الأسد الابن والحريري الابن: الإرث الذي حملاه في نعش
نقولا ناصيف
-1-
عندما يذهب رئيس الحكومة سعد الحريري إلى دمشق، فإن أكثر من قاسم مشترك بينه وبين الرئيس السوري بشّار الأسد ستتوافر لاجتماعهما، من غير أن يجهرا بها، وقد لا يخوضان فيها أيضاً، فكل منهما يحمل على كتفيه إرثاً ثقيلاً لم يكن شريكاً في صنعه. إلا أنه ـــــ بحسب عبارة جورج نقاش في خلافة فيليب تقلا لشقيقه سليم عام 1945 ـــــ وصل إلى السلطة في نعش أبيه، وإن اختلفا بفارق جوهري، هو أن الأسد الابن استعد منذ عام 1994 لخلافة والده حين توفي عام 2000، بينما قاد الاغتيال البشع للرئيس رفيق الحريري عام 2005 ابنه إلى حمل إرث والده في زعامة الشارع والحكم، من غير أن يكون مستعداً لها، ومن غير أن يتوقعها بالتأكيد بمثل هذه السرعة. وعندما أصبحا وجهاً لوجه عام 2005، كان على الأسد الابن حماية نظامه بالانحناء للعاصفة بعدما رفض القرار 1559، وعلى الحريري الابن رفع التحدي من أجل ثأر شخصي أضحى سياسياً بالنسبة إلى فريق كبير من اللبنانيين. وها هو الحريري الابن والأسد الابن اليوم، على أبواب زيارة دمشق، يقلبان الأدوار: الأول ينحني للعاصفة كي يتصالح مع مَن عدّه عدوّاً له، والآخر يراجع موقع لبنان في ضوء نظامه لا بميزان عواطفه.
هناك أيضاً ما سيتخلى عنه الرجلان عندما يجلسان وجهاً لوجه في قصر المهاجرين في دمشق. لن يذكّر الأسد الحريري بأنّ والده كان يجلس إلى الكرسي نفسه الذي يستوي عليه هو بعد خمس سنوات، وقد لا يذكّره بعلاقة التحالف التي ربطت الرئيس الراحل بدمشق رغم ما شابها أحياناً من خلاف في وجهات النظر. تماماً على نحو ما خاطب به الرئيس حافظ الأسد عام 1977 رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، بعد أربعين والده. ذكّره بجلوسه إلى ذلك الكرسي آخر مرة في اجتماعهما الأخير يوم 21 آذار 1976 طوال تسع ساعات، انتهت بخلاف حاد آل إلى افتراقهما نهائياً. بدوره رئيس الحكومة اللبنانية، عندما سيجلس قبالة الرئيس السوري، سيتصرّف على الأرجح كأنه طوى صفحة الماضي. ولم يقل في مهرجانات قوى 14 آذار أعوام 2006 و2007 و2008، وقبلها في إحياء ذكرى اغتيال والده في 14 شباط من تلك الأعوام، إن قتلته سيُشنقون، وإنه والعدالة الدولية سيأتيان بهم حيث هم ـــــ ولم يكن يعني سوى دمشق ـــــ وسيشهد بنفسه شنقهم. وصف النظام السوري على مرأى مئات الألوف من أنصاره ومسمعهم بأنه سفّاح. مع ذلك لم يقل الحريري الابن ما قاله في المناسبات نفسها جنبلاط في الرئيس السوري من نعوت. بيد أنه اتهمه صراحة بالاغتيال. عندئذ كشف هوية مَن يرغب في رؤيتهم على أعواد المشانق. بذلك يختلط الشخصي بالسياسي، ولا يعود سهلاً تمييز رئيس الحكومة عن زعيم الغالبية وقائد العائلة ووارث الرئيس الراحل.
عندما سيجلس الأسد الابن والحريري الابن، سيتحدّثان عن سوريا ولبنان منذ عام 2009 أكثر مما سيتحدثان عمّا كان بينهما، أو هكذا يفترض. علماً بأنّ كلاً منهما يعرف الإرث الذي يحمله الآخر ولا بد أنه يعرف، كذلك، حدود مقاومته له أو تجاوزه إيّاه.
عندما وصل الأسد الابن إلى رئاسة بلاده، كان قد انقضى من عهد الوصاية السورية على الحكم اللبناني 11 عاماً، قبلها كان عهد الوصاية نفسها على حلفاء دمشق في لبنان قد استمر 22 عاماً منذ دخلت سوريا في مواجهة عسكرية مع المسيحيين في لبنان عام 1978. وما إن تسلم السلطة حتى أوحى الرئيس السوري الحالي بحكم مختلف عن والده الراحل، بدءاً بمقاربة جديدة للعلاقات السورية ـــــ اللبنانية، فأجرى حتى نهاية عام 2004 خمس مراحل إعادة نشر جنود جيشه، وتحدّث مراراً عن أخطاء، وحاول الانفتاح على بكركي. كان قد تسلم منذ 1998 ملف لبنان من نائب الرئيس عبد الحليم خدام، وعهد به إلى اللواء غازي كنعان حتى عام 2002 قبل أن ينتزعه منه ويعيده إلى داخل سوريا. ورث بذلك وزراً حمله خدام وكنعان، ومعهما العماد الأول حكمت الشهابي، من غير أن
عام 2005 انحنى الأسد للعاصفة، عام 2009 ينحني لها الحريري بدوره
يتجاهل أحد على مرّ حقب 1975 و1998 بين يدي خدام والشهابي، ثم لاحقاً مع كنعان بدءاً من عام 1983، أن الرئيس السوري الأب وَثِق بإدارة رجاله لملف لبنان وإحكام قبضتهم عليه. على مرّ هذا الوقت وُلد عهد وصاية ظلّ بعيداً منه أحد أبرز رجالات الرئيس السوري الراحل، وأقرب المستشارين المسموعي الكلمة لديه، وأقرب المستشارين المسموعي الكلمة لدى الرئيس الحالي، وهو معاون نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد ناصيف الذي لم يزر لبنان طوال الأعوام الـ27 من عهد الوصاية اعتراضاً على الأداء الذي رافق العلاقات السورية ـــــ اللبنانية، وأغرق دمشق في أخطاء بعضها كان جسيماً. على طرف نقيض منه يكاد كل المسؤولين الأمنيين السوريين المتعاقبين، بدءاً باللواء ناجي جميل انتهاءً باللواء رستم غزالة، يكونون قد زاروا لبنان واختبروا أدوارهم فيه وتركوا ما لا يُنسى.
لم يقع الأسد الابن في الخطأ الجسيم إلا مع التمديد للرئيس إميل لحود، في ضوء ما أبلغه به معاونوه من ضرورة اللجوء إلى هذا الخيار في مواجهة القرار 1559، وقد وجد فيه تهديداً مباشراً لنظامه، مع تصاعد خلافه مع فرنسا، خلال حضّه مداورة على سحب جنوده من لبنان عام 2004. منذ عام 2000 وحتى تنحّيه توطئة لانشقاقه عن النظام في كانون الأول 2005، لم يكن خدام يتردّد في القول للرئيس إن وجود الجيش السوري في لبنان ضرورة ملحّة لاستمرار نفوذ دمشق فيه.
كل ذلك لم يُبرّئ الأسد الابن ممّا صنعه النظام في لبنان، فاعترف دوماً بأخطاء ارتكبت قبل أن يُحمل على إخراج جيشه منه، وبعد ذلك أيضاً.
بدوره، الحريري الابن ثمّة ما ورثه أيضاً.
-2-
الأسد الابن والحريري الابن: صفحة أولى بين وارثين لم يتعارفا
لم يُعرَف عن رئيس الحكومة سعد الحريري علاقة سياسية جمعته بمسؤول سوري، ولا اجتمع قبلاً بالرئيس بشّار الأسد. بالتأكيد سمع من والده الرئيس الراحل رفيق الحريري انطباعات عن مسؤولين سوريين صادَقهم، وعن علاقته بالرئيس السوري الأب ثم الابن التي مرت بمراحل تفاهم وأخرى تنافر، كانت تحمله باستمرار على بذل الجهود لمنعها من بلوغ المأزق، إلا أنه كان يلجأ أحياناً إلى الاعتكاف أو الخروج من الحكم تفادياً للقطيعة. وفي اليومين السابقين لاغتياله عام 2005، تحدّث هاتفياً إلى معاون وزير الخارجية وليد المعلم لفتح صفحة جديدة في الحوار مع دمشق، وهو خارج الحكم. وعلى غرار حليفه وصديقه النائب وليد جنبلاط، أوصد تماماً كل أبواب الحوار مع أي مسؤول أمني سوري. لم يشأ الحريري الأب، كما جنبلاط، عشية الاغتيال، الانفصال كلياً عن سوريا، واحتميا باتفاق الطائف لإعادة تنظيم علاقات البلدين، بما في ذلك إعادة نشر الجنود السوريين. لذا يصعب العثور على تصريح للرئيس الراحل يطالب بإعادة نشرهم، كالزعيم الدرزي. لكن دمشق فهمت كنه تمسّكه باتفاق الطائف.
للحريري الابن في دمشق، في حيّ أبو رمانة الراقي، منزل لوالده مقفل منذ اغتيل الرئيس السابق قبل أربعة أعوام. وكالرئيس السوري، ورث وزر علاقات لبنانية – سورية لم يشارك في صنعها، إلا أنه تلقفها في أسوأ حقبة عرفها البلدان منذ مطلع الأربعينيات.
لم يبدأ عهد الوصاية السورية مع وصول الحريري الأب إلى رئاسة الحكومة عام 1992. ولم تكن تلك السنة أول معرفته بمسؤولين سوريين كانت علاقته ببعضهم تعود إلى أواخر السبعينيات عندما قرّر الاضطلاع بدور عام في بلده في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي للبنان في آذار 1978، مذذاك أصبحت دمشق بوابة حتمية لدخوله المعترك أتقن الرئيس الراحل وسائل الولوج إليها عبر الرياض، مرتين على الأقل قبل أن يصل إلى الحكم: في مؤتمري جنيف ولوزان عامي 1983 و1984 وسيطاً سعودياً بين اللبنانيين، وفي مؤتمر الطائف عام 1989 بالصفة نفسها. ومن اجل أن يحكم، كان عليه أن ينخرط في لعبة كان قد أدارها من دمشق وزير الخارجية ثم نائب الرئيس عبد الحليم خدام ورئيس الأركان العماد الأول حكمت الشهابي، وفي مرحلة متقدّمة اللواء غازي كنعان. الرجال الثلاثة الذين حمّلهم الرئيس حافظ الأسد ملف لبنان انتهوا بخيارات لم تتوقعها سطوتهم وقوة نفوذهم في النظام: أولهم انشق عنه فانتهى ملاحقاً ومعزولاً في باريس، وثانيهم لا يرى مفراً من مصالحة النظام كي يعود إلى بلده، وثالثهم انتحر.
ورث الحريري الابن عبء تلك اللعبة التي انتهت درامية باغتيال والده، وقد وجد خدام ينضم إليه في اتهام الرئيس السوري باغتياله ويصف نظامه بأنه ديكتاتوري، وبأنه حكم لبنان بعنف وأفسد فيه. واقع الأمر الذي لم يحمل الحريري الابن على الاجتماع بخدام مرة، علناً على الأقل منذ انشقاق الأخير عام 2005، أن نائب الرئيس كان صانع العلاقات اللبنانية – السورية بكل ما عنته في ما بعد كعهد وصاية. وجمع من حوله معظم مَن لا يزالون في قوى 8 آذار، ومعظم مَن أصبحوا في قوى 14 آذار. وهم جميعاً تقريباً – ما خلا مسيحيين يُعدّون على أصابع اليد – عملوا أو انتخبوا أو أثروا أو أفسدوا حين كان الملف بين يدي خدام، باستثناء الحريري الابن الذي بات عليه، منذ عام 2005، حمل وزر الثأرين الشخصي والسياسي في آن واحد. نما عهد الوصاية أيضاً في حكومات الحريري الأب من أجل أن يحكم الأخير، ولم يكن في مقدوره إلا إلقاء السلاح كلّما وجد نفسه في مواجهة مع دمشق. في أحسن الأحوال كان يلوذ بخدام وموقعه في النظام كي لا يفقد خياراته. كانت هذه حاله عندما أيّد التمديد للهراوي عام 1995 ورفض انتخاب لحود عامذاك، وحاله عندما تحفّظ عن انتخاب لحود عام 1998 ولكنه اقترع لإرادة الرئيس السوري، واستعاد الموقف نفسه عام 2004 عندما رفض التمديد للحود ولكنه صوّت له.
بعد عام 2005 بات على الحريري الابن الانتقام من نظام أمني سوري متشدّد في عهد الرئيس إلياس الهراوي، ونظام أمني لبناني متعاون مع نظيره السوري في عهد الرئيس إميل لحود. صار يعرف أيضاً، لأول مرة بعدما ألف أولى حكوماته عقب مخاض مضنٍ وبعدما ذهب رئيس الجمهورية ميشال سليمان إلى دمشق لشكرها على تسهيلها التأليف، أن والده الراحل لم يستطع منذ عام 1992 تأليف حكومة، ولا منذ عام 1996 تأليف لائحة انتخابية لا يسترضي بها النظامين الأمنيين نفسهما، ولا تكون في حكوماته ثم في كتلته النيابية ودائع لخدام والشهابي وكنعان، وأحياناً للعماد الأول مصطفى طلاس. ومن دون أن يكون لأي مسؤول سوري اليوم وديعة في حكومته، لم تكن لتبصر النور لولا أن سوريا أزالت آخر العراقيل من طريقه، كي يذهب هو الآخر إلى دمشق ويفتح أول صفحة في علاقة سياسية وشخصية بالنظام السوري، وبالأسد الابن، وصفحة جديدة بين دمشق ورئيس الحكومة اللبنانية.
بدورها دمشق التي لا تعرف كيف يفكر ويتصرّف، وبمَن يتأثر ويستعين في اتخاذ قراراته، ومَن يحوط به من خصومها، قالت إنها تدعم ترؤس الحريري حكومة الوحدة الوطنية. ذلك أن المغزى الأقوى لزيارته سوريا أن هذه استقبلت في الملك عبد الله في تشرين الأول الماضي «صاحب الدم الإقليمي» في اغتيال الحريري الأب بعدما تصالحت معه، وهي تريد – في انتظار أن تقول المحكمة الدولية كلمتها – أن تستقبل على أراضيها في رئيس الحكومة اللبنانية «صاحب الدم العائلي».
الاخبار