الإسلاميون على «الجزيرة»
محمد الحدّاد
بعد أسابيع من الإعلانات المتواصلة والجذابة، بثت قناة «الجــــــزيـــرة» يـــوم 13/11/2009 برنامجها «الإسلاميون» الذي يستعرض تاريخ الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر بالرؤية التي ارتضتها القناة،وهي أيضا الرؤية التي ينشرها تيار سياسي أصولي منذ ثمانينات القرن العشرين. واختارت قناة «الرأي والرأي الآخر» أن تقتصر على رأي واحد يتعارض مع كل البحوث الأكاديمية والجادة المتواترة في الموضوع، مفضلة تاريخا مزيفا قد قدّ على مقاس التيار الأصولي الذي بدأ يبحث عن الشرعية التاريخية مع منتصف الثمانينات، فاخترع قصة أنه سليل الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر، وأنه يواصل مدرسة الأفغاني والطهطاوي وعبده، بعد أن كان التيار نفسه قبل ذلك يكيل كل أنواع التهم إلى أولئك الرواد، يتهمهم بالانبهار والعمالية والتحريفية وفتح العقول الإسلامية على التأثيرات الغربية المشبوهة.
وللقصة طبعا تاريخ طويل من التوظيفات والتحريفات عرضناها في دراسات عديدة ولم يلتفت إليها معدّو البرنامج الذين لا تهمهم الحقائق التاريخية بقدر ما يهمهم تكريس هذه الرؤية. فانتشارها يقصد به تحقيق ثلاثة أهداف أيديولوجية خطيرة.
أولها ما ذكرناه من إضفاء الشرعية التاريخية على الإسلامية الأصولية بفصلها عن الظروف الحقيقية لنشأتها وتقديم موعد النشأة قرنا إلى الوراء لإلحاقها، أي النشأة، بظرفية مختلفة وشخصيات أكثر جاذبية ومقبولية لدى غالبية الناس. وقد أصبح التيار الأصولي أكثر حاجة إلى هذه الشرعية بعد التفجيرات الإرهابية في 2001 والحروب التكفيرية التي مزقت المجتمعات الإسلامية نفسها، إذ كان عليه أن يخفف من ارتباطه بالآباء الروحيين للتكفير والإرهاب وينسب نفسه لغيرهم، لذلك عاد بقوة للاستحواذ على تاريخ الحركة الإصلاحية، غير عابئ بمعطيات التاريخ وحقائقه، مستغلا واقع الجهل والأمية المنتشر في مجتمعاتنا وضعف رسوخ البحث العلمي والدراسات الإنسانية والاجتماعية فيها.
ثانياً، فرض تقسيم خيالي للفكر العربي الحديث منذ بداياته، وهو تقسيم مانوي مبسط يجعل هذا الفكر تيارين: تيار يجمع كل الامتيازات والفضائل، فهو الوطني العروبي الإسلامي الأصيل التراثي المقاوم للاستعمار المتفطن من فرط ذكاء أصحابه إلى كلّ المؤامرات المحاكة ضد الأمة، لا يلحقه الباطل ولا يعتريه الخلل، وتيار يمثل كل السلبيات فهو الخائن العميل المتواطئ العامل على هدم مقومات الأمة ووحدتها. ونفهم طبعا أن أحكام الماضي تنسحب حاضراً على كل من سولت له نفسه أن لا ينصاع للحركات الأصولية ولا يشاطرها الرأي والفكر والمنهج. ولم تعبأ قناة «الرأي الآخر» بتخصيص ولو دقيقة واحدة لنقد هذا الطرح أو مراجعته، بل توالى «المختصون» يكررون بعضهم بعضاً ليتسلسل كلامهم على طريقة برامج الدعاية.
ثالثاً، الاستفادة من الانهيار الفكري السائد حالياً لإبراز الأصولية الإسلامية على أنها البديل الوحيد أمام «الأمة» وأنه لا يعاب عليها خطأ ولا ذنب، فهي المبعدة عن الشأن العام منذ القرن التاسع عشر بسبب غلبة الخونة، من جمعية الإتحاد والترقي إلى علمانيي اليوم. والعمشاء تصبح بصيرة في دار العميان، كما يقول المثل. ذلك أن ضعف التكوين والبحث وتهميش المفكرين الحقيقيين ومحاصرتهم وتراجع قدرة الأجيال على التأمل والتعامل النقدي مع المعطيات وإشغال الرأي العام بثقافة الاستهلاك ومباريات كرة القدم هي عوامل تسمح بتحوّل الخطابات الساذجة إلى مشاريع فكرية ضخمة، وتمكن من تركيب التاريخ تركيباً مزيفاً يتلاءم مع العقول البسيطة للأيديولوجيين، وتعمل على ترويج المنتوج بالاستفادة من قوة التكنولوجيا وثورة الاتصالات الحديثة التي يتناسى هؤلاء أنها غربية المصدر أيضاً.
برنامج «الإسلاميون» على الجزيرة خصص الجزء الأكبر منه للحديث عن الأفغاني وعبده ورشيد رضا. وعلى طريقة اللمحات الإعلانية والدعائية، لم يظهر الإسلاميون إلا في الدقائق الخمس الأخيرة للبرنامج، فاختلطت الأصولية بالإصلاحية اختلاطاً فجّاً، وذاك كان بيت القصيد وحقيقة المبتغى. فهذا البرنامج (وأشباهه) يؤكد خطورة اختراق بعض الفضائيات مجال التاريخ لترسيخ رؤى تمجيدية بحق البعض وإقصائية بحق البعض الآخر، والتلاعب بمعطيات التاريخ خدمة لأغراض أيديولوجية وسياسية مشبوهة. وهل يمكن للدراسات التاريخية الحقيقية، وهي التي أصبحت محاصرة في الجامعات نفسها، أن تقاوم جحافل التحريف الأيديولوجي وقد أصبح يتوسل تقنيات الاتصال الأكثر تطوراً؟ وإلى أي مدى سيتواصل تراجع الوعي التاريخي في الخطاب العربي إلى درجة أن ما كان انتقده قسطنطين زريق في «نحن والتاريخ» (1959) وعبدالله العروي في «العرب والفكر التاريخي» (1970) أصبح عهداًُ ذهبياً بالمقارنة بالاستلاب التاريخي الذي تعمقه التكنولوجيات الحديثة حالياً؟
الحياة