تركيا الجديدة تعلن عن نفسها
د. وحيد عبد المجيد
تركيا جديدة تبرز هذه الأيام متجاوزة إرثها الكمالي العلماني والعثماني الإسلامي وحافظة في الوقت نفسه لأفضل ما في هذا الإرث، أو ربما يكون هذا هو ما تطمح إليه حكومة “حزب العدالة والتنمية” والنخبة المتعاطفة معها في دوائر سياسية أخرى. فهي ليست “عثمانية جديدة”، بخلاف الميل المتزايد إلى اعتبارها كذلك. ويصعب أن نعتبر توجهاتها الراهنة تعبيراً عن حنين إلى ماض عثماني، أو عن توجه يرمي إلى إعادة اعتبار للإمبراطورية التي انتهت أسوأ نهاية قبل ثمانية عقود ونصف العقد، بعد أن كانت قد أصبحت “رجل العالم المريض” في مطلع القرن الماضي.
تركيا الجديدة تولد بعد مخاض كان عسيراً بسبب صعوبة الانسجام بين “الجينات” التي ورثتها عن تجربتين على طرفي نقيض. لكنها تبدو اليوم في صحة طيبة على نحو قد يؤهلها لاستثمار القبول واسع النطاق الذي تحظى به إقليمياً ودولياً. دبلوماسيوها مرحب بهم في طهران ودمشق، كما في القاهرة وعماَّن، وفي تل أبيب رغم كل شيء، ومن واشنطن إلى موسكو وبكين. وما من دبلوماسيين في العالم يحظون اليوم بمثل هذا الترحيب في بلاد تختلف سياساتها وتتعارض مصالحها.
إنها تركيا الجديدة التي تسعى إلى إعادة ترتيب خريطة العلاقات الإقليمية وصوغ توازنات جديدة عبر سياسة ناعمة لكنها فاعلة.
يلفت تحرك تركيا الشرق أوسطي الأنظار في المقام الأول، رغم أن هذه المنطقة ليست إلا إحدى وجهات حركتها متعددة المحاور. غير أن حضورها القوي في أزمات الشرق الأوسط يخطف الأضواء من تحركاتها في مناطق أخرى. حضور متزايد؛ من فلسطين والصراع العربي -الإسرائيلي، إلى العراق ومشاكله المعقدة، إلى إيران وملفها النووي وعلاقاتها مع الغرب. وحتى الأزمة السورية -العراقية، تحركت تركيا سعياً إلى حلها بينما وقف النظام العربي الرسمي بلا حول ولا قوة!
تتحرك تركيا سعياً إلى حل أزمات تعرف مدى صعوبتها، مع الحذر من التورط فيها أو الانغماس الزائد عن الحد. حساباتها تبدو حتى الآن دقيقة إلى حد كبير. وهي تعطي أولوية قصوى لحل مشاكلها مع دول الجوار في إطار الهدف الذي طرحه مهندس سياستها الخارجية الدكتور أحمد داود أوغلو، وهو “تصفير المشاكل والنزاعات” أو السعي إلى “صفر من المشاكل مع دول الجوار جميعها”. وهذه مهمة بالغة الصعوبة بالنظر إلى ميراث السلطنة العثمانية وحدة المشكلة الكردية في تركيا وآثارها الإقليمية.
تبدلت علاقاتها مع سوريا من حافة الحرب وحشد القوات على الحدود عام 1998 إلى التعاون وفتح الحدود بلا قيود بعد أن تنامت العلاقات وتوطدت، خلال سنوات قليلة، وبين دولتين تختلفان إلى حد التعارض أحياناً في خياراتهما الداخلية والخارجية معاً.
وفي العراق أيضاً يزداد حضور تركيا التي تسعى إلى بناء علاقة استراتيجية معه على المستوى الاقتصادي، وإسدال الستار على مرحلة كان اقتحام حدود هذا البلد العربي والتوغل في أرضه أمراً روتينياً. وأظهرت الدبلوماسية التركية ذكاءً لم يكن من سماتها فيما مضى عندما أحسنت استثمار ورقة المياه بشكل إيجابي لتعزيز حضورها في العراق. وتطمح تركيا الآن إلى أن تكون هي، وليس الأردن أو سوريا أو إيران، البوابة الاقتصادية الرئيسية للعراق. ويعد تحركها في منطقة آسيا الوسطى، الحيوية بالنسبة إليها، امتداداً لدورها الشرق أوسطي، فضلاً عما ينطوي عليه من دلائل تؤكد جدية سعيها إلى “تصفير المشاكل والنزاعات”. فلم يمنعها الميراث العثماني، ذو الوطأة الثقيلة على علاقاتها مع أرمينيا، من التحرك لتطبيع هذه العلاقات. وبعد أن كان هذا يبدو مستحيلاً، بسبب ما تعتبره أرمينيا مذبحة ارتكبتها القوات العثمانية في حق الأرمن عام 1915، نجحت تركيا الجديدة في وضع الأساس اللازم لتحقيقه في اختراق غير عادي.
وفي طورها هذا، لم تتخل تركيا عن المحور الأطلسي. فهي حريصة على علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة وأوروبا، بينما تضع سقفاً لصلاتها مع إسرائيل. لكن هذا السقف لن يكون منخفضاً، بخلاف ما يتوقعه بعض المراقبين من جراء الفتور الذي يخيم على علاقات الجانبين منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وحتى طلب تركيا استبعاد إسرائيل من تدريبات جوية لطائرات “الناتو” كان مقرراً أن تجرى في سمائها، مما أدى إلى إلغاء تلك التدريبات. فتركيا الجديدة تحسب خطواتها جيداً، وتزن حركتها. لذلك شارك أسطولها في مناورات بحرية لسفن طائرات “الناتو” بالاشتراك مع السفن الحربية الإسرائيلية في مياه المتوسط بعيد إلغاء التدريبات الجوية.
وعندما احتجت إسرائيل على عرض مسلسل “الفراق” التركي على شاشة التليفزيون الرسمي، بدعوى أنه يحض على كراهيتها ويظهر جيشها في صورة وحشية، تدخلت حكومة أنقرة لحذف مشاهد منه. فليس تحولاً نوعياً، إذن، ذلك الذي تمر به العلاقات بين تركيا الجديدة وإسرائيل، وإنما تغير كمي. فما تريده تركيا هو خفض سقف هذه العلاقات التي بلغت أعلى ارتفاع لها في منتصف العقد الماضي.
وتعرف نخبة الحكم التركية الراهنة ذات الخلفية الإسلامية، مثلها في ذلك مثل النخب العلمانية، ارتباط سياستها تجاه إسرائيل بعلاقاتها مع الدول الغربية. وهي حريصة على تنمية هذه العلاقات، لأن اتجاهها إلى الشرق لا يعني التخلي عن أملها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ذات يوم، وإنما يدعم هذا الأمل وفق ما يعتقده أوغلو الذي يؤمن بالتحرك شرقاً لجني الثمار في الغرب.
وفي غضون هذا كله، تستكمل تركيا الجديدة بناء مقومات قوتها الشاملة. فاقتصادها الذي يحتل المرتبة السادسة عشرة بين الاقتصادات العالمية، يبشر بما هو أكثر. ومجتمعها يزداد حيوية ومشاركة على نحو يجعله قاعدة لدولة قوية بالمعنى الشامل، وليس فقط على صعيد القوة العسكرية التي لا تنقصها.
ولذلك فربما يكون أهم ما ينقصها هو إعادة ترتيب بيتها الداخلي عبر حوار وطني يستهدف التوافق على مقومات الدولة الجديدة بين نخبة الحكم الحالية والنخب العلمانية سياسية وعسكرية وثقافية، وإنهاء المشكلة الكردية التي وضُعت فعلاً على بداية طريق الحل، وتعزيز الديمقراطية ورفع القيود التي مازالت مفروضة على حرية التعبير ليس فقط بالنسبة إلى الكرد ولكن على نطاق أوسع.
فقد كانت خطوة مبشرة تلك التي أقدمت عليها حكومة أردوغان عندما أعادت الجنسية إلى الشاعر الكبير ناظم حكمت، والاعتراف بأن تجريده منها عام 1951 كان خطأ كبيراً. لكن هناك عشرات المثقفين الكرد والأرمن، والأتراك أيضاً، الذين ينبغي إعادة الاعتبار إليهم كذلك. وعندئذ تكون تركيا قد استكملت مقومات ولادتها الجديدة وصارت مؤهلة لدور عظيم ينتظرها وقد يتجاوز النطاق الإقليمي الشرق أوسطي.
الاتحاد