وخلف “القائد الملهم”، ومنهم بول ايلويار، واراغون وبروتون الستاليني بامتياز! الذين فتحوا السوريالية المفترض انها “الحرية المطلقة” على الستالينية المغلقة. والأغرب ان هؤلاء جمعوا في مرحلة من مراحل “مدرستهم” النجيبة (!) الفرويدية التي منعها ستالين، ومَنْ بعده باعتبارها انحطاطاً، وتشكل خطراً على الشعب، وبين الشيوعية: فكأن جمعهم هذا “العسفي” والأعمى والأخرس بداية معلنة لتفكك هذه الظاهرة السوريالية التي طلعت من المستقبلية الروسية والايطالية في بداية القرن العشرين، ومن الدادائية. سوريالي يؤمن بالحرية وبالحلم واللاوعي والاستبطان والمصادفة (الموضوعية) ويعارض “البنى” الجاهزة وفي الوقت نفسه يُعلن “ولاءَه” لمثل هذه الشخصية التي تنفيه أصلاً. فكيف يسعى هؤلاء الى تحقيق أقصى “الجنون” الفردي والجماعي، وفي الوقت ذاته، نراهم يتشبثون بنظريات “التاريخ الواحد” والحزب الواحد والقمع الواحد والسجن الواحد والقتل الواحد: بل كيف لهؤلاء وهم سكارى بستالين حتى اللاوعي (اللاسوريالي) الا تهزهم جرائمه وقتله الشعراء والفنانين والمفكرين أو نفيهم الى شتى ضروب “الغُولاقات” المنتشرة في كل مكان.
نسوق هذا المثل عن السورياليين، حاملي لواء الثورة والحرية والحب المجنون حتى الصوفية. (وقد ظهرت عشرات الكتب في أوروبا وسواها في الخمسينات تبحث عن هذه العلاقة الحميمة بين السوريالية والصوفية وقد ترجمت خالدة السعيد أحد هذه المراجع وحالياً في الأسواق كتاب من “توقيع” أدونيس يحمل العنوان ذاته باذنه تعالى “السوريالية والصوفية” من دون ان ننسى صوفانية أدونيس نفسه (لكن اين وبراو!) فهل يمكن القول إن هؤلاء المثقفين رفضوا حريتهم باسم الحرية، والديموقراطية باسم الديموقراطية، والحلم باسم الحلم، كمثل شعوب وأقوام وأحزاب وناس من فوق وناس من تحت! ويحضرني في هذا المجال وفي الذكرى العشرين لرحيل ماوتسي تونغ، ان هذا الستاليني على الطريقة الصينية، لم يُقصر لا بدكتاتوريته ولا بجرائمه (ذهب ضحية ممارساته و”ثورته الثقافية” بين القتل الجماعي والجوع بسبب خططه وبرامجه الزراعية) ستالين في ضرب الرقم القياسي وربما هذا الأخير بزَّه في تسجيله المزيد.. من البركات الثورية الدموية.
والغريب ان الماوية ما زالت تجد أمكنة متسعة لها في فرنسا مثلاً: ارض الديموقراطيات والتعدد وفي الوقت الذي تبخّر فيه الحزب الشيوعي الفرنسي (2%)، برزت موجات من الماوية (والتروتسكية) راهناً، لها ما لها من مواقع، وان سجلت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة تراجعاً من 7 بالمائة الى اثنين أو واحد.. أو ثلاثة! نقول هذا ولا نجد تفسيراً لتنامي ظاهرة “بزنسون” (15 بالمائة) صاحب الحزب الجديد “ضد الرأسمالية” بميول ايديولوجية قديمة، مستقاة من اليسار المتطرف اي الماوية والتروتسكية وما بينهما.
حتى ان فيلسوفاً برتبة باديو راح يدافع في حوار نشر قبل ايام في مجلة “لوبوان” الفرنسية عن ستالين وماوتسي تونغ.. بتبريرات تذكرنا ببعض أجهزة العالم الثالث وذهنياتها! (هذا الفيلسوف شبّه ساركوزي بالفأر!) ولو اردنا تعداد الاحزاب والقامات الثقافية العالية التي عانت هذه “الشيزوفرانيا” الخصبة بعمقها أي ادعاء الحرية والديموقراطية والجنون والحب والتمرد والفوضى، لما اتسع الفضاء لذكرها. ويمكن وبشيء من “الاقتصاد” المجدي استحضار اسماء شعرية وثقافية وفنية عربية جمعت بين صورة الحلم اللامتناهي والقمع التوتاليتاري كتعددية الدكتاتوري اللامتناهي، بين نسبية الفن، النص وتفسيره وبين مطلقات الايديولوجية الشمولية، أو نماذج البنى التاريخية او الغيبية أو الطائفية أو المرجعيات الحزبية والشخصانية. ونحن نعرف ان للستالينية (ولا أقول الشيوعية بالمطلق كفكر تغييري أو اليسار كفضاء للتحولات)، مكاناً رحباً في قلوب الكثير من الأدباء، والفنانين والمفكرين. وهنا استخدم “الستالينية” كمجاز للطغيان الشخصاني، وللدكتاتورية باشكالها المألوفة، فهؤلاء ويمكن ذكر العشرات بل المئات منهم على طول القرن العشرين، لم يسلموا من لوثة الشيزوفرانيا بين تبنيهم السلطة القامعة وانحيازهم الى “الشخوص” الدكتاتورية وبين تغنيهم بالحلم والحب والحرية والديموقراطية والجنون والتقدمية والقومية والأممية والخصوصية والتعددية! تقرأ ما يكتبون في الشعر وعنه ثم ترى الى انتمائهم لتكتشف كيف يجمع الحديد مع الماء والنار مع الحبر. “يحلمون” (أو يُهَوْدِسون) بالحرية الفردية ويعانقون من المرجعيات ما يقمعها وينفيها ويدينها. أف! شيء غريب! “يهلوسون” بالانسان وبابعاده وهوياته وجذوره وفروعه، ثم تراهم في الوقت ذاته “متعبدين” لهذا الدكتاتور الصغير، أو لهذا الجنرال المجنون: كيف لشاعر يدعي توسيع افقه الى المجهول واللامتناهي ان يمتدح جنرالاً او طاغية أو ان يتواطأ مع نظام دمر المجتمع المدني، وادواته بالسلاح والقوة والقتل والنفي خصوصاً عندما ينحاز هذا الشاعر “الحر” الفوضوي المجنون الى مثل هذه النماذج؟
رائع! دكتاتور ضد الحرية والفردية والتنوعية يجد شعراء وكتاباً يستأنسونه، ويصفقون له، فهل تصدق هؤلاء عندما يتسابقون في الكلام عن الانسان والمستقبل والفرد والحقوق والقانون!
غريب؟! لا! هذه هي بعض طبائع المفكرين والكتاب والمثقفين والفنانين عندنا الذين يريدون بشطارة السياسيين، وبذهنية السماسرة ان يقدموا صورة “مثالية” عنهم من عشق الحرية وفي الوقت ذاته نراهم في عمق المشهد المتواطئ، والمتخلف، والانتهازي، صورتان بنيجاتيف واحد. أو نيجاتيف بصورتين!
وعندما نجد أنه لم يبق شيء من الإنجازات الديموقراطية. وعندما نجد ما يدور حولنا من بنى وأنظمة سلطوية، وحركات طائفية أو مذهبية أو إيديولوجية قاطعة ومانعة وقامعة نجد هؤلاء يتحسرون على الديموقراطية، لكن مختبئين خلف “حيادية” مرعبة بزعم أنهم فوق “الواقع” بعدما كانوا تحته، وأنهم “منزهون” عن الصراعات “الخطرة”. فهم شجعان وبواسل في الأزمنة “السهلة” ولاطئون في الأزمنة الخطرة، حيث يكون الكلام الاحتجاجي موازياً للموت أو للإعدام أو للاغتيال! فطوبى لهم! فالمهم السلامة! والبحبوحة، واختيار القاتل بدلاً من القتيل، لأن القاتل يقتل وهم يخافون على جلودهم، والقتيل ضحية! مع هذا تراهم يصفون أنفسهم، حتى في عز خذلانهم “بالشجاعة” ومجافاة الواقع الضاغط! برافو! فهؤلاء ليسوا فقط متواطئين مع أعداء الحرية والتنويرية والانسانية بل أعداء أنفسهم قبل كل شيء: ماذا يبقى لشاعر أو مثقف أن تخط “أنملاته” الناعمة عندما تفقد الكتابة مبرراتها! وعندما تنعى نفسها، وعندما يكون للشعر أو للفن أن يلتحقا بالمجاراة، والتقاعس، وأن يحتميا بجلاديهما! ولهذا لا يمكن مقاربة هذه المسألة، سوى كون العديد من المثقفين “اصطَفَوا” الموقع المعادي للديموقراطية، والحرية، ليشاركوا عن قصد أو غير قصد في إلحاقها بالهياكل البيروقَراطية ومبرات المخابرات و”صوامع” الدكتاتورية.
فهؤلاء يرفضون الديموقراطية عندما تعطى لهم، ويترحمون عليها عندما يساهمون في تغييبها أو إضعافها، أو استيعابها من قبل الجنرالات والقيادات الملهمة والنظم الاستبدادية. وهنا بالذات تزول المسافة بين مثقفين ونخبة وشعراء وفنانين ومفكرين وبين ما يسمى “العامة”. وإذا كانت مواقف هؤلاء الأخيرين لها ما يبررها أحياناً ارتباطاً بمستويات معرفية أو اقتصادية أو طائفية أو مذهبية أو سياسية، فكيف يبرّر هؤلاء محوهم “طليعيتهم” و”رؤيويتهم” (العوذ بالله) واستشرافاتهم، وتفريطهم بجوهر الإبداع المتصل بالديموقراطية، ليطمسوا تميزاً مشهوداً أو ثقافة متقدمة، أو استكشافاً خاصاً. كأنما، لا خصوصية بين ما يُسمى “الجماهير” المسوقة أحياناً بخوفها أو بهواجسها أو بطائفيتها أو بضليلها، وبين بعض النخب “كلهم في الحب واحد!”. بل يشاركون في هذا الكرنفال الجنائزي بنهاية الاستثناء الثقافي والطليعي والريادي (وبعضهم مصنف بإذنه تعالى من الروّاد!) الذي يجعل منهم الخميرة الكامنة في ضمير الحرية والإبداع والنقد والاحتجاج ومزاولة الخطر والمجازفة. بل كيف يمكن أن يزعم بعض هؤلاء “المغامرة” و”المجهول” وكسر “المحرمات”، وتغيير الذائقة العمومية، والذهنيات، عندما نجدهم على تواطؤ مع كل ما هو سائد، ومُيسّر، وقابل، ومعلوم، وضمن النظم والاتجاهات التي تفرض ما تريد فرضه بالقوة على المصائر، والأوطان، والحرية، والعادات، والإلزامات! ويعني ذلك إلغاء الحيز المفتوح، والهامش الحي اللذين تتحرك فيهما المخيلات، والأحلام، والآمال… والنضال! فكأنهم على عتبات الانتظار: يديرون ظهورهم للديموقراطية وهي أمامهم، وينتظرونها عندما تغادرهم! فأي مخيلة ترسم لنفسها حدودها لدى خالعيها عن فضائها اللامتناهي. وأي “ثورة” ثقافية أو اجتماعية أو سياسية يجرحونها عندما يماشون أعداء كل ثورة، وكل حلم، وكل خروج على العتبات والضرورات والحاجات! نعود الى “الشيزوفرانيا” والفصامية لنضيف إليهما “الميغالومانية” أي نفخ الذات، وتكبيرها، وتوهمها في مرتبة فريدة حتى “القداسة” والمعرفة المطلقة! وعندما تجتمع هذه الأقانيم المهتزة في النفسيات والعقول يمكن أن نفهم كيف يظن بعض هؤلاء أنهم يناضلون من أجل الحرية عندما يكونون متمترسين في صفوف أعدائها.
ويمكن أن نفهم، من خلال تلك الشروخ في شخصياتهم، كيف يظنون أنهم “يغامرون” عندما ينضمون الى “القناعة كنز لا يفنى”، وكيف يتوهمون أنهم “رواد” الديموقراطية، عندما يتراصون كالبيادق والبنادق والسرادق… خلف الفاشيين والاستبداديين. وكيف يتراءى لهم أنهم “محطمو” المحرمات، وجهابذة الثورة، والتمرد، عندما يلطأون خلف البنى التي ترسم كانتوناتها الفردية والذهنية والطائفية والسياسية بالدم! بمعنى آخر كيف يمكن مثقفاً أن يغطي الجرائم السياسية، والاغتيالات الفكرية، ويدعي في الوقت نفسه وقوفه “شامخاً” في قلب المواجهة! كيف يمكن لمثقف “عضوي” أو “ثوري” أو “طليعاني” متطلع، ومتشوق، ومتكشف أن يسكت بكل قبول وتواطؤ عن الذين يدمرون المجتمع المدني الذي يفترض أنه ينتمي إليه، وتعددية هذا المجتمع، وأدواته بالنار والترهيب، والإرهاب، والتخويف… وماذا يتبقى لكل مثقف، وللناس، وللنخبة، عندما تصادر بنى القمع والتخلف والاستبداد والحرية والمجتمع والسيادة والمخيلات، والمستقبل؟ وماذا يتبقى لهم ولغيرهم لكي يكتبوا أو يفكروا أو يحسوا أو يهجسوا أو يثوروا ويتمردوا… لا شيء سوى قليل من الكلام الخجول، وسوى قليل من التبريرات والحجج التافهة، وسوى قليل من الضمير الثقافي والاجتماعي وحتى الوطني، بل وسوى قليل من حبر يسطرون به خوفهم أو تراجعهم بأقنعة شمعية، قليل من حبر… ماؤه كثير! وأوراقه محترقة فوق الرؤوس والعيون والخجل!
وفي هذا المجال، وفي هذه المساواة المتجددة بين “القطعان” الطائفية والسياسية وبين الاستثناء الطليعي والإبداعي، نجد أن الانحطاط يحط بكل ثقله على صدورنا… وسطوحنا… وقبورنا… وإبداعنا!
وتسألون أيضاً: أين هو المثقف اليوم؟ إبحثوا تجدوه… حيث قرر ألا يجد نفسه، وإلى الأبد! وبرافو! وتسألون لماذا كسرت بعض الجموع حواجز “النخبة” لتصير بوعيها المكتسب أحياناً، هي الطليعية المتقدمة وليس أهل “الطليعة”، وهي المتمردة وليس “أهل التمرد”، وهي الثائرة على شروطها، وليس “أهل الثورات”… وهي حارسة الديموقراطية… لا حُراس أصنامهم، ونرجسياتهم، وتخاذلهم!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى