تأملات لاجىء في الجبل
نصر جميل شعث
أنا الجديد على بلاد الثلج، ماشياً في الجبال، أحدّث نفسي: ‘أيّ جبَلٍ من الجِبال جبلُنا؟ أتلاعب باللغة جاعلاً ضمّة الجبل سكوناً، كي أوجّهَ المعنى وأقصده وأمسكه، فأجيب: ‘لم نجبلْ جبلاً واحداً بل ثلاثة جبال جبَلَت يدُ التاريخُ فينا، هي من لحمنا ومن دمنا؟ منذ جئتُ هذا الشمال قسراً، أردتُ أن أُطلّ على الحياة من جهات جديدة، وأقدّم اعتذاري إلى غزة. شفقت على اسمي بالمعنى الوطني، وسرعان ما شفعت لنفسي بقراءة مقالات ورسائل بعض الكتاب والأصدقاء، كالكاتب الفلسطيني عدلي صادق، والشاعرة ظبية خميس التي كتبت لي في رسالة عاجلة: ‘حيث ما تكون وطنك الإبداع..إحمل قلمَك حول العالم كلّه واكتبْ شهادة الحياة، لا الممات’.
وها أنذا أُقبلُ على تأويل الجبل وتأليف سيرة جديدة له، ومدخل اهتمامي به هو الإنصات والتأمل والقراءة، بحرارة وجوديّة، في المفارقات والدهشة دون محايثة الحرمان الجغرافي في اسم قطاع غزة (السهل الساحليّ)، بل لأنّ في عمق الظاهرة الطبيعيّة أو الوجوديّة هذه عاطفة سرعان ما لمستها تدشّن قرابات بين الأشياء والمعاني في الذهن والعالم الخارجي، وتؤكد وثاقها وحضورها في شكل رموز في حياتنا وقضيّتنا.
قرابة عاطفيّة كبيرة بيني وبين هذا الجبل القريب إلى بيتي الموقت في مدينة تدعى ‘سفولفار’ الواقعة وسط شمال النرويج في أعلى العالم. بدا هذا الحبل رسالة وبدا ارتقاءً فلسفيّاً أحالني إلى نصيحة بعض فلاسفة الظاهراتيّة: ‘إذا تعلمنا كيف نقرأ رسالة ما ـ دون تحيّز أو تعصّب ـ فنحن، إذن، نحضر أنفسَنا للبدء بقراءة الكون، دون تحيّز أو تعصب أيضاً، وهو المدخل لبداية الفلسفة’؛. هذا الارتقاء الفلسفيّ ليت أفقنا الوطنيُّ يستعير منه النصيحة، كي يخرجَ الأفقُ من النفق ويمُرّ ببداية الحلّ إلى جوهره انتهاءً بحبّ برأس الحكمة، أو الجبل.
أعرف أن من تناقضات الجبل الذي يقصده وعيي – والتناقض جوهر وصفة – حرارة صموده (حركة صلبة لا متصلّبة) وبرودة جسده (فالسياسة حرب باردة). هذا التأمل أريد أن أراه اصطفافاً معنويّاً وجهداً بطوليّاً هيغيليّاً يَقبلُ ويستوعب التناقضات ويرفعها كطبيعة صحية ومشروعة في ذهن كاتب هذه السطور المُستعين بحرارة هويته وزخمها على برد الشمال، أكثر منه تسمية للصدام والانقسام والإعياء الذهني جراء انزواء الهدف.
وفي خصوص التناقض أيضاً: لا أعرف هل هي مصادفة أن اسم كاتب هذه التأملات نصراً جميلاً وشعثاً ولاجئاً في بلد تسوية ‘أوسلو’! تناقض لا يُستوعب إلا إذا اعتبرنا ما يكتبه حاملُ تناقضاته الآن استهدافاً فكريّاً وأدبيّاً لردّ الاعتبار، في شكل مخالف لطريقة احتلال مصطفى سعيد بطل رواية ‘موسم الهجرة إلى الشمال’ للنساء. فأن أحتلّ جبلاً بهذا التأمل وأؤلـّف سيرته وأسمّيه فلسطينياً حصانته وحدته ورسالته طبيعة الارتقاء، هذا يعني أن تأملي مشفوع بسلسلة وفاءات وطنيّة لأسماء التاريخ الوطنيّ؛ ثلاثة جبال في قضيتنا: لا بد أنهم في غربتي يتجلّون في وعي اللاجىء جبلاً واحداً له ثلاثة أسماء وهم: ‘ياسر عرفات’، رغم أخطائه. ولكثرة ما ردّد هذا الرجل الذي تحلّ ذكرى وفاته الخامسة بعد أيام، غنائية الصمود: ‘ يا جبل ما يهزك ريح’، وحيث أنّ الجبل رفيقي العالي، الذي أدور حوله، فهو ‘جورج حبش’. وحيث أن الجبل هو غيبوبة بيضاء وثابت ككلمة الوجدان فهو الشيخ ‘أحمد ياسين’ الذي نجا من غيبوبة غزة السوداء، ويُشرق في شهادته.
بين بيتي الموقت والجبَلِ بحيرةٌ هي بريدٌ سماويّ بارد وساكن. أشحذ تحوّلات المعنى الوطنيّ والوجوديّ والصوفيّ والإلهيّ لأعبرَ البحيرة إلى حرارة الجبل، فأنا حسّاسٌ تجاه الوحدة. ومعبري، على سبيل الإعجاز المسيحيّ هو الماء. وليسَ الصحراء، متاهة اليهوديّ، تلك التي تنتهي، فعليّا، عند معبر أو نفق رفح.
لو يصبحُ هذا اللاجىء جبلاً سيتحرّك كاملاً كمجسّ عاطفيّ صوب الأرض الطيبة، يطمر هاوية السهل الساحلي الذي يعاني وعورةَ الجبل – لا وجودَه الجغرافي – وثقلَ التحولات. لكن أن يفشلَ الحبّ والفكرُ أمام اختبار التناقض والارتقاء، أن يسقط ولا ينجو احتمالُ قراءة الرسالة، على نحو صحيح، هذا يعني أن يصنع لاجىء الـ 48، القديم، تحولاته، بالتجاوز لا الهروب ولا التعالي، وإن علا فليبك، ويسند ذاتـه ويُركّز هُويته بأسماء الجبل الثلاثة.
‘ شاعر من فلسطين