صفحات مختارة

ثقافة الحياة وثقافة الموت

خالد غزال
يقدّم المشهد العربي في أكثر من مكان صورة يغلب عليها اجتياح العنف والحروب الأهلية للمجتمعات العربية. تسقط الضحايا بالعشرات والمئات يومياً، إضافة إلى الخراب الاقتصادي الذي يزيد من قهر الشعوب العربية، فقراً وبطالة ومرضاً وانحدارًا في جميع مستويات حياتها. في المقابل، تقدّم العمليات الانتحارية التي ينفّذها أشخاص ينتمون إلى مجتمعاتنا، سواء في داخل المجتمعات العربية أم في الخارج، صورة عن العربيّ والمسلم تتّسم بالسلبية لجهة “عشق” الموت، سواء اتصل بقضية أم كان عبثياً. دخل موضوع الموت الصراعات السياسية مؤخرًا في بعض البلدان العربية، وتحوًل إلى موضوع منافسة حول تعابير مثل “حبّ الحياة” أم “حبّ الموت”، كما تحوّل الموضوع في لبنان خلال السنوات الماضية، وفي إطار تصاعد الصراع السياسيّ- الطائفيّ – المذهبيّ بين “الشعوب” والقوى اللبنانية، إلى فولكلور كثيرًا ما اتّسم بطابع كاريكاتوريّ، حيث كان طرف يرفع شعارا مثل “أحبّ الحياة” في اتّهام ضمني للطرف الآخر بأنه يقدّس الموت، فيردّ الآخر بشعار “أحبّ الحياة ولكن بكرامة”، لتمييز نفسه والتدليل على نمط الحياة التي يعشقها. ينسحب الأمر أيضاً على الساحة الفلسطينية، بحيث لا تخلو المناقشات من إدخال ثقافة الحياة المرتجاة أم ثقافة الموت المبتغاة في صلب السجالات السياسية حول نمط الممارسة الواجب اتباعها في مواجهة العنف الصهيونيّ والموت الذي ينشره في كل مكان من الأرض الفلسطينية والعربية على السواء.
إذا تجاوزنا النقاش الفلسفي والماورائي لقضية الموت أو الحياة، وبعيداً عن معالجة “الموت اختيارًا” وفقاً لتعبير فخري الدباغ الذي أعطى هذا التعبير عنواناً لأحد كتبه، وبعيدًا أيضاً عن التحليل النفسي للموت أو المعالجات الأدبية له، وتجاوزاً للموت الذاتي الناجم عن أمراض عقلية ونفسية مستعصية، يثار سؤال يركّز على ثقافة الموت أو ثقافة الحياة في جانبها السياسي وانعكاساتها المجتمعية على الإنسان العربي، بحيث يصبح السؤال الجوهريّ عن طبيعة الثقافة السائدة والجاري إنتاجها في كلّ مكان، هل هي ثقافة الحياة بالمعنىّ الذي يسلّط الضوء على الازدهار الاقتصادي وتأمين احتياجات الشعوب في الحرية والديمقراطية والعدالة الإنسانية وتأمين مستقبل الأجيال والقضاء على الآفات السائدة..أم أنّ ما تنتجه المجتمعات العربية هو في جوهره ثقافة موت متعدد الجوانب، يتخذ طابع موت الجسد وموت الذات والفكر في الآن نفسه؟ إنّ التركيز على معالجة ثقافة الموت أو ثقافة الحياة لا تستقيم في مجتمعاتنا العربية إلاّ عبر وضعها في إطار سياسي – اجتماعي يسمح بتعيين الثقافة التي تنتجها السلطات السياسية والدينية والاجتماعية السائدة ومعها طبيعة البنى الاجتماعية المهيمنة، وهو أمر كفيل بتصويب النقاش حول ثقافة الموت الشرعي منها والعبثي، وثقافة الحياة بمعناها الحقيقي وليس الشعاري المبتذل.
بين الموت العبثيّ والموت المشروع
تعتبر ثقافة الموت الناجم عن الأهداف الوطنية والقومية والمتركزة على استقلال البلد وحقّ الشعوب في الحرية والسيادة والحياة الكريمة، ثقافة مشروعة لدى الشعوب يصعب تسفيه نتائجها، بل يصنّف الذين يسقطون في هذه المعارك شهداء، يجري تكريمهم والتمثّل بهم. لا خلاف في أيّ مكان على الحقّ في النضال الوطني لشعب من الشعوب حتى ولو كلفه ذلك ضحايا بشرية كثيرة. فالفرد أم المجموعة، التي تضحّي بنفسها في سبيل عقيدتها ومن أجل شعبها تحتلّ موقعاً بطولياً واحتراماً لدى جميع الشعوب في العالم. فالموت في سبيل حرية الوطن كان من الثقافة المشروعة منذ القدم. إذا تجاوزنا مسألة هذه القضايا الوطنية، فإن الموضوع يتشعّب ليطال قضية النضال في سبيل تحقيق أهداف تتصل بالعقيدة والأيديولوجيات الدينية والسياسية، حيث تبرّر كلّ واحدة الموت في سبيل تحقيق الأهداف، بل تسبغ عليه المشروعية الكاملة، ممّا يضع المسألة في حالة سجالية حول مدى المشروعية أو عدمها. في كل الأحوال، إن ما يبرّر الموت ناجم عن أنّه يهدف إلى حياة أفضل للشعوب، خصوصاً تلك التي تعاني من الاستعباد والظلم والاضطهاد العنصري. إنّ ما شهدته المجتمعات العربية من ضحايا في نضالها من أجل التحرّر من الاستعمار والحروب النظامية أو الشعبية ضدّ المشروع الصهيونيّ الذي يمارس الموت ضدّ الشعوب العربية والشعب الفلسطيني خصوصاً، لا يمكن سوى تصنيفه في خانة الموت المشروع دفاعاً عن قضايا مشروعة.
يستحقّ الموت “العبثي” البعيد عن الأهداف الوطنية والسياسية ذات الصلة بمصلحة البلد وشعبه، نقاشاً في مستويين، الأول يتّصل بالعمليات الانتحارية التي تطال المدنيين، والثاني تلك العمليات الناجمة عن انسداد الوصول إلى حلول سياسية من مغتصب لأرض أو مضطهد لشعب. كلا النموذجين عرفته ولا تزال المجتمعات العربية، ولأصحاب كلّ منهما تفسيره وأدلجته لهذه الممارسة. في النموذج الأوّل، تندرج تلك العمليات الانتحارية التي جرى تنفيذها في الداخل العربي في بلدان مثل العراق الذي تسود فيه هذه العمليات منذ العام 2003 بعد احتلاله من الولايات المتحدة الأميركية، واندلاع مسلسل العنف ضدّ الاحتلال وبين المجموعات الطائفية ضدّ بعضها البعض دون استثناء. وفي الإطار نفسه، يندرج العنف الذي شهدته الجزائر واليمن ولبنان وفلسطين إلى حدّ ما. أمّا العنف العبثيّ الأكبر فهو الذي شهدته بلدان الغرب، خصوصا منها الولايات المتحدة الأميركية في 11ايلول (سبتمبر) عام 2001، وبعض الدول الأوروبية في السنوات التالية، وتسبّب في مقتل الآلاف من المدنيين.
يرتبط الموت العبثيّ في زمننا الراهن، إلى حدّ بعيد، بصعود الحركات الإسلامية الأصولية وبرنامجها السياسي لإعادة تشكيل المجتمعات العربية وفق منظومة سياسية تهدف إلى القضاء على النظم السياسية القائمة لصالح عودة دولة الإسلام الأولى في أقصى حدّ، وإقامة نظم سياسية تستند إلى الشريعة الإسلامية في حدّ أدنى. اعتبرت هذه الحركات نفسها وصيّة على النص الدينيّ الداعي إلى نشر الإسلام تنفيذًا للنص القائل :”إنّ الدين عند الله الإسلام”، وهو مفهوم رأت فيه هذه الحركات أنه يجبّ سائر الأديان ويدعو الشعوب جميعها إلى الانضواء تحت راية الإسلام لكونه آخر الأديان والحامل لجميع القيم التي قالت بها سائر الأديان قبله. هذه القوى التي اختزلت فكرها السياسي في إعادة العالم إلى الإسلام، رأت أنّ السبيل إلى ذلك يمرّ حتما عبر تدمير المجتمعات الحالية بوصفها “مجتمعات جاهلية” وإقامة المجتمع الجديد. قد لا يكون الأساس في ما تعتنقه هذه الحركات من فكر وأهداف سياسية، بمقدار ما يدور النقاش حول الثقافة المنشورة للوصول إلى هذه الأهداف، وهي ثقافة تدعو إلى القتل والتدمير تحت عنوان : “الجهاد في سبيل الله وتحقيق ما يدعو إليه”. وهو أمر لا يتوافق مع جوهر الدين الإسلامي وسائر الأديان التي تقدّس الحياة وتدعو إلى الاستمتاع بنعمها، وليس الخلاص منها بقتل النفس وقتل الآخرين.
إذا كانت الجماعات الإسلامية المتطرّفة قد وضعت أهدافاً سياسية لنقل المجتمعات العربية من فساد حكم البشر إلى سيادة العدالة الإلهية وفق أيديولوجيتها، إلاّ أنّ تحقيق أهدافها لا يطال السلطات الحاكمة بمقدار ما يصيب المواطن العادي، وتتسبّب عملياتهم في قتل البشر المسالمين. يطرح تساؤل عن السبب الذي يدفع منتحرا استشهاديّا إلى قتل هذا العدد من الأبرياء، بحيث يتجاوز السؤال نحو الأفق المسدود في وجه هذه الحركات الأصولية، وكونها صعدت خارج العصر الحديث وبعد فوات الأوان، ولكون المنافذ مقفلة موضوعياً في وجهها، بما جعلها تردّ على هذا الواقع بالانتقام من المجتمع ككلّ، وعلى رأسها المواطن المسلم بالتحديد.
تبقى مسألة التوقف أمام العمليات الانتحارية التي يجري تنفيذها من قبل حركات المقاومة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة. تتميز هذه العمليات عن عمليات القتل العبثيّ المنفذة في الخارج أو الناجمة عن حروب أهلية، في أننا في فلسطين أمام مشروع صهيوني عنصريّ يمارس سياسة الموت المبرمج ضدّ الشعب الفلسطيني وينشر ثقافة موت عنصرية ضدّ غير الصهيوني وخصوصا ضدّ العرب. في ظلّ هذا الواقع، وفي ظلّ رفض إعطاء الشعب الفلسطيني الحدّ الأدنى من حقوقه، ووسط الانسداد الكامل أمام هذا الشعب، كان العنف الذي اتخذ شكل العمليات الانتحارية أحد الأجوبة العملية في منطق حركات المقاومة، وهي أجوبة تعبّر عن يأس وإحباط من إمكان إجبار إسرائيل على التوقّف عن قتل الشعب الفلسطيني بدم بارد . لا يعني هذا التفسير إعطاء شرعية لمثل هذه العمليات التي كثيراً ما انقلبت ضدّ الأهداف السياسية للفلسطينيين، خصوصاً أنّ ضحاياها كانوا من المدنيين في معظمهم، ولم يمكن لها أن تعدّل في مسار السياسة الإسرائيلية، مما يجعل هذه الممارسات موضع تساؤل حول جدواها السياسية ومدى تلبيتها للأهداف النضالية للشعب الفلسطيني.
إنتاج ثقافة الموت: إعلام ديني، أنظمة استبداد، عصبيات منفلتة
تقدم المجتمعات العربية، ومن مداخل متعددة، ميادين يجري من خلالها إنتاج ثقافة الموت، بل ليس من المبالغة القول أنّ ما تتميز به هذه المجتمعات هو التفنّن في تقديم الموت في أحلى صوره، سواء مباشرة أم غير مباشرة. تقدم المدارس الدينية ومعها برامج التعليم الديني، التي باتت تحتل حيزًا مركزياً في تكوين الثقافة المحلية، مادة غنية بالتشديد على دور الموت وضرورته الدينية والدنيوية. تأتي في طليعة المؤسسات الداعية إلى ذلك المؤسسة الدينية الرسمية التي ترعى هذه المدارس وتضع لها البرامج. تمتاز هذه البرامج بالدعوة إلى نشر الدين عبر الجهاد في سبيل الله، وهو يعني هنا استخدام العنف في الوصول إلى هذا الهدف. يستعير المدرسون والمشرفون على البرامج الدينية آيات الجهاد والعنف الواردة في النص الديني ويلقنونها للطلبة في وصفها آيات صالحة لكل زمان ومكان، مما يعني مشروعيتها في زمننا الراهن، فيتشرّب الطلبة، صغارًا وكبارًا، الكراهية والحقد على الآخر، ويتحوّل سائر البشر غير المسلمين إلى كافرين يستحقون الموت، ويمتلئ الطلبة بالعقيدة الداعية إلى الاستعداد للموت في سبيل تحقيق هذه الأهداف “الإلهية”. تغلّب هذه البرامج منطق التضحية بالذات في سبيل المجموع والأمة، وتحطّ من قدر الإنسان الفرد وحقّه في الحياة الحرّة. لعلّ الشعار السائد بقوّة في مجتمعاتنا العربية المردد “بالروح بالدم نفديك…” يدلّ على نوع الثقافة التي تتمّ تنشئة الأجيال عليها وتسعى إلى تسييدها بين سائر أبناء الشعب.
لكنّ الأسوأ من الثقافة التي تنشرها المدارس الدينية هو ما يطرحه الإعلام متعدد المشارب، وخصوصا منه المرئي عبر القنوات الفضائية المنتشرة بكثرة في كل مكان من العالم العربي. من المعروف أنّ التلفزيون يخترق اليوم الحياة اليومية للمواطن العربي بإرادته أو بغير إرادته، ويتدخل الإعلام في خصوصيات الفرد، وتحتل مشاهدة البرامج التلفزيونية الحيز الأساسي من المشاهدة. قدم التلفزيون، بشكل خاص، الخدمة الأكبر للمؤسسات الدينية وللدعاة والمبشرين في نشر ثقافتهم الدينية وفق رؤاهم الخاصة بهم. كما قدمت الثورة التكنولوجية في ميدان الاتصالات فرصة لم تكن معروفة من قبل لنشر الفكر الديني وسائر أنواع الثقافات الجيدة منها والرديئة ومن سقط المتاع. تبلغ أعداد المواقع الإلكترونية والمحطات الفضائية المتخصصة في البرامج الدينية اليوم بالآلاف، منتشرة في جميع أرجاء العالم العربي والإسلامي، بحيث يمكن وبسهولة الوصول إلى أي فكرة يرغب داعية دينية إيصالها إلى الجمهور. تشدد البرامج الدينية في وسائل الإعلام على أيديولوجيا تقوم الحلقة المركزية فيها على تبخيس الحياة الدنيا والدعوة إلى نبذها، واعتبار الحياة الآخرة هي الحياة التي تستحق أن يسعى إليها الإنسان، إنها ثقافة “تدير ظهرها للزمني والعياني لتنفلت من كل قيد، وإنها تهيئ لا لهذه الأرض، ولا للعمل والإيجابية” على ما يشير علي زيعور في كتابه :”الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، ص 29″. تسعى هذه الأيديولوجيا إلى تقديس فكرة الموت والتشجيع عليه، وتقدم الوسائل الإعلامية المداخل الضرورية لولوج عالم الموت واكتساب حياة الآخرة بجنتها الموعودة ونعيمها المنتظر. أما الطرق اللازمة للوصول إلى هذا الخيار فهي التضحية بالنفس عبر الجهاد في سبيل نشر الدين وقيمه، وهو خطاب محرّض على القتل في جوهره، بل وداع إلى إعطاء مشروعية لهذا العنف. لا تقتصر هذه البرامج الدينية الداعية إلى تقديس الموت على الكبار من المشاهدين، بل إنّ المدارس الدينية ومعها برامج الإعلام تلقن الصغار في السن المفاهيم التي تثمن الموت وتقدسه وتزرع في الطفل روح الانتقام والكراهية تجاه الآخر المختلف.
تقدم الثقافة الدينية المبثوثة في وسائل الإعلام ثقافة الموت انطلاقاً من التشديد على تقديس القدرية والتواكلية. تؤكد هذه الثقافة على أنّ كل ما يجري في هذا الكون، وكل ما يصيبنا إنما هو إرادة الله التي لا قدرة على رفضها، فالموت في هذه الحالة هو من إرادة الخالق الذي يجب شكره على كل ما يصيبنا من ألم وأذى ومكروه. لعل ردود الفعل التي شهدها العالم العربي بعد العمليات الانتحارية التي نفذها مواطنون عرب، ومدى الحماس الشعبي لها تدل على مدى الاستخفاف بالإنسان وبالحياة الدنيا وبالتشجيع على القتل المتواصل، خصوصاً بعد تنسيب نجاح هذه العمليات إلى العناية الإلهية التي شاءت الانتقام والقصاص من الكافرين والمرتدين. إنّ تكويناً عقلياً ونفسياً مشبعا بتقديس الموت مؤهل موضوعياً لإنتاج ثقافة تقدس العنف والانتقام والكراهية والحقد تجاه الآخر غير المنتمي او الملتزم المبادئ والمفاهيم نفسها.
الميدان الآخر الذي يجري فيه إنتاج ثقافة الموت يتصل بنمط الأنظمة العربية السائدة وطبيعة السلطة وممارساتها تجاه شعوبها. ويمكن قراءة هذا الموضوع من جانبين. يتصل الأول بكون السلطات الرسمية لا تقف في وجه الإعلام الديني أو البرامج الدينية التي يجري تثقيف النشء بها، بل على العكس يبدو أنّ السلطات الرسمية تدرك أهمية تشجيع هذه البرامج وتعي دورها في ممارستها السياسية لجهة تحوير الاهتمام عن المعضلات والمآسي التي تصيب الشعب وحالة الفقر والبطالة التي يعاني منها، وهي أمور تتسبب للأنظمة بمواجهات مع الجمهور ومطالب سياسية ومعيشية. ترى هذه السلطات أنّ تحويل اهتمام الجمهور إلى الغيبيات والماورائيات، والتأكيد على تفاهة الحياة الدنيا والسعي إلى التعويض في الحياة الآخرة، هو أفضل الوسائل لتغيير وجهة المطالبة بتحسين الحياة في الدنيا، بل تعويد الشعب على مسؤولية الله عن الحالة التي يقبعون بها وليس مسؤولية السلطة، بما يضعف روح الاستعداد لخوض معركة تحسين الحياة، طالما أنّ الإله يرغب في استمرار هذه الحالة من البؤس والتعاسة. يضاف إلى هذه الوظيفة “الثمينة”، إنّ تكريس خطاب أيديولوجي قائم على ازدراء الحياة الدنيا، يساعد في الوقت نفسه على تشجيع وسيادة حالات الخنوع والاستسلام من المواطن، طالما أنّ ما يجري هو إرادة الله ومشيئته. وهي أيديولوجيا تتواطأ السلطتان الدينية والسياسية في تكريسها وتلقينها للجمهور بل الدعوة إلى تقديسها.
تقدم المجتمعات العربية، بدرجة التخلف التي تحيى بها، المثل الأكبر لإنتاج ثقافة الموت، حيث تجد هذه الثقافة حضنها في الفقر والجهل والأمية والبطالة والتهميش والإحباط… وهي عوامل تدخل اليأس إلى ذات المواطن العربي. إنّ اتساع المنتسبين إلى الحركات الأصولية والمستعدين لتفجير أنفسهم وقتل المدنيين، إنما يجد تفسيره في هذا الإحباط، تغذيه أيديولوجيا دينية تبشره بحياة أفضل في الآخرة وتشجعه على التضحية بالنفس في سبيل هذه الحياة. قياساً على مجتمعات أخرى في العالم، تبدو المجتمعات العربية اليوم من أكثر المجتمعات إنتاجا للعنف واستعدادا للموت العبثي، وتشجيعاً للأعمال الإرهابية بل واحتضان الكثير منها.
لا شك أنّ الأنظمة السياسية القائمة والنظم الديكتاتورية السائدة تشكل عنصرًا مركزياً في إنتاج ثقافة الموت في العالم العربي. تتحمل هذه الأنظمة مسؤولية عن البؤس الاجتماعي الذي ترزح تحته الشعوب العربية، وما يسببه أيضا من شقاء روحي وتعاسة تؤدي بالفرد العربي إلى خيارات من بينها خلاص النفس في الموت المنظم عبر قوى ذات أهداف سياسية. وإذا ما تجاوزنا التخلف العام الذي تنتجه أنظمة الاستبداد العام، فإنّ تاريخ هذه الأنظمة مليء بسياسة إنتاج الموت من خلال السياسات التي مارستها ولا تزال ضد المعارضين لها والمحتجين على افتقادها العدالة والمساواة وتحقيق الحرية. شكلت سياسة الاستبداد وزج الناس في السجون وممارسة سياسة التعذيب حتى الموت والقتل المتعمد من السلطات الحاكمة لقوى الاعتراض، مقرونا ذلك كله بالإطباق على حرية الرأي والتعبير، اكبر منتج للموت المباشر وغير المباشر، وهو ما عبر عنه مصطفى صفوان حين يقول :”إنّ حاجة الشعوب إلى الحرية أمر طبيعي، لكن حقيقة أنها تعيش في حالة حداد مستمر على الحرية أمر لا يمكن إنكار وجوده في العالم العربي” (مصطفى صفوان وعدنان حب الله: إشكاليات المجتمع العربي، قراءة من منظور التحليل النفسي ص 74). نجحت الأنظمة الحاكمة في تحويل مجتمعاتها إلى مجتمعات ميتة بالمعنى السياسي وبالمعنى الاقتصادي والنفسي والروحي، وهو نجاح ساعدها في تكريس هيمنتها وبسط تسلطها على مجموع الشعب من دون الخوف من حركات مناهضة يمكن لها أن تزعزع بنيان هذه الديكتاتوريات. يعبر الدكتور في علم النفس عدنان حب الله عن حالة الشعوب العربية في ظل أنظمة الاستبداد بالقول :”يتم تقبل الموت في مجتمعنا بصفاء كبير، كما لو أنه جزء من القدر” (جرثومة العنف ص29). يقدم الأدب السياسي حول السجون عبر كتابات عبد الرحمن منيف وفرج بيرقدار وطاهر عبد الحكيم وغيرهم من الكتاب الذي رووا تجربتهم في غياهب السجون العربية، يقدم هذا الأدب أبشع الصور عن سياسة الموت وصناعته في سجون هذه الأنظمة، بعد أن يسبق الموت تعذيب السجين وإذلاله والحط من إنسانيته إلى أبعد الحدود. وفي السياق نفسه، لا ينفصل غياب العقلانية والفكر العقلاني، وهو الأمر الذي تشجع عليه أنظمة الاستبداد القائمة، عن إطلاق العنان لفكر الخرافات والغيبيات، مما يعني تغليبا لثقافة الموت على ثقافة الحياة بمعناها الحقيقي.
أمّا الخزان الضخم الذي تغرف منه اليوم ثقافة الموت، فهو المتعلق بانبعاث العصبيات بشتى أنواعها ومعها “الهويات القاتلة” وفق تعبير الكاتب اللبناني أمين معلوف، والتي تشكل بفكرها وممارستها وتوجهاتها مصدرًا لإنتاج ثقافة العنف والقتل. يقدم المشهد العربي صورة لواقع مجتمعاته بات الأساس فيها تفكك بنى الدولة لصالح انبعاث هوية العصبيات العشائرية والطائفية والقبلية والعرقية، وهي بنى صاعدة وباتت في أكثر من مكان تحتل موقع الدولة في ممارسة السلطة والعنف ضد سائر العصبيات. إذا كانت الدولة المتكونة بعد الاستقلالات قد شكلت مرحلة متقدمة في تحديث المجتمعات العربية، فان تحللها الراهن- المقبل يوحي بأنّ هذه المجتمعات سائرة إلى نزاعات أهلية وحروب بين القوى المحلية، بحيث يسود منطق القتل والاستئصال والقمع بين العصبيات وضد بعضها البعض. لا يبشر المشهد العربي بانتعاش لثقافة الحياة بمقدار ما يخيم شبح الموت وثقافته على حراك العصبيات المنفلتة من عقالها. فمن لبنان إلى العراق إلى اليمن إلى الجزيرة العربية إلى المغرب العربي إلى مصر…يطل شلال الدم المتدفق هنا وهناك، وينتصب شبح القتل ليشكل الحكم بين المجموعات المتصارعة.
بصرف النظر عما إذا كانت الدولة العربية التي قامت قد اتّسمت في مرحلة أولى بالقوّة المستندة إلى الأجهزة الأمنية، ثمّ تحوّلت تباعا إلى “دولة رخوة”، إلاّ أنّ وجود مؤسساتها وأجهزتها كان يشكل رادعاً يمنع المجموعات القائمة من الاقتتال. يشكل انحلالها إلى “لا دولة” المرحلة الخطرة في الصراعات الداخلية التي يصعب على العصبيات تجاوز انفجارها عنفاً بديلاً عن الاحتكام إلى الصراع السلمي في حلّ المعضلات المتوارثة.
تقوم العصبيات على جملة مفاهيم ومبادئ تكاد تكون مشتركة بين جميعها، أهمها التعصّب للجهة التي تنتسب إليها. يتحول التعصّب إلى خطر يهدد المجتمع عندما يستند إلى إيديولوجيا، دينية أكانت أم سياسية، يرى المتعصب بموجبها أنّ فرقته تحمل الحقيقة، وأنها تملك الصواب، فيما تقبع المجموعات الأخرى في الضلال. يتساوى التعصب السياسي مع التعصّب الديني في كونهما منتجين للعنف وثقافة القتل والإبادة، ويتسببان في التكفير والتخوين بما يبرر الممارسات العنفية التي يجري اعتمادها في العلاقة مع الآخر. تقوم الذهنية العربية منذ القدم وتتركب على التعصب ضدّ الآخر، وتتغذّى من عناصر التخلف السائد على جميع المستويات، ومن الاستعصاء عن الدخول في الحداثة والتأثر، إلى حد بعيد، بمنتجات هذه الحداثة في الديمقراطية وحل النزاعات بالوسائل السلمية، وبالاعتراف بالآخر والعيش معا محتفظة كل فئة لنفسها بحق الاختلاف. إنّ غياب هذه الثقافة يفسح المجال واسعاً لثقافة بديلة عمادها الحروب الأهلية ونشر الموت بين أبناء المجتمع.
يثير المشهد الذي عرفته الساحة اللبنانية منذ سنوات، وهو الذي رفعت فيه قوى طائفية ادعت لنفسها تمثيل “ثقافة الحياة” في وجه مجموعات طائفية وسمتها بتقديس “ثقافة الموت”، يثير المشهد الكثير من السخرية والاستهجان. منذ القرن التاسع عشر ووصولاً إلى الزمن الراهن، لم تتمكن الطوائف اللبنانية من بناء وطن له دولة تقوم فوق المجموعات الفئوية وتحتكر العنف على حساب هذه المجموعات كما هو شأن المجتمعات التي عرفت الدولة. كانت المجموعات الطائفية تحتكم في كل مرحلة من تاريخ تطورها إلى منطق العنف لتعديل موازين القوى وتغيير معادلات السلطة للطائفة الصاعدة. وكانت في كل محطة من محطات العنف هذه، تتسبب في ضحايا بشرية وتدمير البنى التحتية، والأخطر من ذلك هو تفكيك النسيج الاجتماعي، بحيث كانت كل حرب أهلية تؤسس لأخرى بعد عدة سنوات. لم يشهد لبنان مجموعة طائفية سعت إلى السلطة وحملت معها “ثقافة الحياة”، بل على العكس تماماً، كانت كل مجموعة تزرع ثقافة الموت في مجمل أرجاء المعمورة اللبنانية في سعيها هذا إلى احتلال الموقع الأساس في السلطة، بحيث انطبق على لبنان قانون حتمية الحروب الأهلية ومداورتها سبيلاً إلى تسوية النزاعات، فتؤسس هذه الحروب لثقافة مشبعة بالكراهية والحقد والاستعداد للثأر من الأطراف الأخرى. مما يجزم بالقول أنّ الطوائف أبعد ما تكون عن إنتاج ثقافة تقف في وجه العنف، بمقدار ما هي ثقافة تخلق العنف وترعاه وتمنحه القوة والاندفاع إلى أقصى الحدود. إنّ الطوائف في ممارستها تهدر كل ما يكون المجتمع قد حققه من تقدم، وتعيده إلى مراحل ملؤها الهمجية في الفكر والممارسة. لقد أصاب مصطفى حجازي في تصويره لما تنتجه الطوائف حين يقول :”إننا بصدد هدر لإنسانية الإنسان متعدد الأبعاد والمستويات والألوان، بدءًا بهدر الدم وادعاء الحق في التصرف بالكيان، وانتهاء بهدر الوعي والحجر على العقول، ومرورًا بهدر الطاقات الحية من خلال الحرب عليها، والتفنن بأساليب قمعها” (الإنسان المهدور ص27).
ثقافة الحياة، بأيّ معنى؟
إذا كانت ثقافة الموت تبدو النتاج الغالب في المجتمعات العربية حتى اليوم، فإنّ هذه السيطرة ليست قدرًا أبدياً تنحكم بموجبه الشعوب العربية إلى الإحباط واليأس من إمكان التجاوز لهذا الواقع. تناضل الشعوب في كل مكان في العالم من أجل حياة أفضل، وتنظر إلى الحياة ليس في وصفها طريقاً نحو الموت بمقدار ما هي، في المكان والزمان، ميدان للعيش الكريم والتمتع بنعم الحياة والسعي إلى الإبداع، كل ذلك من اجل تحقيق سعادة الإنسان في هذه الدنيا، قبل أن يكون الهدف ترحيل هذه السعادة إلى الحياة الآخرة.
في تاريخ الشعوب نضالات من أجل إعطاء معنى لحياتها، اتخذت أشكالا متعددة، من النضال لتحقيق السلام ومنع الحروب، إلى إقامة أنظمة سياسية تكفل الحياة الهانئة، وصولاً إلى إنتاج ثقافة سياسية ومدنية تندرج في الإطار نفسه. ليست المجتمعات العربية فريدة في بابها لجهة الإقفال على كل ما يدعو إلى التمتع بالحياة الدنيا وإنتاج ثقافة تؤكد على ذلك، بل إنّ الشعوب العربية مدعوة لنضال مديد وصعب لاستبدال ثقافة الموت السائدة بثقافة حياة حقيقية.
يقوم الشعار المركزي، هنا، على ضرورة بناء دولة الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة أمام القانون. تمثل الحرية، بمعناها الشامل، من حرية الرأي والتعبير، إلى حرية العمل السياسي، إلى الحرية في الخيار الشخصي، شرطاً أولياً لحياة حرة يرغبها الإنسان، بعيدًا عن التسلط والاستبداد السائدين. وترتبط ثقافة الحياة بالاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية، بما يمنع احتكار الحقيقة أو تكريس هيمنة أيديولوجية وسياسية على سائر الأطراف، بما يحرمها من حقوقها السياسية والمدنية. وهذه التعددية تسمح بالاعتراف بالآخر المختلف، والتعايش سوياً رغم هذا الاختلاف وفي إطار الخصوصيات المتبادلة، وهو أمر أساسيّ في كسر القوالب الجامدة والدوغمائية التي تشكل أرضا خصبة لإنتاج العنف ورفض الآخر.
تقترن “ثقافة الحياة” بسيادة العقلانية بوصفها قاعدة إدراك أمور الإنسان والطبيعة، وبما يمنع تسليط سيف الغيبيات والخرافات والأساطير على عقول الشعب. وهذه العقلانية عندما تسود، تسمح بوضع الأمور الماورائية في موقعها الصحيح، خصوصاً المسائل الدينية، فتحدّد لها موقعها الروحي والإنساني والأخلاقي، وتبعد هيمنة السياسة عن الدين، أو توظيف الدين في خدمة مصالح فئوية لهذه الجهة أو تلك. ولا تستقيم العقلانية دون ولوج باب العلمانية، وخلافا للادّعاء بأنّها ضدّ الدين، بل على العكس في كونها تضع الدين في موقعه الحقيقيّ وتبعد عنه كل ما يشوّه أهدافه. هذه العلمانية، تدعو إلى العقل حاكماً في الأمور، وإلى حرية الفرد في خياراته، وإلى اعتبار هذا الفرد قيمة قائمة بذاتها. وهي العلمانية التي تمنع التكفير والتخوين ضدّ حامل الرأي الآخر لأيّ سبب من الأسباب.
لا يكتمل إنتاج ثقافة الحياة دون قيام دولة تستند إلى الديمقراطية بمعناها الشامل والواسع، وتقترن بالعلمانية في وصفها رافعة الثقافة العقلانية، دولة تستند إلى القانون الذي يحقق العدالة الاجتماعية، ويسمح بحلّ النزاعات عبر الأطر السلمية بما يكفل حقوق جميع المجموعات التي يتكون منها الشعب، دولة تستطيع أن تفرض عنفها على حساب سائر المجموعات والعصبيات القائمة، دولة تسمح بقيام مجتمع مدنيّ يلعب دورًا في تطوير المجتمع ويساعد في إنتاج ثقافة مدنية هي في جوهرها ثقافة تشدّد على الحياة وعيشها بحرية.
لا يعني هذا التشديد على منطق التمسّك بالحياة وعيشها رفضاً لتغيير واقع يعيش فيه الشعب تحت سيطرة أجنبية واستعمار متعدد الأشكال ومشروع صهيوني يزرع الموت والدمار كلّ يوم في حياة الشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية، بل على العكس تماما، فإنّ النضال في أشكاله المختلفة، المسلح منه والسلميّ، والدعوة إلى التضحية في سبيل الاستقلال والحرية، إنما هي دعوات تقع في صميم الهدف الداعي إلى إنتاج ثقافة الحياة. فلا كرامة ولا سعادة ولا حرية في ظل الاستعمار وهيمنته واستبداده.
دفعت المجتمعات الغربية مئات الآلاف من الضحايا من أجل ترسيخ فكر التنوير في القرون السابقة، وعاشت حروباً أهلية من أجل فصل الدين عن الدولة ووضع كل واحد في الموقع المتصل بحقيقته. كما خاضت هذه المجتمعات حروباً عالمية من أجل أن تكرس في النهاية منع الاقتتال بين بعضها البعض، وفي سبيل إعادة الاعتبار للإنسان وحقه في الحياة، بما فيها تكريس شرعة حقوق الإنسان التي باتت دستورًا إنسانيا شاملاً. إذا كانت الشعوب العربية قد حققت استقلالاً عن المستعمر، وهو شرط ضروريّ لا يستقيم من دونه بناء حياة حرة وكريمة، إلاّ أنّ المجتمعات العربية عجزت حتى اليوم عن استكمال هذا الشرط عبر بناء دولة حرّة ديمقراطية تعطي للفرد العربي حقّه في العيش الكريم، بل أنّ ما يجري هو “استعمار داخليّ” في حقّ هذه الشعوب، يمارس أحياناً سياسة تبدو أسوأ من ممارسة الاستعمار الخارجي.

مراجع:
حجازي مصطفى، الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006
حب الله عدنان : جرثومة العنف، الحرب الأهلية في صميم كل منا، دار الطليعة، بيروت، 1998
دباغ فخري: الموت اختيارا، دراسة نفسية اجتماعية موسعة لظاهرة قتل النفس، دار الطليعة، بيروت، 1986
فرويد : أفكار لأزمنة الموت، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة بيروت، 1981
صفوان مصطفى وعدنان حب الله: إشكاليات المجتمع العربي، قراءة من منظور التحليل النفسي. المركز الثقافي العربي، بيروت،2008
زيعور علي : الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، القطاع اللاواعي في الذات العربية. دار الطليعة، بيروت، 1977.
موقع الاوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى