صفحات مختارة

الأصل في مصادر العنف وتفشّي الداء في الأنظمة “التقدمية”

نسيم ضاهر
أسقط مصطفى كمال أتاتورك خلافة بني عثمان منهياً مرجعية دينية اعتاد العرب والأعاجم حضورها، ولو الشكلي، عبر ثلاثة عشر قرناً، من اندونيسيا وإقليم شين كيانغ الصيني مروراً بالقفقاز الى قلب أفريقيا وضفاف الأطلسي، مع جيب أوروبي بلقاني، تركة الفتوحات التركية واستيطان حامياتها في البوسنة والبانيا، بلاد البشناق والأرناؤوط. في الحقيقة، قلَّصت روسيا القيصرية رقعة نفوذ خليفة المسلمين بدءاً من منتصف القرن الثامن عشر، وسيطرت على طريق الحرير في آسيا الوسطى، قبل الإطاحة بخانات التتار، سند السلطنة، تشدّهم رابطة الدين. والمحصلة خضوع القوس الأسيوي وراء جبال الأورال للتاج الروسي في محاذاة التاج البريطاني القابض على جنوب آسيا لغاية الهند الصينية. سيكون لهذه المعطيات التاريخية مجتمعة أثر بالغ لاحقاً على بروز الحركات الإسلامية الجهادية واتصال دعوتها بمرحلتين متعاقبتين، تصفية الاستعمار (البريطاني /الفرنسي تحديداً بكافة أشكاله) أولاً، وتمزّق الاتحاد السوفياتي ثانياً على مشارف الألفية الثالثة.
من مصر التي افتقدت زعيمها سعد زغلول، خرج حسن البنّا بجمعية الاخوان المسلمين على هامش الحركة الدستورية الباحثة في مختصر السيادة بين القصر والانكليز وسط تأييد شعبي أضعفته المساومة والعثرات. قبل ذلك، ومن دار السلطنة العثمانية المتهاوية، طرح الأفغاني صيغة الجامعة الإسلامية علاجاً لاستعادة العافية، استلهم محمد عبده ورشيد رضا بعض مركّباته. زُرعت بذور استنهاض أمة المسلمين، فيما انشغل الجناح المدني المتمثل بنخب الحركات الوطنية في كيفية انتزاع استقلال كل بلد على حدة ضمن إطار كياني سياسي ذي هوية مصدره الشعب. كذلك رضخت أسرة القاجار، حاكمة بلاد فارس، لإصلاح محدود انتهى بمشروطية (دستور) أعطت طهران مجتهدي الشيعة حق الرقابة على الشأن العام عام 1906، بناءً على تقليد فقهي رافض للامساك بالسلطنة الزمنية في غياب المهدي.
بعد عقدين، عُزل آخر القاجاريين، لكن الجنرال رضا البهلوي القادم الى السلطة على أنقاض دولة قروسطية البنى سوف يتمثل بأتاتورك، ويسلخ عن رجال الدين صلاحية القضاء والتعليم. وقريباً من فارس التي غدت إيران، نادى أبو الأعلى المودودي، الهندي المنشأ والنسب، بانفصال المسلمين عن الهندوس، توطئة لوحدة الأمة على أساس ديني لا عرقي، لأن الأصل في الإنتماء الى دار الإسلام.
أخذت الدعوات الإحيائية تحاكي الذاكرة، مثالها عهد ذهبي مضى، في انتظار توافر شروط القيامة، المفقودة آنذاك. وحيث أخمدت الحرب العالمية الثانية الحراك الموضعي، فقد تلتها أحداث جسام ثلاثة بالتتابع وبفاصل سنوات، بدَّلت اللوحة العامة، وهزّت المشاعر من الأعماق. قامت باكستان بقيادة محمد علي جناح دولة على دين الإسلام، مكسورة الجناح في جامو وكشمير، وسقط معظم فلسطين بأيدي الصهاينة على مذهب اليهود، ثم انطلقت الثورة الجزائرية عام 1954 باسم من عرّفهم المستوطنون بالمسلمين لا بالجزائريين. مذذاك ربطت نزاعات عديدة تمحورت حول الهوية جرّاء مظالم الغرب الاستعماري، ثأرية الشحنة، سرعان ما ارتابت من الولايات المتحدة وناصبتها العِداء بوصفها قاطرة استعمار جديد، وأجازت انتهاز المدد والدعم من القطب الآخر، السوفياتي، على سبيل إباحة المحظورات للضرورات، واستثمار العداء المشترك للامبريالية. فقد نفر دعاة الصحوة الإسلامية بالسليقة من محمول الشيوعية المادية، المكروه شرعاً والملتصق بالأممية، وانفضت عنهم نسبياً وبخفر الحركة القومية العربية الصاعدة مع الناصرية، عمودها الفقري، والمتناسلة فروعاً بعثية وعروبية ممركسة مشتتات. ولئن حظيت الولايات المتحدة بادئاً بفترة سماح، رصيد أفكار ويلسون ومواقف روزفلت، انقلب الأمر حيالها، مع مشاريع جون فوستر دالس، ورفض البنك الدولي تمويل مشروع السدّ العالي بإيعاز من واشنطن. بدوره، كسب الاتحاد السوفياتي ودّ شعوب الشرق في مرحلة أولى، تميزت بعمق خصامهم مع امبراطورية لا تغيب الشمس عنها، وإيجابية أتاتورك ورضا شاه تجاه الثورة اللينينية البلشفية.
ومن منتصف الخمسينات، عمل السوفيات على إزالة رواسب الاعتراف بإسرائيل، بعد أن انتصروا للناصرية وحركة التحرر العربية، وأغدقوا المساعدات على الأنظمة التقدمية المناوئة للدولة العبرية وللأحلاف.
امتصت الحقبة الدستورية منسوب التطرّف الديني، كما استوعبت معانقة أوساط ناقمة على الإنكليز(والفرنسيين) للنازيّة عشية الحرب، والرهان على الماريشال رومل لدحر مونتغمري وأعوانه في أفريقيا الصحراوية. كانت حركة رشيد عالي الكيلاني ورفاقه الضباط في العراق أبرز مظاهر التمرّد، وتمّ إخمادها بالقوة، فيما رفض المفتي أمين الحسيني الكتاب الأبيض واستمرّ على مغازلة ألمانيا النازية رمزاً للإسلام الجهادي الرسمي بعد فشل ثورة 1936 ومقتل ركنها الشيخ عز الدين القسَّام.
بعيد حرب ضروس حطّت أوزارها عام 1945، ذبل التعاطف مع المهزومين، ولاحت بوادر الاغتيال السياسي كأسلوب بائس لجأ إليه الإخوان المسلمون، فاتحة توسّل العنف سبيلاً الى تغيير المعادلة القائمة، بينما انفجر الصراع المهووس في الهند، مخلّفاً عشرات آلاف القتلى، تبارى من خلاله غلاة المسلمين والهندوس تحت راية الدين. في الفضاء العربي، جاءت عناقيد الغضب مغايرة، إثر ضياع فلسطين على يد الهيئة العربية العليا بقيادة مفتي الديار، وفشل الجيوش العربية مجتمعة في إنقاذ الوطن السليب، إذ أنجبت السخط على المتخاذلين(والمتآمرين)، وهيأت لنمط قادر على غسل عار الهزيمة، قوامه منظومة تتكئ على الرافعة القومية وتطيح بأنظمة الهزيمة، وأداته من صلب المتطلعين إلى الوحدة ونبذ التبعية، حاملي الفكر الثوري التحرّري في خلايا حزبية وعسكرية سرّية تؤمن بالعروة الوثقى. وعلى وجه المقارنة، يمكن إيجاد رابط مسلكي بين هؤلاء القادمين إلى واجهة الأحداث وأولئك الذين انبروا من قبلهم، عسكريين ومدنيين، في منظمة العهد والجمعيات السرية، للدفاع عن الشرف العربي، وحلموا بدولة جامعة تعيد الأمجاد.
وعدّ بأحرف عربية ترك العباءة الدينية للمناسبات، وثأر نودي به، وقف عند عتبات إسرائيل من كل صوب. تدحرجت تيجان وهوت عروش ورئاسات على رجاء قفزة نوعية، وختمت عقدين هزيمة مدويّة جديدة غابت عنها دسائس السفارات، وحفظ ماء الوجه فيها الفيلق العربي المعاد تسميته جيشاً أردنياً موالياً للعاهل المستضعف. ثم تبدّلت الأحوال، وكفلت المقاومة الفلسطينية المراد الشعبي الى حين غياب عبد الناصر وجلائها عن الأردن غداة أيلول الأسود، تظنّ بالأنظمة التقدمية وترفع شعار الحرب الشغبية بديلاً. إلاّ أن جبهتي مصر وسوريا اشتعلتا عام 1973، خلافاً للمتوقع من القيادة المصرية المعقودة اللواء لأنور السادات، الرئيس المؤمن العامل على تصفية مواقع النفوذ ذوات الصبغة الناصرية، ومطارد اليسار.
ارتاح الإسلاميون المصريون من ثقل ميراث عبد الناصر، وخالوا أن طلب ودّهم قد بان، ليُفاجأ الجميع مجدداً بالحدود المرسومة لحرب التحريك في سيناء، وبولوج مصر الساداتية عصر الانفتاح، وتجاوبها مع صديق زعيمها، هنري كسينجر، الذي أسفرت رحلاته المكوكية عن هندسة تصالحية مع إسرائيل، آلت الى زيارة القدس من جانب الطرف المصري وخطاب شهير في الكنيست الإسرائيلي، تبعه اتفاق كامب دايفيد برعاية الرئيس الأميركي الجديد كارتر. هكذا غادرت مصر الصف والايديولوجيا، وعقدت صلحاً منفرداً، تبرَّأَت منه دول الجامعة العربية ونقلت أمانتها الى تونس، علَّها تعزل المتهاونين.
أضحى السادات فرعون مصر الحديث، تلاحقه لعنة القائلين بحرب الوجود والشرّ الإسرائيلي المطلق باسم الغيرة على الدين، ويعاديه جميع أهل التحدِّي والصمود على خطى الثنائي البعثي في كل من دمشق وبغداد. انتهى مفهوم دول الطوق ومفعول فكّي الكمّاشة المصرية-السورية، لا بخروج مصر من الساحة وحسب، بل أيضاً، باتفاق فصل القوات المعقود على جبهة الجولان، الذي لن يخرق البتة، ويستعاض عن التقاعس السوري بمناوشات جانبية تستهدف الجليل وإصبعه انطلاقاً من لبنان. ولم يجد اغتيال السادات المروّع من جماعة الجهاد الإسلامي في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، سوى أنه أذن بدورة عنف سوف تقود الملاحقين الى كنف بن لادن وارض أفغانستان، وتلجم طموحات الإخوان المسلمين في الانقضاض على السلطة، ما ساور إخوان سوريا ورماهم في مغامرة كلّفتهم مجزرة حماه. فعوض سواعد شباب التقوى، بانت أنياب الأسد وقضي الأمر شلاَّل دم تحت أنظار خالد بن الوليد.
على هذا النحو، اختصرت سوريا البعث بسوريا الأسد خلال عقد من الزمن، شهد صعود الغريم التكريتي اللدود صدّام حسين من سيادة النائب الى سيادة الرئيس، القائد الأوحد على ضفاف دجلة، ذي القبضة الحديدية والباع الطويل. طوال ربع قرن، اختلط فيه البناء بالتنكيل والحروب الصغرى والكبرى، كتب على العراق دفع أغلى الأثمان، وسجّلت كل مرحلة في عهدة الفارس تساقط النشامى من حوله، حتى أفرغ حزب البعث من رفاق الدرب، والتحقت كواكب المغضوب عليهم تباعاً بقوافل المعارضين والمعترضين، فلم توفر آلة القمع مكاناً لهم إلاّ تحت التراب، وغالباً ما حرمتهم الشواهد، لمزيد من التشييئي. هكذا بكى العراق شيوعيين وكورداً وشيعة ومُعمَّمين، كما ناح على بعثيّين أوفياء وقوميين عرب وعدد لا يحصى من البسطاء الصابرين.
خبرت الأنظمة التي أطلقت عليها صفة التقدمية عنفاً عضوياً فاق المرتكب لدى المحافظين. وكلما تستّر انقلابي بالإصلاح الجذري، انقلب على حقوق الإنسان في أبسط تعاريفها، وتولَّى مهمة إقصاء مساويه ومنافسيه المحتملين ضمن حلقة المشاركين في “الثورة”. اكتسب كفاح الجزائريين وسام الثورة الشعبية بامتياز، لكن القليل رشح عن التقاتل والتصفيات داخل جبهة التحرير الجزائرية، المجتمعة على استئصال معاوني ومهادني السلطات الفرنسية. الحال أن أمراء الوحدات ونظّار الولايات قسوا وحاكموا ميدانياً وأرعبوا المتلكئين من الالتحاق بصفوف الجبهة، وما تورّعوا عن إنزال العقاب الجماعي حين اقتضى الأمر. ولعلّ رهطاً من شهداء الثورة إنما سقط بنيران صديقة عمداً. فليس ما أوردته الرواية الرسمية بعد نيل الاستقلال بمطابق لمجريات الساحة خلال الكفاح المسلّح، عملاً بأساليب الحرب النفسية المضادة، والشك الذي أحاط بالمعتقلين والمستجوبين، خشية تسلل العملاء الى التشكيلات المقاتلة، واستثمار الفرنسيين التعذيب لانتزاع الاعترافات وإضعاف مناعة المجاهدين بغية استخدامهم كمخبرين. إن مفاد تلك الحقبة الصمت حيال العنف المنهجي، وتدارك إيقاظ الأحقاد الدفينة في جوف المجتمع الجزائري، لكن جنوح الجماعات الجهادية نحو الصدام الدموي إثر إحباط جبهة الخلاص الإسلامية بداية التسعينات أتى بالدليل على تأصّل نزعة العنف، واتصالها بموروث وممارسات لم تكن غريبة او تدنو في المطلق من ذي قبل.
على الرغم من مكانة أسرة السنُّوسي الدينية، ووقوفها على طريقة لها مريدون واعتبار، جرف القذافي ورفاقه الضباط حكمها وآثارها في الفاتح من سبتمبر عام 1969. انقلاب لَقَّنَ شعب ليبيا أنه ثورة، انتسب الى الموجة الناصرية، باحثاً عن تقليعة أوديبية وجدها في الجماهيرية والكتاب الأخضر، تحرَّرَ من كل قيد بعد وفاة عبد الناصر، وخصَّ العقيد الشاب بالولاية الشاملة على قاصر مدى الحياة. انتدب القذافي نفسه منارة للأمم، بدءاً بشعبه المدجَّن جرّاء تطهيره من أعداء الثورة المنافقين، فاستوى وحيداً على سُدّة الأمر والنهي، وباتَ لا يعرف لليبيا عنوان سواه، وحُرِّم مجرد ذكره من أوتهم السجون والمنافي، ومن غاب غيلة عن لوحة الأحياء. ودفن حياً في الصحراء. يتعذَّر إيجاد مثيل لقائد الجماهيرية (وملك ملوك أفريقيا مُؤخّراً) عبر التاريخ والجغرافيا، ويستحيل قياس أفعاله بمكاييل العصر، حيث نجمت عن حسابات نرجسيّة جامحة تؤول إلى إصدار الحكم الخفيّ بالإعدام نزوة تضاف إلى سابقات. يزيد الأمر إيلاماً، أن غالب الأسرة الدولية لا يتوانى عن طلب رضاه لقاء امتياز نفطي أو استثمار مالي، فهو صاحب ليبيا وسيِّد المكرمات، ما لم توفره موارد اليمن السعيد لقادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية إبّان الانفصال.
أعلن الحزب الاشتراكي اليمني انتقاله إلى الماركسية اللينينية بأجنحته المؤتلفة القادمة من حركة القوميين العرب والمجموعات اليسارية، وهدم، في لحظة، البيت المشترك على ساكنيه، ليعود إلى قبلية ثأريّة دمّرت الوعي المكتسب، وبيَّنت ان الاشتراكية العلمية قشرة طفت على سطح البناء السياسي. اقتتل الرفاق اليمنيون بضراوة، أين منها صراع الأخوة، وعالجوا الخلاف السياسي بالمدفعية، تدكّ المؤسسات، وتساند الجموع القبلية المسلحة المنحازة غريزياً الى هذا الفريق أو ذاك. بذلك طويت صفحة مجنونة امتزجت فيها البداوة والطليعية على الطراز السوفياتي، كان للأولى بصمات على منطق التحالفات ومسار الأحداث، وللثانية أدوات نظرية مقرونة بشبق السلطة وامتلاك السلاح الحديث.
وفي المحصلة، ركام ودماء سالت في المهاجع وعلى الطرقات، كأنما استعجال التاريخ عود على بدء، واقتباس من ستالينية داهمت بيئة اجتماعية متخلِّفة، قابلة لحسم النزاعات الفوقية بالاحتكام الى التصفيات المتبادلة وامتشاق السلاح.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى