عن محنة الديمقراطية في العالم العربي
ماجد كيالي
انشغلت معظم الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية في الساحة العربية، طوال النصف الثاني من القرن المنصرم، بشعارات ومقولات التحرير والوحدة والاشتراكية، على اعتبار أنها التحديات الأساسية التي تواجه الأمة العربية، في سعيها للنهوض بأوضاعها وتعزيز مكانتها.
هكذا، فإن هذه الأحزاب والتيارات لم تشتغل على مسألة الديمقراطية، إلى الدرجة المناسبة، ولا على مسألة الدولة والمواطنة في العالم العربي، إذ ظلت هذه القضية مهمشة، أو تأتي تاليا في سلم الاهتمامات الوطنية والقومية.
الوعي المتعثّر بالديمقراطية
فقط، ومنذ العقد الأول من هذا القرن (الحادي والعشرين)، بدا وكأن مسألة الديمقراطية باتت تحتل مكانة محورية في الخطابات التغييرية العربية، بعد أن انحسرت مكانة الخطابات القومية المتعلقة بمسألة الوحدة والتوحد العربيين، والخطابات اليسارية المتعلقة بمسألة العدالة الاجتماعية (أو الاشتراكية)، لأسباب داخلية وخارجية؛ بحيث أضحت مسألة الديمقراطية بمثابة مخلّص، أو بديل، لاسيما بالنسبة للتيارين القومي واليساري.
ويصح القول بأن مسألة الديمقراطية، طوال الفترة المذكورة، باتت لدى كثير من التيارات السياسية العربية تنافس، وربما تزيح، الأولوية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي (وضمنها قضية فلسطين) جانبا، ولأول مرة.
لكن تجربة السنوات الماضية أكدت استعصاء مسألة الديمقراطية في الواقع العربي، على الصعيدين السلطوي والمجتمعي، بما لا يقل عن الاستعصاء الحاصل في قضايا فلسطين والوحدة والاشتراكية.
وقد بينت التجربة أن الواقع العربي: السياسي والمجتمعي والثقافي لم يستطع تمثّل مسألة الديمقراطية، وهذا يتعلق بالحكومات (وبالأصح السلطات) والمحكومين أو “الرعية”؛ وتقع مسؤولية ذلك (بحسب كتاب “هرطقات” لجورج طرابيشي) على عاتق الطرفين، فالذين فوق يسيطرون بسلطاتهم، والذين تحت يسيطرون بثقافاتهم وعاداتهم.
لكن لا ينبغي أن يستنتج من ذلك بأن إعاقة الديمقراطية، واستعصاء الديمقراطية، في الواقع العربي إنما تصدر عن جوهر ثابت أو مطلق فيه (على ما يذهب البعض من المستشرقين والمتغرّبين)، وإنما هي تصدر عن تكلّس الواقع العربي، وهشاشة تفاعلاته، وضعف الفاعلين فيه، ما يضعف قدرته على النهوض والتطور الديمقراطيين.
هكذا، مثلا، دخلنا في مسار التحديث من دون حداثة، وعرفنا من الحداثة مظاهرها وتجلياتها، دون التعمق بجوهرها وتوسّل أدواتها والمشاركة بإعادة إنتاجها. وهكذا، أيضا، تحولنا إلى إطار المدينة من دون تمدين، بحيث بتنا مدنيين نفتقد للمدنية، بمعناها وثقافتها الهوياتية والأداتية؛ أي أخذنا المكان (المدينة) من دون أن نتمثل زمان المدنية ودلالاتها وتعبيراتها المجتمعية والمؤسسية.
فضلا عن كل ما تقدم فإن محنة الديمقراطية في العالم العربي تنبع من افتقاد الموروث التاريخي، السياسي والثقافي، لمفهوم الدولة والمواطنة، واتكاء هذا الموروث على مفاهيم “الخلافة” الدينية، و”الأحكام السلطانية” والنماذج “المملوكية”، وثمة في الواقعين الثقافي والسياسي ما يعمل على تكريس هذا الموروث وإعادة إنتاجه، بتلاوين مختلفة.
طبعا، ثمة اجتهادات كثيرة، أيضا، أحالت ذلك الاستعصاء (في مسألة الديمقراطية) إلى طبيعة البنية الاجتماعية العربية، وتقليدية الفكر العربي، وعدم التمييز بين الديني والدنيوي، أو بين العلم والدين، كما ثمة من أحال ذلك الأمر إلى العوامل الخارجية، وضمنها الاحتلالات والتدخلات الغربية في الشؤون العربية.
وعلى الأغلب فإن استعصاء العملية الديمقراطية في العالم العربي إنما ينبع من مجموعة عوامل، يمكن ملاحظتها في الإشكاليات التالية:
الدولة أولا
الإشكالية الأولى، تتعلق بطبيعة تشكّل الدولة في البلدان العربية، التي نشأت، في الأغلب، إما على حامل المؤسسة العسكرية (الجيش)، وإما على خلفيات قبلية/عشائرية. هكذا قادت هذه الأوضاع إلى تآكل الدولة المفترضة (دولة المؤسسات والقانون) لصالح السلطة، وإلى تهميش المجتمع، وعرقلة تحديثه وتمدينه، كما أدت إلى التحكم بمصادر الثروة والقوة والتشريع.
وبديهي فإن تجاوز هذه الحال لا يكمن فقط في إرساء تكريس الشرعية السياسية عبر الانتخابات والاستفتاءات (على ما يحصل في بعض البلدان العربية)، وإنما هو يكمن بداية بإعادة الاعتبار للدولة (المؤسسات)، وإعلاء شأن القانون، وفصل السلطات، واحترام الحريات الفردية والعامة، وتحقيق المساواة بين المواطنين. فهذه هي المداخل الحقيقية اللازمة لإرساء التحول الديمقراطي في العالم العربي، وبعد ذلك تأتي قضية الانتخابات والاستفتاءات، وتداول السلطة؛ أي أن الديمقراطية تأتي تاليا لمسألتي الدولة والمواطنة، والاعتراف بالحريات والحقوق الأساسية، وليس العكس على ما يروج البعض.
هكذا، فنحن هنا لا نتحدث عن الديمقراطية، وإنما نتحدث عن أهمية قيام الدولة أولا، باعتبارها معبر العالم العربي نحو الحداثة والتحديث، نحو العقل والعقلانية، نحو السياسة والمشاركة السياسية.
ويستنتج من ذلك أن الجهود يجب أن تتركز أولا وقبل كل شيء على إعادة الاعتبار للدولة، أو تأسيس الدولة الحديثة في واقعنا العربي، دولة المؤسسات والقانون والدستور، باعتبار ذلك مقدمة ليس للديمقراطية فقط، وإنما لأية تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية في الواقع العربي. فدولة المؤسسات والقانون (ونحن هنا لا نتحدث عن شكل النظام السياسي)، هي سابقة على الديمقراطية، فلا يمكن أن تتحدث عن التأسيس لديمقراطية في غياب هكذا دولة بمعنى الكلمة، أو في ظل وجود مجرد سلطة.
تمكين الديمقراطية
الإشكالية الثانية، وتتعلق بمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العالم العربي، وهو عموما مستوى متدن وضاغط، ويحول دون تمكين الأغلبية المجتمعية من الاستحواذ على وعي سياسي واجتماعي لائق، ويحد من قدرتها على الوصول إلى مصادر المعلومات، ويضعف إمكانية معرفتها لحقوقها ومصالحها، وبالتالي ممارستها حرياتها، بعيدا عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
وقد أكدت على ذلك تقارير التنمية الإنسانية العربية، التي أشارت إلى أن النقص في المعرفة والنقص في التنمية يؤديان بداهة إلى النقص في الحرية، أو في التمكين من الحرية، وبالتالي النقص في التمكين من الديمقراطية.
ورب قائل بأن ثمة دولا ذات مستوى اقتصادي واجتماعي متدن تمارس عملية الديمقراطية وعملية تداول السلطة (مثلا الباكستان والهند)، إلا أن التجربة تؤكد بأن وجود مستوى لائق من التنمية يبقى على غاية الأهمية بالنسبة لضمان مشاركة سياسية حقيقية، وإرساء ديمقراطية فاعلة، بعيدا عن سلطة أو هيمنة المال والضغوطات المالية. ولا شك هنا بأن الفرد الأكثر تعليما، والذي يحظى بحد مناسب من العيش بحرية وكرامة، هو أكثر قدرة على معرفة مصالحه والذود عن حرياته وعن حقوقه؛ في حين أن الفرد العربي، على الأغلب، يعيش في غربة عن مجتمعه وعن دولته، وهو بالكاد يدرك حقوقه ومعنى مواطنيته، فيما هو غارق في هموم تحصيل لقمة العيش، وتأمين مستلزمات المأكل والملبس والمسكن، فضلا عن تكاليف التعليم والطبابة وغيرها؛ وفي هكذا أحوال فمن البديهي أن الديمقراطية الناشئة بهكذا أوضاع يمكن ان تكون ناقصة أو مقيدة، أو خاضعة للسلطات المهيمنة على احد المجالات أو عليها كلها (السلطة السياسية أو السلطة المالية أو السلطة القبلية).
العامل المجتمعي
الإشكالية الثالثة، وتتعلق بطبيعة البنية الاجتماعية والثقافية السائدة في البلدان العربية، وهي بنية قبلية، عشائرية وعائلية وطائفية ومذهبية وإثنية، وتنتمي لمرجعيات دينية، ومذهبية. وبديهي أن هكذا خلفيات تعيق الاندماج المجتمعي في البلدان العربية، وتحد من الانتقال إلى مسار الحداثة (مسار المواطنة والدولة والعقل)، وتساهم في إبقاء المجتمعات في حال من التفكك والاستنفار، وتحول دون تبلور المجتمع المدني. اللافت أن السلطات السائدة تبدو مرتاحة لهذا الوضع القلق، وتستمرئ العيش على هذه التناقضات، وتنصّب نفسها حكما لكل هذه الأحوال، وتجعل من وجودها الحل الأفضل لضمان الأمن والاستقرار، بدلا من وضع أسس الاندماج المجتمعي عبر المواطنة والدولة والقانون!
التدخلات الخارجية
الإشكالية الرابعة، وهي تتعلق بالاحتلالات والتدخلات والضغوط الخارجية، فلا شك أن قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والاحتلال الأميركي للعراق، والسياسة الأميركية الرعناء في المنطقة، كلها تسهم في إعاقة الديمقراطية، وتثير الشبهات بشأنها؛ ما يعزّز، ولو بشكل غير مباشر، نزعة السلطة في البلدان العربية، التي جعلت من الصراع العربي الإسرائيلي، الأولوية على قضايا التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولاشك هنا بأن محاولة إدارة بوش المنصرفة تبني مسألة الديمقراطية، في العالم العربي، ورفع شعار “نشر الديمقراطية”، كتغطية لسياساتها الابتزازية والتدخلية، شوّش على عدالة مطلب الديمقراطية في بعض الأوساط الشعبية (كما السلطوية)، وأسهم بخلق نوع من الريبة والبلبلة إزاء كيفية التعاطي مع مطلب الديمقراطية في العالم العربي.
دورة التطور
هكذا تتمثل محنة الديمقراطية في العالم العربي بعدم اكتمال دورة التطور باتجاه الحداثة، أي باتجاه العقلانية والتمدين والدولة والمواطنة والحريات الأساسية (بما فيها حرية الرأي والمعتقد)، فضلا عن التشوهات التي باتت تحيط بهذه الدورة، بشأن ما يتعلق بالتطور الاجتماعي أو الاندماج الاجتماعي، وما يتبع ذلك من تطورات في مجالات الثقافة والتقانة والتنمية الاقتصادية.
والحقيقة فثمة سياق تاريخي (سياسي واجتماعي) لهذه العملية، تبدأ بداية من قيام الدولة، أي دولة المؤسسات والقانون، التي تتأسس على الفصل بين السلطات، مرورا باحترام الحريات الفردية وحقوق الإنسان أو المواطن (أي من مفهوم المواطنة)، والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن مراتبهم الاجتماعية والوظيفية وانتماءاتهم المذهبية والطائفية والإثنية، وصولا إلى ضمان الحق في التعبير والتنظيم والمشاركة السياسية، ما يعني الحق في إنشاء الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، وأخيرا، أي وبعد كل ذلك لا قبله، احترام مبدأ تداول السلطة، عبر صناديق الانتخاب والاقتراع.
يستنج من كل ما تقدم أنه لا يمكن التعاطي مع الديمقراطية بوصفها شعارا، فهي عملية، وهي نتيجة أو ثمرة لمجمل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبهذا المعنى لا يمكن استنساخ الديمقراطية، ولا استيرادها، كما ولا يمكن اختزالها بمجرد عمليات انتخابية، شكلانية، أو مسيطر عليها.
وبكلمة فمن دون الدولة، ومن دون مواطنين، من الصعب توقع إرساء ديمقراطية في الواقع العربي.
الجزيرة نت