حكومة إردوغان تطرق باب المحرم الجمهوري
د. بشير موسى نافع
في تعليقه على مبادرة حكومة العدالة والتنمية لحل المسألة الكردية في البرلمان التركي، قال أونور أويمان، نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض ‘ألم تبكي الأمهات زمن تمرد الشيخ سعيد؟ ألم تبكي الأمهات زمن تمرد درسيم؟’ خلال الأيام القليلة التالية، كانت تركيا تموج بالاحتجاجات ضد أويمان، النائب عن الحزب الذي يدعي حراسة الميراث الأتاتوركي الجمهوري. وحتى زعيم حزب الشعب، داينيز بايكال، الصوت الأعلى في معارضة المبادرة الكردية، لم يخف امتعاضه من كلمات نائبه. لفهم هذا الالتباس، لابد من تفكيك الكلمات المشحونة بالمعاني والتواريخ التي تحدث بها أويمان.
أولاً، بكاء الأمهات، ويقصد به الرد على ما أصبح أقرب إلى شعار لمبادرة حكومة إردوغان. فقبل عدة أسابيع، عندما وقف إردوغان للدفاع عن مبادرة حكومته، قبل أن يفصح عن تفاصيلها، أشار رئيس الوزراء التركي إلى أن الأمهات على جانبي الصراع المحتدم منذ منتصف الثمانينيات بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني يبكين أبناءهن القتلى باعتبارهم شهداء، وقد جاء الوقت لوضع حد لبكاء الأمهات. ‘دع أماً أخرى لا تبكي بعد اليوم’ تحول إلى عنوان غير رسمي لأحاديث مسؤولي حكومة العدالة والتنمية حول مشروعهم لإنهاء الصراع؛ وهو عنوان عاطفي بالتأكيد، يراد به التفاف القطاع الأوسع من الرأي العام حول المبادرة؛ ولكنه أكثر من عاطفي أيضاً، فالأتراك يعرفون أن هذا الصراع، الذي أوقع 45 ألف إصابة حتى الآن، كان صراعاً باهظ التكاليف بلا شك، ويستحق مباردة شجاعة، وتنازلات من الطرفين لإنهائه. كلمة أويمان أريد بها تفريغ شعار المبادرة من محتواه، أراد تذكير الأتراك بأن بناء الجمهورية والحفاظ عليها وعلى وحدتها لم يكن بلا ثمن طوال التسعين عاماً الماضية من عمرها. وللتأسيس لمقولته، عاد أويمان إلى سنوات تأسيس الجمهورية.
الخطوة الكبرى الأولى التي صاحبت قيام الجمهورية التركية لم تكن إلغاء السلطنة وحسب، لأن إلغاء السلطنة صادف دعماً واسعاً في أوساط الشعب من أبناء ما تبقى حراً من البلاد العثمانية. ولم يكن إعلان الجمهورية ممكناً أصلاً بدون إلغاء السلطنة. الخطوة التي لم يفهم أكثر الأتراك مبرراً لها، كانت إلغاء الخلافة، التي اتخذت بعد أكثر من عام بقليل على إلغاء السلطنة وإعلان الجمهورية. وبالرغم من أن المجلس الوطني الكبير (البرلمان التركي)، حيث اتخذ قرار الإلغاء، كان في أغلبه موالياً للرئيس مصطفى كمال، الذي اقترح القرار أصلاً وعمل على تبنيه، فقد شهدت قاعته معارضة ملموسة لإلغاء الخلافة. ولكن المعارضة الأكبر برزت في الأوساط الدينية. أحد فصول المعارضة العنيفة جاءت من المنطقة الكردية، حيث تمتعت الطريقة الصوفية النقشبندية بنفوذ واسع. وقد قاد الشيخ سعيد، الكردي والنقشبندي، في منتصف العشرينات من القرن الماضي، تمرداً مسلحاً في جنوب ـ شرق البلاد، شكل تهديداً ملموساً للجمهورية الوليدة، ليس فقط بالمعنى العسكري، ولكن أيضاً للتعاطف السياسي معه حتى في العاصمة أنقرة. في مواجهة تمرد الشيخ سعيد، أعلنت الحكومة الجمهورية الأحكام العرفية، حلت الأحزاب المعارضة ووضعت نهاية للتعددية السياسية، وأرسلت حملة عسكرية هائلة إلى المناطق التي نشط فيها أو سيطر عليها المتمردون. قمع التمرد بقسوة ووحشية، وحوكم المتمردون ومن أشتبه بالتعاطف معهم أمام محاكم عرفية، أصدرت أحكاماً بالإعدام بالجملة، بما في ذلك إعدام الشيخ سعيد. في نهاية تمرد الشيخ سعيد، كما قال أويمان، بكى الكثير من الأمهات.
الحادثة الثانية التي أشار إليها النائب الجمهوري، حادثة دورسيم، أكثر تعقيداً. دورسيم هو الأسم القديم للمدينة التي تعرف اليوم بتانجيلي، في جنوب البلاد، والتي تعتبر مركزاً لأبناء الطائفة العلوية في الأناضول التركي. ولكن، وبينما ينحدر أغلب العلويين في تركيا من أصول تركية، فإن أبناء هذه المدينة من العلويين يعودون إلى أصول عشائرية كردية. وليس من الواضح، ولا حتى الآن، ما إن كان الأكراد العلويون يعطون الأولوية لهويتهم الطائفية أو لهويتهم الإثنية؛ فكل من الأكراد والعلويين يعتبر أقلية، إن نظر إلى أن الشعب التركي في أغلبيته من الأتراك المسلمين السنة. المهم، خلال السنوات الأولى من حكم مصطفى كمال، ونظراً للحملة الشعواء التي قادتها الدولة ضد المؤسسة الإسلامية في البلاد، التي هي مؤسسة سنية، وضد الهيمنة الإسلامية السنية على ثقافة الشعب وتقاليده الحياتية، رحب العلويون في قصر نظر تاريخي بالحكم الجمهوري، سيما أن النظام الجمهوري استبطن وعداً بالمساواة والمواطنة المتكافئة. بدت السياسة العلمانية الراديكالية للحكم الجديد وكأنها سياسة أقلوية، إن صح التعبير، ولم يكن غريباً بالتالي أن تجد ترحيباً من الأقليات الطائفية. وسرعان ما نظر إلى أتاتورك في الأوساط العلوية باعتباره أحد الممهدين للإمام المهدي.
بيد أن علمانية الجمهورية كان لها وجه آخر. كما كل الدول المركزية الحديثة، والشمولية منها على وجه الخصوص، قادت الجمهورية التركية انقلاباً اجتماعياً شاملاً، واسع النطاق ومتعدد الوجوه، ساعية إلى تصفية التعددية الثقافية والقومية والدينية، وتكريس نموذجها الخاص للاجتماع التركي.
وضعت الدولة الجمهورية نصب عينيها نموذجاً للتركي الجديد، التركي المتحضر، واستخدمت وسائل العنف والإقناع والاضطهاد والنفي، معاً، لفرض هذا النموذج. وهكذا، فإن الترحيب العلوي الأولي بالسياسة الجديدة سرعان ما انقلب إلى ردود فعل، كان التمرد الذي قاده الزعيم العلوي الكردي، سيد رضا بمنطقة درسيم، في 1937، أشدها حدة. وكما قمع تمرد الشيخ سعيد النقشبندي قبل عقد واحد بالقوة العسكرية المجردة، كذلك واجهت الدولة تمرد درسيم. من الجو، قصفت تجمعات المتمردين بالطائرات، وعلى الأرض، كانت حملة عسكرية تعيد احتلال المدينة وقراها بأقصى درجات العنف وبدون تمييز بين مسلحين وغير مسلحين، متمردين وغير متمردين. وكما في ثورة الشيخ سعيد، انتهى تمرد درسيم، تماماً كما أشار أويمان، ببكاء الكثير من الأمهات.
ورثت الجمهورية التركية من السلطنة العثمانية مجتمعاً متعدداً، إثنياً ودينياً وطائفياً. هذا التعدد لم يكن سمة الاجتماع التركي وحسب، بل سمة كل بلاد المشرق العثمانية، من العراق إلى مصر، ومن سورية إلى اليمن. وفي رد فعل على الهزيمة الطاحنة في الحرب الأولى، وعلى التكاليف الباهظة لحرب الاستقلال، وعلى انزلاق بعض الجماعات العثمانية، مثل قطاعات من الأرمن ويونان الأناضول، إلى التآمر مع العدو الخارجي، اندفعت الجمهورية نحو صناعة شعب تركي جديد، وإنشاء هوية تركية ـ علمانية واحدة، هوية على صورة الجمهورية ذاتها. كانت السياسة الجمهورية الجديدة سياسة ذات جذور أوروبية، ولدت من مدارس علم الاجتماع الفرنسي والقومية الفرنسية والألمانية؛ ومثلت انقلاباً على الميراث العثماني وتقاليد الملل العثمانية.
عندما كان قادة الجمهورية يعلنون عزمهم على دفع تركيا الجديدة إلى الالتحاق بركب الحضارة، لم يقصدوا علمنة الدولة والمجتمع وتقويض أسس المؤسسة الإسلامية السنية وحسب، بل وقصدوا أيضاً بناء هوية تركية قومية ذات حدود واضحة وقاطعة. خلال العقود القليلة التالية تحولت لحظة التأسيس الجمهوري إلى دوغما لا تمس، إلى اعتقاد وأيديولوجيا للدولة، تم زرعها في الوعي الجمعي للشعب التركي بكل الوسائل، من التعليم والإعلام الرسمي، إلى الثقافة العسكرية ونشاطات الجمعيات الرسمية وشبه الرسمية.
لم تتغير اللغة التركية، حرفاً ومحتوى، وحسب، ولكن أيضاً فرض حظر صارم على التحدث باللغة الكردية أو العربية، وعلى استخدامهما في الكتابة والتعليم. أجبر الأتراك، بغض النظر عن أصولهم الإثنية، على تبني أسماء اعتقد بأنها تركية، ضمن لوائح حددتها أجهزة الدولة المختصة. كما ألغيت أسماء قرى وقصبات ومدن، وأعطيت أسماء جديدة، قيل للأتراك أنها أسماء تركية أصيلة. وسرعان ما أصبح كل تساؤل، وإن خافتاً وخجولاً، للنموذج الرسمي يعتبر تهديداً لوحدة البلاد وسيادتها على أرضها وحدودها، وخيانة لميراث المؤسس ودماء شهداء حرب الاستقلال. وليس حتى منتصف الثمانينات، عندما أطلق حزب العمال الكردستاني حملته المسلحة الدموية ضد الدولة التركية، مستخدماً وسائل العنف الإرهابي المعهودة، أن بدأت قطاعات من الشعب التركي في رؤية الثمن الباهظ للسياسة الأحادية الرسمية التي بنيت عليها قواعد الجمهورية. هذه هي الخلفية التي أدت إلى تبني حكومة العدالة والتنمية مبادرة غير مسبوقة لوضع نهاية للصراع الدائر بين العمال الكردستاني والدولة. في أحد وجوهها، تعتبر مبادرة العدالة والتنمية طرقاً لمحرمات الجمهورية، طرقاً أوسع نطاقاً وأبعد صدى من محاولة إنهاء حظر الحجاب التي رسبت أزمة ثقيلة الوطأة في السياسة التركية قبل زهاء العامين. في مواجهة قضية الحجاب، وظفت المعارضة خطاب الخطر الذي يتهدد الأسس العلمانية للجمهورية؛ ولكن في مواجهة المبادرة الكردية، يستخدم أنصار الميراث الجمهوري اتهامات الخيانة والخطر الذي يتهدد وحدة الأرض التركية وسلامة البلاد وبقاء الجمهورية.
خلف ذلك كله ثمة حقيقة يجب أن لا تغيب وسط الجدل الكبير الذي يحيط بمبادرة حكومة إردوغان: أن حزباً تركياً حاكماً أو رجل دولة لم يتجرأ من قبل على التعامل مع هذه المسألة الشائكة من مواريث الجمهورية كما يحاول الآن حزب العدالة والتنمية ورئيس حكومته. وليس من المصادفة أن جذور هذا الحزب (العلماني – الليبرالي – المحافظ) هي جذور إسلامية. فقبل أن تكتشف الليبراليات الأوروبية التعددية الثقافية والدينية، كان ثمة ميراث تعددي، ثقافي وديني، عاش قروناً من الزمان وأسس لسلم اجتماعي طويل.
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي