صفحات العالم

طبـــول حربيـــن

عباس بيضون
يقول أسعد شفتري في فيلم مونيكا بورغمان ولقمان سليم «أولها نجوى وآخرها، أربع شهادات عن حروب ماضية قدماً» أن القضية حين تغدو أعلى من الإنسان تخرج حاملها في نفسه فيغدو ذراع القضية وآلتها، فيفعل كل شيء غير دار وغير مسؤول، ويجرم ويقتل خفية عن نفسه. مثله الأول في ذاته فهو مسيحي تلقى تربية مسيحية مسالمة وما كان ليحمل سكينا في جيبه لولا أن قام في روعه ان المسيحية مهددة وان هذه قضية فوق كل اعتبار، فقتل وأثخن في القتل كما يقال وهو عند نفسه غير مسؤول فالقضية هي التي وتتطلب وتأمر وهو لا يفعل سوى ان ينوب عنها او يصدع لها. قال شفتري في حوار بعد الفيلم انه اجرم اكثر من الثلاثة الذين تلوه في الشهادة مجتمعين، وانه لا يزال بعد كل هذه السنين يصادف آثار جرائمه، كتلك المرأة التي اتته من قريب تستعلم عن ابنها المختفي، ووجد بعد حساب بسيط ان قد يكون بـ50% قاتله. لا نريد بالطبع ان نهنئ أسعد شفتري على وضوحه. ما فعله كما قال، لا يمكن الخروج منه، ما من تعويض كاف لكل هذه الجرائم. يعرف شفتري الواضح امام نفسه ايضا انه لا يستطيع ان ينجو من ماضيه، لا يقدم لنفسه أي عزاء. إنه يفعل فقط ما يستطيع ليبلغ الآخرين ما غرق فيه، ان يقدّم تجربته كما هي عسى ان يتعلم منها الآخرون. يقول انه صعق عندما وجد ابنه يتحدث باشمئزاز عن المساجد، كأن لم يحصل شيء، الابن قابل ليعيد سيرة الأب، وكل هذا الوعي المر الذي توصل إليه الأب بشقاء عشرات السنين يمكن ان يذهب هباء.
اريد ان أقف هنا، ما يقوله شفتري في الفيلم وفي كل مكان يدعى إليه، لا يهمني ما يبني عليه نضالياً. اشك في ان يستطيع الأقران او الأبناء ان يستوعبوا. سيشق على الجميع ان يفهموا كيف لا تكون القضية أعلى من الإنسان. كيف تكون المثاليات، وخاصة المثاليات من أي نوع، الوطنية والقومية والدينية والمساواتية والليبرالية ايضا، ماكينات للشر والجريمة. الأمثلة كثيرة في التاريخ القريب والبعيد ولا يمكن تقدير ما سفك من دم في سبيل طوباويات حقيقية. بيد ان من الصعب ان نتهم القضايا نفسها. من الصعب ان نتخيل قضية بدون هذا التعالي، ومن الصعب ايضا ان نجد قضية في مستوى حاملها او اقل منه. ثمة، وبقدر مواز، ميل الى تبرئة الأفكار من عواقبها القاتلة، تبرئة الأديان وتبرئة التورات وتبرئة الوطنيات وتبرئة الشيوعية مؤخراً وتبرئة الصهيونية. انها طاحونة. تبرئة الجريمة اولا لأنها الحرب، لأنها الثورة وفي نهاية الأمر لانها القضية ثم تبرئة القضية، تبرئة الفكرة والمثال من الجريمة التي تمت باسمهما. لعبة مفرغة لكنها تجوز دائماً. لم يشأ الياس عطا الله ان يتهم قضيته ولكنه ايضا لم يشأ ان يتهم نفسه. لم يخنق بيديه لقد اعطى أوامر وللحرب ظروفها، ليس في المسألة امر شخصي، لا داعي للندم ولكن لأخذ العبرة والدرس وهما «اقسى من الندم».
في الحوار الذي تلا والذي انصبّ تقريباً، ليس بدون سبب، على أسعد شفتري، وجد من يستخف بالاعتذار نفسه. قد لا يكون، بموجب هذه النظرة، سوى طريقة لغسل الضمير والتطهر والعودة بلا ذنب. من القبيل نفسه كان سؤال عن فعالية الاعتذار وعن قيمته العملية. وحين تطرّق الكلام الى الاعتذار الفلسطيني الذي تم بدون «طلب اعتذار مقابل». وُجد من يراه منافقا ووجد من يراه ضعيفا. اريد من الاعتذار ان يكون اعتذار الأقوياء وان يقوله القوي والمنتصر، كأنه عفو عند المقدرة، ولا قيمة لما يقوله الضعيف، فقد يكون بداعي الضعف وقد يكون كاذباً.
احسب ان جانباً من هذا النقاش لم يرد ان يفهم موقف شفتري الإشكالي. لا يريد أسعد شفتري ان يغسل ضميره فهو صاحب ذنب لا سبيل الى تعويضه. لقد اجرم اكثر من الثلاثة مجتمعين، كما قال، ولا تزال جرائمه أمامه. ليس مطلب شفتري البراءة، ان معاناته اساس لكن غرضه ليس شخصياً. ما يهمه هو ان لا ندع القضية، أي قضية تقتل بأيدينا او ان نجرم باسمها. احسب ان عدداً من المناقشين لم يرد ان يتهم القضية اذ لا يزال متشبثا بقضيته ولا يريد ان يساويها بالجريمة. لا جديد في فكرة شفتري عن عبودية القضايا الا معاناته الشخصية لها. لكن الكثيرين، وربما الاكثر، لا يتصوّرون قضية بلا تضحية، تضحية بالذات او بالآخر. لا يتصوّرون قضية بلا شهداء وبلا قتلى، القضية هكذا توضع دائما على مستوى الموت والحياة ولا تكون الا اقنوما او مثالا. يضع شفتري تجربته في الكفة الاخرى للنقاش، لكنها تجربته وحده، ولا يكفي ذلك لأن تتوقف عن التفكير بأن ثمة قضايا تستحق الموت، وبالمقابل وهمساً، القتل. لا أريد ان اعمم لكن حين اسمع من يتكلم عن اعتذار الأقوياء او اعتذار المنتصرين افهم شيئاً آخر. ليس الاعتذار ولا يمكن ان يكون إلا لحظة ضعف. انه لحظة انتصار للضعف إذا جاز القول. انه بالضبط نفي للبطولة وللغلبة، بالضبط كلام المنكسر أيا كانت حاله. هل يريدونه العفو عند المقدرة، هل يريدونه «اذهبوا فأنتم الطلقاء». من كلام كهذا، أيا كان وعي صاحبه، اسمع طبول الحرب.
حين يقول سامي الجميل في مقابلة تلفزيونية انه يريد من تولي الكتائب لوزارة التربية توحيد كتاب التاريخ المدرسي. لا يسمع كثيرون من ذلك الحلم البريء لعديد من المثقفين بتوحيد الكتاب المدرسي في سبيل تربية وطنية جامعة. حلم بريء لأن من يقولون به يريدون التربية لا التاريخ وفي هذا مخاطر بعضها ايديولوجي، ولا نعرف كم يبقى من التاريخ عند ذاك او اذا كان يبقى تاريخاً اصلاً. حلم بريء لأنه يضع على عاتق كتاب ما لا يتحمله الواقع، حلم بريء ايضا لأنه يغفل ان مشروعاً كهذا حقيق بفتح صندوق باندورا ونكأ نعرات وحزازات بلا حد. لكنه مع ذلك حلم بريء لأن ما يقولونه يقولونه ببراءة ويوكلونه للمستقبل. حين يطرح سامي الجميل أمراً كهذا على الوزارة الحالية يعلم الجميع أنه بكر كثيراً ويعلمون ان طرحاً كهذا قد يضيف انقساماً الى الانقسامات، ويعلمون ان كتائبيا لا يتكلم عن توحيد كتاب مدرسي كمؤرخ وانما كمناضل، وان رؤية واحدة للتاريخ تحضر خلفه. لا اريد ان اشكك بنوايا الجميل فطالما تعينا من محاكمة النوايا، لكني لا استبعد ذلك النزق الايديولوجي الذي لا يميز بين التاريخ وتفسير التاريخ. هكذا يكون التوحيد ايديولوجيا وتحل رؤيا واحدة مكان الانقسام والتعدد، كما يسميان مؤقتاً على الأقل. هكذا نصل مجدداً الى القالب الاندماجي الصوري الذي كان في اساس الحرب اللبنانية. اسمع من جديد هنا طبول الحرب.
لا نعرف تماماً ماذا نعني بتوحيد الكتاب المدرسي اليوم، لا نشك في ان رواية الحرب اللبنانية اثنتان او ثلاث ولكل من وقائعها روايتان او ثلاث. لكن إذا نحينا عن هذا لا نعرف اجماعاً على التاريخ في أي بلد، وقراءة التاريخ مثلها مثل أي قراءة متغيرة متجددة. لكن حين يقال ان الكتائب خسرت وزارة التربية بسبب الخوف من اطروحة سامي الجميل، نفهم ان هذا الخوف لا يرجع الى اليوم ولا الأمس القريب، ان ما استفزه كلام سامي الجميل لدى تيار المستقبل، بما يعنيه، هو بدايات الحرب اللبنانية، وان الكتائب التي لا يريدها انصار التيار ان تقوم على تقرير التاريخ المدرسي ليس كتائب اليوم الحليفة، وانما كتائب الأمس البعيد العدوة، هذا ما يحدث في الفريق الواحد الذي خاض معاً ما يسمى بثورة الأرز. نتساءل عندئذ عما إذا لم يكن في لا وعينا طبقات عدة للصراع. وان الطبقة الغائرة التي كنا نحسب انها ردمت لا تزال حية وفي الامكان الرجوع إليها او الحك عليها عندما يستدعي الظرف. عندما قرر وليد جنبلاط الخروج من الصراع الحالي فعل ذلك عبر الرجوع الى الحركة الوطنية وبدايات الحرب الأهلية اللبنانية، أي بالتراجع الى الحرب السابقة. هل يمكننا ان نفكر بحربين متعالقتين تتبادلان الاصداء. هل يمكننا ان نفهم هكذا سلوك الأطراف اللبنانية المتصارعة. اليوم، ورغم تغير التحالفات والمواقع، هل نستطيع ان نتحقق من المكان الذي تصدر عنه الطبول. هل هي من حرب سابقة أم اسبق أم من مكان بين الحربين.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى