الديمقراطية مدخل تفكيك الديكتاتورية وإحياء الدولة الوطنية 3 – 4
د.نصر حسن
بيد أن البداية الصحية لكل حوار تقوم على حزمة من الأسس , أولها الاعتراف الصريح بالآخر الوطني وُثانيها الإقرار بالأخطاء والثغرات والإخفاقات وأسبابها ومعالجتها ,وثالثها إبعاد العمل السياسي عنها وتطهير الضمير الفردي والجماعي من عوارضها المرضية,ورابعها تنقية العمل الوطني من شوائبها التي أضعفته وخلخلت صورته أمام الرأي العام , فلاشك أن عملية النقد الذاتي تمكن الأطراف الوطنية من إدراك أساسي لحقيقة أن الخطأ والصواب والعدل والظلم والحقوق والكرامة الإنسانية هي محددات أساسية عامة , تكمن قيمتها الوطنية والإنسانية في العلاقة مع الآخر الوطني ,وأن قيمة الفرد والشريحة الاجتماعية تكمن في الاجتماع الوطني ,وفي العلاقات الوطنية المبنية على أسس المساواة والعدل والحرية, حان الوقت لإدراك أن جميع المطالب المشروعة والأساسية هي متساوية لجميع المواطنين السوريين , وحان الوقت أيضا للإقرار بأن فردية البرامج تعكس حالة رثة في العمل السياسي السوري , لأنها ترجمة مباشرة لنزعة فردية مصلحية من جهة وتباعد الولاءات أو تعارضها من جهة أخرى, وهذا لم ينتج في المرحلة الماضية سوى تقوية الاستبداد والضعف في مواجهته ,وزيادة الظلم والمعاناة للمواطنين السوريين , بمعنى آخر ,إن تغليف الفردية والإقصاء بطرح افتراضي مغلف بالديمقراطية أو حقوق أو ما شابه من تسميات بدون محتوى وطني عملي مؤسسي لها يجب تجاوزه والابتعاد عنه , لأنه يمثل نهج تسلطي فئوي مغلق هو صنو الشمولية التي يسير عليها الاستبداد ,وعليه إن كل أنساق العمل الفردي أو الفئوي المغلقة مهما وضعت من أغلفة وواجهات فضفاضة ,هي في خدمة الاستبداد ووقود له ,وتمثل الحاضنة المثالية لإنتاج التفكك والتطرف والعنف وتشويه نسيج العلاقات الاجتماعية والسياسية والوطنية والإنسانية , إن المصلحة الفردية أو الفئوية يجب أن تتناغم مع المصالح الوطنية الحيوية وتكون جزءا منها لا متعارضة معها ولا منفصلة عنها , بعبارة أخرى إن المصالح الفردية يجب أن تندمج في الكلية الوطنية الاجتماعية التي تمثل المصلحة العامة للشعب السوري , هذه المصلحة هي ليست تراتبية ولا تجميع مصالح ولا جمع حصص ومطامح , بل هي الصيرورة الوطنية التاريخية المترابطة جدليا في قيم الحياة المشتركة بكل تجلياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحقوقية والسياسية .
والحال كذلك لابد من إعادة النظر بالكثير من المفاهيم والمصطلحات التي تطغى على ساحة العمل الوطني ,ودفع مفاهيم وقيم الوطنية والتعايش عبر اعتراف صريح موضوعي من قبل كافة أطراف وشرائح المجتمع , بأنها جزء عضوي من كل , من شعب ومجتمع مدني ومجال سياسي وحياة مشتركة , والتفاهم والألفة مع جبرية التاريخ والجغرافيا ,هذا هو الشرط الضروري الحقيقي لبناء الثقة الوطنية ومحاربة النزعات الفئوية التي تتوهم العيش في كهف خاص معزول افتراضي , ونكران الواقع الفعلي وحقائقه الموضوعية وعلاقاته المترابطة بشكل أواصر أساسية , هنا تفرض الحاجة الموضوعية نفسها إلى إنتاج مفاهيم حقيقية موضوعية جامعة والعمل بهداها في ساحة العمل الوطني العام ,من شانها أن تولد فهما وآراء وتصورات جديدة تعبر عن جدلية المجتمع وحركيته وعلاقاته الداخلية ,وتكون النواة الفكرية والثقافية والسياسية لبناء وطنية سورية حقيقية , أساسها الحرية والتفاعل الإرادي والانسجام مع الكل الاجتماعي بدون فرض عقيدة أو اتجاه سياسي على الآخرين , بل التفاعل مع قيم الحوار الوطني والالتزام فيه سياسيا وأخلاقيا ,والاحتكام إلى أنجع وسيلة إجرائية قيمية سياسية هي الديمقراطية ككل فهما وفعلا وسلوكا وممارسة وآلياتا ونتائجا .
كما أن كافة فصائل العمل الوطني بحاجة ضرورية إلى الحوار البيني حول قضايا كثيرة ,في مقدمتها الوحدة الوطنية ومشروع التغيير الوطني الديمقراطي والدولة الوطنية وأمور أخرى كثيرة, وهذا لا يمكن أن يتم سوى بامتلاك النية والإرادة والمبادرة إلى العمل التكاملي على طريق إنتاج بناء مؤسسي يجمع كافة الطاقات والقوى والجهود لتتحمل مسؤوليتها الوطنية في هذه المرحلة العصيبة من حياة الشعب , إن الواقع السوري يحتاج إلى حوار نقدي لتجارب السنين الماضية , وتشخيص النتائج التي انتهت إليها ,لأنها المعيار الحقيقي الملموس لقياس كمها ونوعها وصحتها وقيمتها على طريق الهدف العام ,وأيضا حسم الموقف من النظام وتجاوز حالة التردد والانتظار والمراهنة ,فقد اثبت النظام بجدارة أنه غير قابل للإصلاح وغير مستعد لسماع رأي الشعب ويصر على ممارسة القمع والعنف والسيطرة على الدولة والشعب والثروة والقرار وإشاعة الفساد والالتفاف على مشاريع الإصلاح العام التي تتطلبها سورية ,وفي مقدمتها الإصلاح السياسي الذي يمثل مفتاح وبوابة الإصلاح على كافة المستويات في الدولة والمجتمع , هنا تتجلى قيمة الحوار وضرورته وزمنيته وقدرته على إنتاج التوافق الوطني المبدئي المبني على المصلحة الوطنية العامة, وعليه بهذا الأفق وضمن هذا المستوى من الحوار تتعمق الثقة وتقوى الروابط الجامعة وتزداد قوة الإرادة والتفاعل البناء , عندها ينتظم المجموع إراديا في إطار وطني عام يكون مقدمة النجاح والاستمرار والتطور,هذا الإطار العام هو الدولة الوطنية وهي القضية المركزية التي تتحدد مدنيا سياسيا حقوقيا اجتماعيا وفق مقدماتها الفكرية والثقافية والسياسية والقانونية.
واستطرادا , يتوجب الـتأكيد على أن الوطنية لا تعني مطلقا مفهوما قيميا ,بل هي صفة مشتركة ذات دلالات معرفية سياسية, بما هي فضاء ثقافيا سياسيا مشتركا لجميع أفراد المجتمع , وبهذا المعنىإنها ملكا للجميع وفيها شخصيتهم وثقافتهم وتمايزهم وتفاعلهم وهدفهم المشترك وكرامتهم الفردية والجماعية , وهي الفاعل الوحيد القادر على تمكين ذوي الحقوق من التمتع فيها واحترامها , لأنها لا تمثل حق فرد أو فئة أو حزب , بل تمثل قوة القانون الذي يتساوى أمامه الجميع بدون أي شكل من أشكال التمييز والاستثناء , فالدولة الوطنية هي قبل كل شيء دولة قانون وعدالة ومساواة , وفيها فقط يتم صيانة حق الأفراد والفئات الاجتماعية والفعاليات السياسية والمدنية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير وكل تجليات الفعاليات الإنسانية الإيجابية , هنا لابد من الإشارة إلى أن ضمان الحقوق لا يتم سوى عبر طريق وحيد وهو حكم القانون, لأنه ماهية الدولة الوطنية وجوهرها وشرط المساواة والحرية وضمانتها, هذا هو أحد أهداف العمل الوطني الأكثر إلحاحا اليوم .
أقرأ الجزء الأول والثاني من هذه المقالة على الرابط التالي
https://alsafahat.net/blog/?p=19177
خاص – صفحات سورية –