مقدمة للشعر العربي» لأدونيس: أين هو القارئ
مازن معروف
أعادت دار الساقي طباعة الدراسة التي أعدها أدونيس عام 1971، بعنوان «مقدمة للشعر العربي». وضع الشاعر الكبير هذا الكتاب الصغير الحجم، كمقدمة تحليلية لتطور وتغير أساليب كتابة الشعر، منذ الجاهلية وحتى تاريخ صدور الكتاب. يعرض أدونيس ويناقش ويحلل كماً من العناصر المتعلقة بمفهومي الزمن والمكان، لينفذ إلى علاقة الإنسان بالنظام الديني والاجتماعي، وثم تمرده بشكل من الأشكال عليهما أو إضافة بعد جديد لأحدهما (كما عند الصوفيين)، إلى جانب الرؤى والمفاهيم والإيديولوجيات المتعاقبة وتطور الحركات في الفن التي انسحب أثرها على تحديث القصيدة العربية (على يد جبران خليل جبران)، تزامنا مع الانهيار شبه الكامل في موازين القوى خلال وبعد الحرب العالمية الأولى ومن ثم ما بين الحربين.
إن هذه الدراسة، التي بين يدينا اليوم، هي من أغنى الدراسات الموجزة، والتي أعدها أدونيس بحرفية العالم بأسرار الشعر، ومواطنه في النفس البشرية. وفي الدراسة، يرجع أدونيس الشعر إلى تعاريف لا ينتبه لها الكثيرون، وهي بمعظمها بسيكولوجي شعري (وليس الشعر البسيكولوجي)، بمعنى أنه يصب اهتمامه كله على الطاقة التي تولد فيها القصيدة، نتيجة لحالة يمر بها الشاعر ولا يفهمها (على حد قول أدونيس)، وبالتالي فإن الشاعر الكبير، يطرح مسألة الكتابة الشعرية، دون أن يجردها عن واقع الشاعر، بل يقدمها لنا، في قالبين، أولهما ان الشعر موجود وإن لم نكن نحسن تعريفه إلى الآن، وبالتالي فإن الشاعر موجود بدوره، وثانيهما أن الشكل الشعري، هو شكل متغير على الدوام، لا ينفع أن يتبع بذات الصيغة، بل ينبغي على الشعراء التحرر من كل ما هو موروث شعري، للعبور بالقصيدة إلى أفق جديد، بأدوات تعبيرية جديدة وجدية. الشعر عند أدونيس لا يحتمل المزاح، ولا الهرطقة، وهو يرفض أن يكون «أجوف مليئا بالطنين»، ولذلك فإن أدونيس يضع كل شاعر أمام مسؤولية القصيدة، ومسؤولية التعبير، وهو بذلك يعبر بدراسته الحاضر، فيحاور أجيالا شعرية (هذا اذا افترضنا بقاء هذا الشكل الكتابي) ستأتي من بعده، يضع أقدامها على السكة بالطريقة التي يراها السكة الصواب والقانون الأوحد لكتابة القصيدة. لكن، وحتى بروز نظريات جديدة في الشعر، او طروحات تناقض أدونيس أو تتنافى معه كليا او جزئيا، فإن هذه الدراسة المقدمة لنا، ستكون بمثابة مصباح صغير علينا قبل إشعاله، فهمه بشكل هادئ ومفصل، وإلا فسنحترق قبل أن نتمكن من رؤية أو وميض ضوء يطلقه.
تغير الشعر عند أدونيس يعني تغيرا في المفهوم الشعري بعينه، وليس فقط تغيرا في الشكل والأدوات الجمالية والتعبيرية، وهو لأجل ذلك، يهدف من وراء الدراسة إلى إعادة النظر في الموروث الشعري، بحيث يكون فهمه فهما جديدا، ما يقدم للأجيال القادمة، فرصة على طبق من ذهب لإعادة كتابة الشعر، ليس تقليدا بل تجديد، ليتجاوز بذلك الكاتب كل شكل كتابي جاهز ومعتمد، ويصهر ذلك بفعل واحد هو الكتابة، بغض النظر عن الشكل المكتوب (شعر، قصة، رواية، مسرح،..إلخ). لكن أدونيس يضيف بندا إلى ذلك، وهو ضرورة أن يشير الشعر إلى أبعاد وملامح الثورة الآتية وليس الثورة المحققة، وهنا نقف عند اول سؤال: هل يمكننا فعلا التفاؤل ببساطة لمجرد أن شاعرا كأدونيس يبني نظريته حول الشعر، ويطلق هذه الكلمات، وهل هناك إمكانية بتغيير العالم الخارجي الذي تحكمه السلطة الرأسمالية، بالكلمات التي هي عادة تعبير فرداني وفني، لا يمكن أن يصد فقاعة صابون في أيامنا هذه. نحن نعلم ان أدونيس (أو نفهم على الأقل هذا الأمر) لا يطلب من دراسته ان تكون السجادة التي ستفتح شكلا آخر للعالم من خلال تقديمه صورة الكلمة، بإطار خاص، حتى يؤمن باستخدامها سلاحا في وجه المادية والتيارات المتمردة حتى على الفن، والأصولية التي تنادي بالهدم والسلف وليس للتقدم، وتلف كل ما هو عيب فكري، لكن حتى وإن كان هدف أدونيس من وراء دراسته، أن يقدم للشعر الشحنة الكافية، ليفهم هذا الشعر نفسه (من خلال الشعراء) وبالتالي أن يتطور جماليا ليغزو العالم، ويكون مفاتيح إيديولوجية تغير العالم ببطء. لكن من أين ستأتي أساسا هذه المفاهيم الجديدة في الشعر، إذا لم تكن الصورة تكاملية ما بين الشعر والفلسفة والفكر المفتقدة في مجتمعنا أو المتأخرة عن صفوف الأولويات. هذا من ناحية، اما من ناحية أخرى، فإن ادونيس فاته مثلا القارئ. لم يعرفه، ولم يأخذه بعين الاعتبار واكتفى في معرض دراسته باعتبار أن القارئ هو من يجب أن يتسلق وصولا إلى الشاعر وليس العكس، مستخدما كمثال على هذا، الحادثة الشهيرة التي مر بها أبو تمام حين سأله أحدهم «لماذا لا تقول ما يُفهم؟» فرد عليه قائلا: «لماذا لا تفهم ما يقال؟». هل على القارئ، ان يتجمد في صورة وحيدة، منمطة إلى حد بعيد، فنضع حوله القضبان ولا نقبله كما هو، نقدم له مجهودا فكريا جاهزا، وعنيفا ومليئا بالسر، ثم نطلب منه تفكيك ما قدمناه، والتسلق وإن بصعوبة نحو المادة المكتوبة لفهمها. أليس هذا شيئا من التعذيب، والسادية التي لا نزال نمارسها بحق القارئ (اذا افترضنا وجود قراء من الأساس، وهذا جانب آخر من المأساة)، من هو القارئ مثلا؟ هل يحمل الملامح نفسها، التي خاطب بها أبا تمام منذ مئات السنين؟ هل هو القارئ الذي نضعه مرة في قلب المعادلة السوسيولوجية، فنعتبر ان له ذائقة فنية مسوسة، متهالكة ولا يمكن أن ترقى إلى الأشكال الأدبية المعروضة، كأنه أحد مكونات الحضارة المتداعية، وبالتالي فإنه مسؤول عن جهله، ومن الطبيعي ألا يتلاءم وجوده مع وجود الشعر، أو أن يتنافر معه تنافرا عظيما؟ قبل أن نرده إلى رقعة الشعر، معتبرين ان فعل الكتابة هو فعل متوجه من حالة لا معروفة (تصيب الشاعر وتدفع به إلى الكتابة)، إلى شخص غير معروف، لكنه موجود (القارئ، كمتلق نهائي وأخير للتفاعل الحاصل في الجزء الأول). وهو يقف على الضفة الأخرى من حالة الشاعر، فيتلقاها عبر الشكل الكتابي المسمى شعرا، مع افتراض أن الشعر، لمجرد انه مكتوب، فعليه أن يكون مقروءا، كمصير نهائي أيضا لهذا الشعر. إن غياب القارئ، عن مقدمة أدونيس للشعر العربي، هو أحد مكونات السؤال لدينا كقراء. ونحن لا نعني هنا، أن يتم تحديد خصائص هذا القارئ، او يتم تجذيب صورته الأدبية، فينتخب انتخابا من قبل الشاعر، وتضيق مساحته ومساحة الشعر بالتالي، بل نعني فقط أن تتم دراسة هذا القارئ، ولو بشكل مقتضب، على هامش دراسة الشعر العربي كعمل أدبي محدد الوجهة، ومنطلق من ذات كائن تعبيري بالكلمة، إلى ذات أخرى غير تعبيرية بالكتابة، بل بالقراءة. فالكتابة عمل ينطلق من عالم خاص، وداخلي وفردي تحديدا (وإن استقى ملامحه من عيش جماعي اجتماعي)، إلى عوالم أخرى (القراء) مختلفة المساحة والرؤى والهويات والثقافات والأحلام، وهي عوالم ستتقاسم فهم المادة المكتوبة لاحقا، بناء على مكتسبها الثقافي الحالي، وليس بالضرورة الزمني المعاصر لكاتب المادة. لماذا تتم إحاطة الشعر بحتمية وجوده، فيما يتم استدعاء القارئ بعد انجاز القصيدة لإعادة تموضعه، فالمتعارف عليه أن وجود هذا القارئ «وجودا عدميا» يكون لحظة كتابة القصيدة، ونسبيا وظرفيا بعد طباعتها.
لكن هذه الملاحظة، لا تأكل شيئا من أهمية المادة الأدونيسية التي هي محاولة عميقة لسبر أغوار المدائن الشعرية. وادونيس يحدد اللغط ما بين «الحديث» او «الجديد»، فللجديد معنيان: زمني (آخر ما استجد)، وفني (ليس هناك ما يماثله من قبل)، ومعياره يكمن في الإبداع والتجاوز، كأنه مليء لا يستنفد، أما الحديث، فيعني كل ما لم يصبح عتيقا، من هنا، فإن الدراسة تقدم لنا سدا لثغرة لطالما لم نلتفت إليها او ظننا اننا تجاوزناها مثلا. إذ نبدو اليوم مشغولين، بالبحث عن أشكال كتابية حديثة (لكننا نعني بـ«حديثة»، «جديدة»)، في الوقت الذي انشغلنا منذ اواخر الستينيات وحتى يومنا هذا، بصرعة البحث عن ستايل كتابي «جديد». لكن صرعة الشعر، لم تكن لتنفصل عن صرعة «الصراع»، وصرعة بروز ديكتاتوريات عربية، قربت الشاعر من الحرية، كإيديولوجيا جاهزة، يرتكز فيها الشعر، وبالتالي يكون له كونه المطبوخ سلفا، او أفقه الخاص، الذي قد يجنح فيه الشعر إلى أن يكون مجنونا، أو عبثيا. وفي هذه الحالة، فإن مهمة البحث عما يسميه أدونيس «قبولا جديدا»، هي عملية صعبة في نطاقها الخاص، تتطلب معايير لفهم الذات ولفهم العالم ولفهم الموروث الشعري، ومن ثم التسليم بالإرث الفني للشعر، كثقافة ارتكاز للقصيدة الجديدة. فهل هذا ممكن؟ وإذا كان ممكنا فعلا، فما الذي سيفعله الشعر بعدئذ؟ حين يكون الشاعر قد اتم معرفته الخاصة بتحولات العالم، التي هي غذاء القصيدة، فهل يعود من داع لكتابة الشعر؟ أليس الشعر بحد ذاته محاولة غير ناجحة لفهم الذات الانسانية من خلال فهم العام، ولهذا فإنه لا يزال فنا قائما منذ مئات السنين؟
قصيدة كلية
لقد أورد أدونيس في دراسته ان القصيدة العربية تتجه لتكون «قصيدة كلية»، تتداخل فيها كل «الأنواع التعبيرية»، وتتعانق فيها «حدوس الفلسفة والعلم والدين». وأمام ما يورده ادونيس هنا، يحضر احتمالان بشكل أوتوماتيكي، فاحتواء الشعر «الأنواع التعبيرية» كلها، سيكون إما دلالة على تراجع الشعر أو تقدمه. إذا كان تراجعا، فسيكون احتواؤه للأنواع الأخرى، احتواء خبيثا، كضرورة أو مصل سيحتاج اليه الشعر لترميم جسده الذي أصبح لامستقلا، أما إذا كان تقدما، فإنه سيكون احتواؤه، دلالة على استباقه للأشكال الأخرى، وشموليته، وبالتالي مثاليته. ما يعني بطلانه، لأن المثالية، منطق عقلاني يمنهج القصيدة، وبالتالي يعني حصرها في توقع واحد، وردها لأن تصير فعلا ميكانيكيا مصوغا بحرفية الصانع.
أدونيس يورد أن «حياتنا اليوم يجب أن تكون في مستوى هذا الشعر»، هذا يرد الشعر بطبيعة الحال إلى أن يكون متقدما على الحياة، كمخزن جماليات تتألف من الحياة نفسها ولا تمتلكها الحياة. فالحياة لا تدرك الكم الجمالي الذي يدركه ويكتبه الشعر. والشعر يتحول عن مصدره (الذي هو الحياة بشقيها المباشر وغير المباشر). يبحث الشعر عن صياغات لغوية وفنية، وصور وتخييلات كلها تبدأ من إدراكه الخاص، أو من مساحة لاوعيه تنتفض فيها الإحساسات وتتمرد على الشاعر (ككائن تعبيري) وتتقدم على وجوده. إنها إذاً الحالة التي تحرك الرغبة في استلهام حياة بديلة، أكثر عمقا واتساعا من الحياة. وذلك في مجالات تخييلية مختلفة، منها قصيدة التفاصيل أو اليومي. والتي لا يعترف بها أدونيس بحسب دراسته.
وبأي حال، فإن المقدمة التي أعدها أدونيس لا تكفي قراءتها لمرة واحدة فقط، بل علينا إعادة قراءتها مرات، للبحث عن مواطن لم تكن معروفة من قبل، حول الشعر العربي الكلاسيكي، كما لفهم أدونيس بشكل اكبر واعمق. فكما ان لا شيء نهائيا في القصيدة والشعر، فلا شيء نهائيا أيضا في نظرية تبحث في القصيدة، وفي أصول تكوينها وطاقتها وديمومتها.