هواجس الفكر والأسلوب لدى المعارضات العربية
صبحي غندور
تعيش بعض الدول العربية هاجس الأمن الداخلي وارتباط أمنها مع دول الجوار، إضافةً طبعاً لمعاناة من أزمات اقتصادية وسياسية متنوعة، هي أحياناً نتاج مزيج من تصارع مع النفس ومع الخصوم في الداخل!
فالأمر ليس «مؤامرات خارجية» أو «مخطّطات صهيونية وأجنبية» فقط، رغم خطورة هذه المخططات وتأثيراتها السلبية، إذ أن موقع العطب هو في «الداخل» العربي الذي أباح ويبيح استباحة «الخارج» الدولي والإقليمي لكلِّ شؤون العرب وأرضهم وأوطانهم.
هذا الواقع العربي المرير هو مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمعارضين معاً، فمن المهمّ أن تدرك المعارضات العربية أنّ الإصلاح المنشود هو مطلوب لها أيضاً، وبأن يبدأ فيها أولاً، فالخلل والعلل، هي في كلّ المجتمع، لذلك فإنّ الإصلاح المنشود هو للمجتمع كلّه.
لكن المعارضات العربية معنيّة بإقرار مبدأ نبذ العنف في العمل السياسي، واتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، والتعامل بالمتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث تخلط قوى عربية عدة بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها، بوعي أو بغير وعي، عناصر وحدة المجتمع ومقوّمات وحدته الوطنية.
وينشغل «المعارضون» العرب بطروحات فكرية وسياسية متضاربة، تحاول تشخيص العلّة في المجتمعات العربية، فلا تجد لها من دواء إلا ما هو معروض في السوق العالمي للأفكار والنظريات، فهناك من يحدّد المشكلة العربية في غياب المجتمع العلماني المدني حصراً، ويرى البعض الآخر سببها في الابتعاد عن الدين وأحكامه وشريعته!
يتعامل البعض مع الأمراض المشتركة في الجسم العربي وكأن مصدرها علّة واحدة… قد تكمن في اضطهاد المرأة العربية أو في غياب الديموقراطية، بحيث انّ وحدة علاج هذه المشكلة يشكّل، في نظر هذا البعض، الأساس لعلاج كلّ أمراض المجتمع العربي! البعض ينظر إلى البلاد العربية كأمَّة واحدة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فيعيد أسباب تخلّفها الراهن ومصائب شعوبها المتعدّدة إلى غياب الوحدة السياسية بين العرب، والبعض الآخر ينظر إلى صيغة الكيانات العربية القائمة بمثابة السقف الأعلى الذي لا يجب تجاوزه حاضراً ومستقبلاً!
وبين هذا الطرح «العربي»… وذاك الطرح «الاقليمي»، تدخل جماعات «العولمة» التي تنظر لمشاكل العالم كلّه، ومنه عالم العرب، بمنظار اقتصادي بحت، لا يعترف بهويّة ثقافية، ولا بخصائص حضارية مميّزة، ولا يميّز بين عدوٍّ محتل وبين شعبٍ شقيق، إلا بمعيار المصلحة الاقتصادية!
*
ولا يختلف اثنان في البلاد العربية على أهمّية الإصلاح السياسي والاجتماعي… لكن الخلاف هو على الوسائل والكيفيات. فالإصلاح الشامل المطلوب يحتاج إلى عملية تراكمية وتكاملية على المدى الطويل لا إلى عملية انقلابية ضدّ حكومات، ووسيلته الناجعة هي الدعوة السلمية والإقناع الحر، وليس بقوّة العنف المسلح التي تشرذم الأوطان وقد تصل بها أحياناً إلى الحروب الأهلية.
إنّ «الديموقراطية» و«العدالة الاجتماعية» هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل حينما يكون هذا «الداخل» متحرّراً من الاحتلال أو سيطرة «الخارج». لكن عندما يخضع شعب ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديموقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتل أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
أمّا العامل الديني المهم في الحياة العربية فهو غير قادر وحده على معالجة الأزمات التي تعصف الآن بالأمّة العربية من كل حدبٍ وصوب، ومن الداخل والخارج، فهذا العامل هو عنصر مهم لبناء الأساس الفكري والخلقي والقيمي لأيِّ حركة إصلاح عربية، لكنّه يحتاج إلى استكمال بعناصر أخرى، خاصّةّ في ظلِّ واقع التجزئة السياسية العربية والانقسامات الطائفية والمذهبية التي تضع الحركات السياسية الدينية في مواجهة «الآخر» من الطائفة الأخرى بدلاً من مواجهة المسؤول عن سوء الواقع وفساده.
إنّ المنطقة العربية تحتاج إلى فكر يجمع بين البُعد الحضاري الديني وبين البُعد العروبي الديموقراطي، ولا يمكن استغناء أحدهما عن الآخر، أو محاربة أحدهما دون الآخر، فهذا ما حصل في بلاد العرب بمطلع القرن العشرين حينما ارتبط تقسيم البلاد العربية بطرح التغريب الثقافي وتهميش دور الدين في الحياة العربية.
*
إنّ الواقع الراهن للمنطقة العربية يقوم على مزيج من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في معظم البلاد العربية.
ومن الطبيعي أن تتحرّك جماعات المعارضة للمطالبة بأوضاع أفضل ومن أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ الحركات السياسية تحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف وليس لمصالحها الخاصّة… فهل هذه العناصر كلّها متوافرة في الحركات السياسية العربية المعارضة اليوم؟
أيضاً، فإنّ الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساس مهم في الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها داخل المجتمع، وما هو الفاصل بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب المرفوض، وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين، وكيف يمكن الجمع بين الديموقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد، وهل طريق الديموقراطية يمرّ في تجزئة الكيانات واخضاعها للسيطرة الأجنبية، ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود من حيث العلاقة مع إسرائيل، وهل ستكون «الشرق أوسطية» هي الإطار الجامع لدول المنطقة أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكامل عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية، تُرى لِمَ لا تحدث الآن وقفة مع النفس العربية عموماً، والإسلامية منها خصوصاً، للتساؤل عمَّ حدث ويحدث في المنطقة العربية وخارجها من أعمال عنف مسلّح تحت مظلّة دينية وشعارات إسلامية، ولِمَ هذا الانفصام في الشخصية العربية بين الإجماع على المصلحة الإسرائيلية في إثارة موضوع «الخطر الإسلامي» المقبل من الشرق كعدوٍّ جديد للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، وفي اضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، وبين الانقسام الحاصل في المجتمعات العربية بين رافض ومؤيّد وصامت تجاه ما يحدث من عنف مسلّح يقوم به أشخاص أو جماعات تحمل أسماء إسلامية، أيُّ منطقٍ عربي أو إسلامي يُفسّر الآن كيف أنّ هناك هدنة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتصاعد موجة العنف المسلّح في دول عربية وإسلامية، وهل هي بصدفةٍ سياسية أن يتزامن كل ذلك مع ارتفاع التعبئة الطائفية والمذهبية والعرقية في كلّ البلاد العربية؟!
ففي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد العربية، على مستوى الحكومات والمعارضات، وفي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أصبحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرّعة ليس فقط أمام التدخل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية التي تجعل المنطقة كلّها تسبح في الفلك الإسرائيلي.