التفرج والانتظار عنوان «الرؤية» العربية لبغداد والمستقبل
كامران قره داغي
على رغم كل الاشكالات فإن الانتخابات المقبلة في العراق ستُجرى حتماً سواء في موعدها المفترض في 19 كانون الثاني (يناير) 2009، أو بعد هذا التاريخ بأسابيع. الأمر الذي لا يُجادل فيه هو ان الحملة الانتخابية تزداد سخونة مع أنها لم تبدأ رسمياً بعد. فالإصابات بحمى الانتخابات تتجاوز العراقيين الى دول مجاورة والى ما وراء المحيطات والبحار كي تصل الى الولايات المتحدة التي لا يكف المسؤولون المعنيون فيها بالشأن العراقي عن توجيه التحذيرات بضرورة إجرائها في الوقت المحدد تجنباً لما لا تُحمد عقباه، خصوصاً بعد فرحة لم تدم للادارة الاميركية الحالية إثر مصادقة مجلس النواب العراقي على قانون الانتخابات قبل ان ينقضه نائب الرئيس طارق الهاشمي.
في هذا الصدد صرَّح قبل فترة النائب سامي العسكري، وهو ايضاً قيادي بارز في حزب الدعوة الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي، بأن دول الجوار تضخ الاموال في وسائل الإعلام كوسيلة للتأثير في نتائج الانتخابات، موضحاً أن الهدف هو محاولة لإضعاف الهيمنة الشيعية على السلطة، وهو أمر استبعده العسكري «أقله للدورتين (البرلمانيتين) المقبلتين».
تأكيد العسكري هو تحصيل حاصل لا أكثر. ومع أن إيران هي الدولة الأكثر تأثيراً في الشأن العراقي، فإنه لم يذكرها مكتفياً بتسمية اثنتين فقط من دول الجوار، احداهما تركيا. وكانت اميركا بعد اطاحة النظام الشمولي في العراق اصبحت اللاعب الرئيس هناك كونها الدولة التي قادت القوات الدولية وصار وجودها فيه مشروعاً عبر قرار لمجلس الأمن اعتبر الولايات المتحدة قوة احتلال.
أميركا إذ طمحت في البداية بتحويل العراق الى «مشعل» تنطلق منه الديموقراطية الى العالم العربي، فإن الواقع على الأرض سرعان ما أدَّى الى جعل طموحها أكثر تواضعاً، خصوصاً في ظل ادارة الرئيس باراك اوباما الذي يستعجل الانسحاب من العراق آملا بأن تترك قواته وراءها عراقاً يحافظ نظامه على علاقات ودية مع الولايات المتحدة ويمنع إيران من ان تكون اللاعب الرئيس الوحيد في العراق يلعب فيه، او به، على هواه.
قطعاً تتصارع مصلحتان اقليميتان في العراق او عليه: إيران والنظام العربي التقليدي، وفي الآونة الأخيرة دخلت تركيا على الخط. الأول قوي يمتلك رؤية واضحة لما يريد وهو وضع لتحقيقها استراتيجية مدروسة بعناية. اما الثاني فهو ضعيف غير متماسك ولا يملك حتى تصوراً واضحاً لما يريد، دون اي استراتيجية. الأول حسم موقفه منذ البداية فدعم كل التغييرات التي حصلت منذ إطاحة صدام حسين. فهو كان دعم المعارضة العراقية قبل صدام وأيَّدها أيضاً بعدما اصبحت البديل منه في شكل مجلس الحكم واعترف به على رغم ان «الشيطان الاكبر» هو الذي أطاح صدام وبارك تشكيل المجلس. كذلك لم تتردد طهران في دعم كل التطورات اللاحقة والاعتراف بالمؤسسات المنبثقة منها: مجلس الرئاسة والانتخابات والاستفتاء على الدستور والحكومة الاولى برئاسة اياد علاوي والثانية برئاسة ابراهيم الجعفري والثالثة الحالية برئاسة المالكي. كذلك أقامت طهران علاقات مع كل اطراف العملية السياسية، عربية شيعية وسنية وكردية وتركمانية.
بعبارة اخرى لم تكتف أيران بأن تتفرج على ما يجري في العراق بل كانت ولا تزال طبعاً، بفضل سياستها هذه، لاعباً فاعلاً على الارض، سياسياً واقتصادياً وتجارياً واستخباراتياً، وحتى اجتماعياً بسبب الاعتبارات االمذهبية المعروفة، من دون ان تستطيع القوة الاميركية، او اي قوة خارجية اخرى، ان تفعل شيئاً لمنعها.
في المقابل كيف تصرف النظام العربي؟ مارس لعبة التفرج والانتظار متوهماً ان النظام الراهن سينهار فيعود العراق، عاجلاً ام آجلا، الى الأمر الواقع السابق كما كان منذ تأسيسه قبل ثمانية عقود. اطراف الحكم في العراق الجديد، في مقدمها طبعاً الطرفان الشيعي والكردي، سعيا منذ البداية الى اقناع دول الجوار العربية بأنها عبثاً تنتظر «غودو» وأنها ستضطر الى التعامل مع الجهات والشخصيات السياسية ذاتها التي تشكل منها مجلس الحكم، ربما مع تغيير مواقعها وقوتها في التوازنات القائمة. هكذا كان وهكذا سيبقى حتى بعد الانتخابات المقبلة.
لكن بدلا من ذلك تمسكت هذه الدول بأوهامها متجنبة اعترافاً صريحاً بالوضع الراهن مفضلة سياسة الانتظار: الانتظار بعد رحيل الحاكم المدني بول بريمر بأمل أن يؤدي ذلك الى تغيُّر الوضع نحو «الأحسن». الانتظار لعل انهيار الوضع الأمني الذي بدأ في 2004 يؤدي الى انهيار النظام الجديد. الانتظار عسى ان تسفر الانتخابات الاولى في نهاية 2004 عن وضع مختلف، ثم الانتظار مجدداً لنتائج الاستفتاء على الدستور والانتخابات الجديدة في 2005. الانتظار بعد تحسن الوضع الأمني إثر التصدي لجيش المهدي في 2007. الانتظار عسى ان يفشل العراق في توقيع الاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة في 2008. وما زالت لعبة الانتظار قائمة فيما يستعد العراقيون للانتخابات المقبلة. وقد تستمر اللعبة بعد الانتخابات ايضاً انتظاراً لقرار واشنطن: هل ستسحب قواتها من العراق آجلاً في 2011 بموجب الاتفاق الأمني ام عاجلاً في 2010 بموجب قرار يمكن ان يتخذه الرئيس الاميركي.
في غضون ذلك يحذرنا المحذرون، فيما هم يواصلون لعبة التفرج، من أن إيران تسعى الى تحقيق استراتيجيتها الرامية الى جعل العراق جزءاً من محور يضم البلدين اضافة الى سورية وقوى في المنطقة مثل حزب الله. وهي ستصل الى هدفها بعدما بات العراق «في جيبها» معولة على حليفين فيه: الطرف الاقوى، الشيعي، باعتباره حليفاً مذهبياً، والكردي باعتباره حليفاً عرقياً (آرياً)، او لأنه في نهاية المطاف سيجد نفسه مضطراً الى الانضمام الى هذا الحلف بعد ان يجد نفسه بين فكي الكماشة الإيرانية – الشيعية.
ماذا عن اللاعب الثالث، تركيا، وبم تختلف رؤيتها لمستقبل العراق عن الرؤية الإيرانية و «رؤية» الانتظار العربي؟ موضوع شيق يستحق أن يكون محوراً لتناول مستقل
الحياة