صفحات ثقافية

بعـض الملاحظـات علـى حياة محمود درويش وأعماله ([)

null
برايتن برايتنباخ
كان محمود درويش رجل المتناقضات: إذ كان، من جهة، شخصاً تجذر في مسقط رأسه حيث شارك في نضالات زمنه وشعبه، مثلما كان شاعرا كونيا اجتاز العصور؛ فقصائده مضاءة بروحانية مكثفة (وبخاصة في السنوات الأخيرة) كما أنه من المستحيل أن نضعه في خانة ديانة معلومة.
إن الحياة الواعية، التي نحياها، مصنوعة من تحقق الذاتية ومن الاعترافات التي تتأتى من اللقاءات التي تحدث. التقيت محمود درويش، للمرّة الأولى، في بداية السبعينيات، في مدينة روتردام، بمناسبة مهرجان دولي للشعر.
حدث هذا اللقاء في لحظة كنت أطرح فيها الأسئلة على نفسي. كيف يمكن لي الاشتراك، عبر الشعر، في النضال من أجل قضية عادلة من دون القيام بدعاية ساذجة، وكي أتجنب في ذلك أيضا، تلويث لغتنا بالأماكن السياسية المشتركة؟ الشعر (الحقيقي) الذي «يتيح لنا أن نشاهد» والذي «يتيح لنا أن نسمع» لا يمكن له أن يكون في أي تراتبية للمسموع. إن «الاشتراك» يأتي إذاً من مكان آخر: إنه (الشعر) ينبثق من تعقيدات الوعي. من هنا، فالتحدي المطروح على الشعر الملتزم هو التالي: كيف يمكن لنا أن نبدع خلاصات حول الذي لا يوصف ونحن نفتح في ذلك فضاء التأمل، ونحن نقترح استعارة ممكنة عن تصوراتنا؟
غالبا ما نتناسى بأن الشعر هو عمل كريم، أي إنه ليس هبة ذاتية، بل طريقة مشاركة لما هو مشترك بيننا، لما هو في أعمق ذواتنا.
بعد فترة طويلة، جاءني الدرس الثاني من محمود درويش. كيف يمكن لنا أن نستمر؟ ما العمل كي نستمر إلى ما بعد تقلبات الانتصارات والهزائم؟ كيف نستطيع الحؤول دون أن يجتاحنا التعب واليأس؟ كيف يمكن لنا أن نبقى في الملموس والحاضر؟ عندها يصبح الشعر من نظام (وفوضى) الراهن. ما علمني إيّاه محمود درويش هو أن الاستمرارية (الأبدية؟) تتشكل من صيرورة اللحظات الراهنة.
الدرس الثالث: كيف يمكن لنا أن نتحرر من أسر الانتظار ومن التطلبات، حين نصبح «صوت شعبنا» ـ ومن دون أن نتخلى عن العالم أو أن ننقطع عنه؟ كيف نصبح، بمعنى من المعاني، «أسيراً عاشقاً»؟
تكمن الإجابة، بالنسبة إلي، في اتجاهين ممكنين، من بين العديد من الاتجاهات الأخرى.
سأقول إن الاتجاه الأول، هو مبدأ مهني لا مبدأ سياسي: إذ أن نكون وأن نستمر دائماً في أن نموضع أنفسنا إلى جانب الفقراء. أقصد، بالقرب من أشخاص تبقى الحياة بالنسبة إليهم أمراً واضحاً.
بالتأكيد، إن هذه العلاقة، وهذا التعبير عن تمركزهم هو اللغة والتاريخ (أو الأرض) وأيضا الاستعارات بشكل متناقض. إن الفضاء الذي يسكنه الفقراء يبقى فيما وراء الآمال الباطلة والانتصارات السهلة، ستبقى أبعد من أنسجة الآسر وتمزقات الارتهان.
الجواب الثاني أو الوقاية، هو ما يمكن لنا أن نسميه هذا الهروب نحو أنوار الأعماق. بالنسبة إلى محمود درويش كان الأمر هذا الحوار المعمق مع ما لا يمكن لنا أن نحجزه، فـ«الأنا» في الظل، والحقل غير محدود بموته.
لا تشكل مسيرة درويش وصفة. لا يكفي لنا أن نرغب في ذلك حتى نستطيع أن نتبعها. إذ يكفيه شرفاً أن بحثه المستوحد بقي مقروءاً. وحاليا؟ إننا ندخل عبر كتاباته في أفعال ذات خصوصية غير محددة.
إنه يقترب منا.
يبقى مسمراً
يرحل
بدءاً من الآن ستشكل قصائده جزءاً من وعينا. إننا رفاق عبارته. لكن علينا أن ننتبه لكي لا نتركه يموت مرة ثانية بجعله أيقونة أو شعاراً ورمزاً.
([) الكلمة التي ألقاها الكاتب الجنوب ـ أفريقي برايتن برايتنباخ في المؤتمر الذي نظمته «منشورات البرزخ»، في العاصمة الجزائرية في بداية شهر تشرين الأول الماضي.
ترجمة: إسكندر حبش
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى