سورية و’المقاومة’: وقائع الارض وبلاغة الميكروفون
صبحي حديدي
قبل أيام كانت الطائرة الخاصة للمخرج الأمريكي الشهير فرنسيس فورد كوبولا تهمّ بالهبوط في مطار بيروت، للمشاركة في مهرجان سينمائي يعرض فيلمه الجديد ‘تيترو’، حين تبيّنت سلطات المطار أنّ عدداً من قطع غيار الطائرة صُنعت في إسرائيل، فمُنعت من الهبوط تنفيذاً لبنود صريحة في اتفاقيات مقاطعة إسرائيل. ولقد تفتّق ذهن صاحب ‘العرّاب’ عن حلّ عملي ـ ذرائعي أو مافيوزي، سواء بسواء ـ فأجرى اتصالاً من الجوّ مع بشار الأسد، الذي أمر بأن تهبط الطائرة في دمشق، ثمّ انتقل كوبولا بعدها إلى بيروت في طائرة أخرى، بعد وليمة رئاسية دافئة.
في قراءة أخرى للواقعة، اتضح أنّ بيروت، أو بالأحرى الجهة الأمنية التي تبسط نفوذها على المطار، والمقرّبة من ‘حزب الله’ كما يتردد عادة، سلكت مسلكاً قانونياً صرفاً من جانب أوّل، يخصّ الإلتزام بتعليمات مقاطعة إسرائيل؛ كما اتخذت، من جانب ثانٍ، خطوة تصحّ فيها صفة الممانعة، أو الرفض، أو التذكير بالسيادة الوطنية. وفي المقابل، وليس هذا سوى الإستطراد المنطقي، اتخذ رأس النظام الحاكم في دمشق قراراً نقيضاً، من حيث جانبَيْ الواقعة، فلا هو التزم بالقرارات العربية، ولا هو مانع أو امتنع، فضلاً عن أنه لم يحرص حتى على حفظ ماء وجه الممانعين في مطار بيروت.
مكسب الأسد، في المقابل، كان خبراً في العلاقات العامة تناقلته بعض وسائل الإعلام الأمريكية (وحجبته، تماماً، الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام العربية)، وتصريحاً منافقاً من كوبولا، من قبيل ردّ المعروف، جاء فيه: ‘لقد شعرنا بدفء الإستقبال، ومَن التقينا بهم كانوا لطفاء وكرماء. المدينة (دمشق) ساحرة لأسباب عديدة، تخصّ التاريخ. والطعام بديع. والرئيس، مع عقيلته وأسرته، اتصفوا بالوضوح والأنس والقدرة على الحديث في مستويات عديدة. وبهذه الطريقة أقنعني أنّ الرؤيا التي يحملها عن البلد إيجابية’. وبالطبع، لا ينتظر المرء من هذا الزائر بالذات، في سياقات زيارة من هذا الطراز تحديداً، أن يشير إلى حقوق الإنسان، أو الجمهورية الوراثية، أو… حال وأحوال السينما السورية، في أقلّ تقدير.
اللافت، في المقابل، هو تلك ‘الرؤيا’ الأخرى العجيبة التي يمكن للمرء أن يلتمسها في تناقضات مواقف الأسد من العمل العربي المشترك: هاهنا يخرق أبسط مبادىء ذلك العمل، أو ما تبقى منه في سلّة القرارات العتيقة، فلا يكترث البتة بقواعد مقاطعة الصناعة الإسرائيلية؛ وهاهنا أيضاً، في دمشق إياها، عند افتتاح ما يُسمّى ‘مؤتمر الأحزاب العربية’، يلحّ على التضامن العربي ويطري شعار المؤتمر: القرار العربي المستقلّ. فإذا كان الإخلال صريحاً على هذا النحو بقرارات هي أضعف الإيمان في ممارسة الممانعة (والعاصمة السورية هي التي استضافت المؤتمر الأخير، الـ83، لضباط اتصال المكاتب الإقليمية العربية لمقاطعة إسرائيل، حيث جرى التركيز على الشركات العالمية التي تساهم في توسيع المستوطنات، وليس على منتجات الدولة العبرية وحدها)، فكيف يحقّ لنا أن نحثّ المجتمع الدولي على الإنضمام إلينا في تطبيق تلك المقاطعة؟
تناقض آخر، يخصّ زيف خطابات ‘الممانعة’ التي يستخدمها النظام، تمثّل في تصريح الأسد إلى صحيفة ‘حرييت’ التركية، بأنّ نظامه يرحّب بتحسين العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وفق قاعدة القياس التالية: ‘إذا رغبت تركيا في مساعدتنا في موضوع إسرائيل، فينبغي أن تكون لها علاقات جيدة مع هذه الدولة’؛ وإلا: ‘كيف يمكنها، في حال العكس، أن تلعب دوراً في عملية السلام ‘في الشرق الأوسط؟’. والحال أنّ علم السياسة الأبسط، الذي يبشّرنا عدد من بروفيسورات الزلفى العرب أنّ الأسد حجّة في أصوله، يحضّ على الإستفادة القصوى من تناقضات الخصم مع أيّ فريق ثالث، لكي لا نقول إنه يحثّ على تعميقها بدل إصلاحها. وأمّا العلم ذاته، في ستراتيجياته قبل تكتيكاته، فإنه يصعب أن يقرّ الموازنة بين محض وساطة غير مباشرة تقوم بها تركيا بين النظام السوري وإسرائيل، من جهة أولى؛ مقابل تعميق خلافات أنقرة وتل أبيب، من جهة ثانية، بما يخدم المصالح العربية جمعاء، ثمّ تلك الإيرانية والتركية، ويضعف موقع الدولة العبرية في المنطقة.
وكان المعلّق اللبناني سعد محيو، غير المعروف البتة بعدائه للنظام السوري، قد وجد التصريح ‘عصياً على الفهم’ لأسباب متعددة، بينها هذا: ‘لو أنّ أيّ رئيس عربي آخر أدلى بهذا التصريح، حتى لو كانت بلاده تقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، لكان الأمر مثيراً للإستغراب سياسياً (إن لم يكن أكثر من ذلك بكثير) وللرفض تكتيكياً، فما بالك إذا ما جاء على لسان رئيس دولة بنت كل توجهاتها الإقليمية منذ العام 1970 على أساس التوازن الستراتيجي مع إسرائيل، أو على الأقل على أساس ‘الممانعة الستراتيجية’ معها؟ في الأمر لغز محير بالفعل، خاصة حين نضع في الإعتبار الأبعاد التاريخية العميقة للتحولات الستراتيجية التركية الأخيرة حيال إحياء اللحمة العثمانية الإسلامية عبر القوة المخملية والديمقراطية والليبرالية. وهي أبعاد لا تروق البتة لإسرائيل’.
فهل هو، حقاً، لغز محيّر إلى هذا الحدّ؟ وكيف تكون الحال إزاء الإزدواجية الدائمة في حديث الأسد عن مفهوم ‘المقاومة’، الذي يفترض المرء أنه أوسع نطاقاً من مصطلح ‘الممانعة’ مثلاً، على غرار تصريحات الأسد في مؤتمر الأحزاب العربية، وقبله مباشرة في القمة الاقتصادية للجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري لدول منظمة المؤتمر الإسلامي، الذي شهدته إسطنبول. ففي المناسبة الأولى، قال الأسد إنّ ‘جوهر السلام ليس فقط مفاوضات بل هو مقاومة أيضاً، ومن الخطأ أن نعتقد أن السلام يأتي من خلال التفاوض بل يأتي من خلال المقاومة. لذلك يجب علينا دعم المقاومة لأننا بذلك ندعم عملية السلام، فالمقاومة والتفاوض هما محور واحد وكلاهما يهدف لاستعادة الحقوق المشروعة التي لن نتنازل عنها’. ولأنّ هذا القول لم يكن كافياً وافياً كما يبدو، أتبعه الأسد بعبارة من عيار فلسفي هذه المرّة: ‘إننا بدأنا الآن ببناء شرق أوسط جديد جوهره المقاومة (…) المقاومة بمعناها الثقافي والعسكري وبكل معنى آخر هي جوهر سياساتنا في سورية اليوم وفي الماضي، وستبقى في المستقبل وهي جوهر وجودنا’.
أمّا في إسطنبول فإنّ الأسد شدّد على ترابط العلاقة بين السلام والمقاومة، وأعطى الأخيرة بعداً عربياً موسعاً، ما دام يتحدّث في محفل إقليمي وليس أمام أصدقاء صفوان قدسي، الأمين العام لـ’حزب الإتحاد الإشتراكي العربي’ العامل في خدمة النظام، من قادة أحزاب عربية سائرة في ركاب الإستبداد، ساكتة عن الحقّ مثل كلّ شيطان أخرس. ولهذا اختصر خطابه في التالي: ‘مقاومة الإحتلال هي واجب وطني، ودعمها من قبلنا هو واجب أخلاقي وشرعي، ومساندتها شرف نفاخر به. وهذا لا ينفي أبداً رغبتنا الثابتة بتحقيق السلام العادل والشامل على أساس عودة الأراضي المحتلة وفي مقدمتها الجولان السوري المحتل. ولكن فشل المفاوضات في إعادة الحقوق كاملة يعني بشكل آلي حلول المقاومة كحلّ بديل’.
وللوهلة الأولى، سوف يظنّ المنصت إلى هذه الأقوال أنّ أراضي الجولان السوري المحتلّ هي حاضنة المقاومة الأولى والأهمّ في هذا الخيار الوجودي المقاوِم، وأنّ عمليات المقاومين في مسعدة وتلّ الفرس والخشنية وكفر نفاخ وتلّ أبو الندى، وغيرها من بطاح الجولان المحتلة، قائمة على قدم وساق، في النهار قبل الليل، بدعم مباشر وصريح من الجيش السوري. وهذا منصت جاهل، بالطبع، أو هو من طراز يكتفي باستعصاء الفهم أو الاحتماء بالألغاز المحيرة، لأنّ النظام السوري ـ وللإنصاف: نظام الأسد الأب والأسد الابن، مثل أنظمة حزب البعث التي سبقتهما، منذ احتلال الجولان ـ يطري المقاومة في كلّ مكان، وعلى اية أرض، ما خلا… الجولان المحتلّ!
وفي هذا الصدد، يقتضي الواجب أن يستذكر المرء، مرّة بعد أخرى وكلما تشابهت السياقات، حوار الأسد مع الإعلامي المصري حمدي قنديل، على فضائية دبي، قبل ثلاث سنوات، حين طرح الأخير السؤال التالي (كما نقلته، بالحرف، وكالة الأنباء السورية الرسمية، سانا): ‘أليس في سورية غيرة أنّ حزب الله حقق ما حققه، وأنّ كل السوريين يجب أن تكون لديهم الغيرة أننا لم نستطع أن نحرر الجولان حتى تاريخه بأي وسيلة سواء كان بالجيش أم بالمقاومة…’؟ إجابة الأسد كانت مسهبة، والحقّ يُقال، تغطّي مستويين:
ـ مستوى أبناء سورية والأجيال الجديدة تحديداً: ‘قبل هذه الحرب بعدة أشهر بدأ الحديث في سورية عن موضوع تحرير الجولان ولو أنه بدأ على شكل حديث سياسي تثقيفي للأجيال الجديدة التي لا تعرف سوى عملية السلام ولا تعرف شيئاً عن المراحل التي سبقتها. يسمعون الكثير عن السلام، ولكن في الحقيقة لا يعرفون الكثير عن التحرير. فبدأ طرح هذا الموضوع لأن عملية السلام متوقفة. ماذا ننتظر! لا خيار سوى المقاومة أو الحرب. إن لم نكن نرغب بالحرب فلنتجه باتجاه المقاومة’. ولم يتورّع الأسد عن تحميل الشعب مسؤولية انعدام المقاومة في الجولان: ‘أنا في الخطاب قلت إن تحرير الجولان بأيدينا وبعزيمتنا. لكنّ هذه العزيمة بالنسبة لنا كدولة تأخذ الاتجاه السياسي وتأخذ الاتجاه العسكري. كما قلت بالعودة لموضوع المقاومة هو قرار شعبي لا تستطيع أن تقول دولة ما. نعم. سنذهب باتجاه المقاومة. هذا كلام غير منطقي. الشعب يتحرك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما يقرر هذا الشيء’.
ـ المستوى الآخر كان يخصّ الجيش السوري، سيّما بعد أن ألحّ قنديل في السؤال: ‘مادمتم إلى هذا الحد معجبين بالمقاومة اللبنانية وتشيدون بها لماذا أو كيف تكون هذه المقاومة في لبنان دليلاً لكم للحصول على حقوقكم في سورية… كيف ستواجهون الإحتلال الإسرائيلي بالإستفادة من تجربة المقاومة اللبنانية…’؟ هنا جواب الأسد: ‘كما قلت في البداية الدولة تبني جيشاً، والجيش من مهامه تحرير الأرض. حرب 1973 التي خاضتها سورية ومصر بنيت على هذا الأساس. لكنّ الجيش عندما يخوض حرباً يجب أن تكون الأمور محضرة بشكل جيد’.
ماذا يُفهم من هذا: مقاومة، أم لا مقاومة؟ وهل سيتمّ ‘تحرير الجولان بأيدينا وبعزيمتنا’: 1) عن طريق المقاومة الجماهيرية، أمّ 2) بوسيلة الخطب الرئاسية، أم 3) اعتماداً على الجيش النظامي الذي تغيّرت مهامه (فعلاً، لأنّ الجيش الوطني صار وحدات خاصة أو افواج حرس جمهوري تحفظ أمن النظام، وتحاصر المدن السورية، وتقصفها، وتنفّذ المجازر بحقّ الشعب)؟ لا هذه ولا تلك ولا أختها الثالثة، بل ببساطة لأنّ الشعب السوري لم يتخذ، بعد، قرار المقاومة كما فعل الشعب اللبناني، والعتبى إذاً على الشعب وليس على القائد!
وفي انتظار حلّ هذا ‘اللغز’، تصلح طائرة كوبولا نموذجاً معبّراً عن طراز ‘المقاومة’ الذي يحلو للنظام أن يمارسه بين حين وآخر، على الأرض بالطبع، أو حتى في السماء (كما حين تحلّق الطائرات الإسرائيلية فوق القصور الرئاسية، أو حين تقصف وتعربد أنى وكيفما شاءت). إنها، غنيّ عن القول، ليست تلك المقاومة الوجودية المقدّسة… عبر الميكروفونات!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –