عاش الشعب العربي عاش
ميشيل كيلو
كان الشعب العربي أكثر تضامناً وتسامحاً في الماضي منه اليوم، فكأن تضامنه تناقص بمرور الوقت، حتى وصل إلى الوضع الذي عشناه خلال شهر عاصف من إثارة البغضاء وتحريض المواطنين العرب بعضهم ضد بعض، عبر مختلف القنوات المتاحة في المجتمعين، ومباشرة من خلال السلطة ورموزها، الذين اعتبروا مباراة كرة قدم بين الجزائر ومصر معركة مصيرية، تختبر فيها جدارة ووطنية الشعبين المصري والجزائري، فلا تهاون أو تراجع فيها، ولا بد من تعبئة طاقات الشعبين وزجها في معركة يدفعها إلى أقصى درجات الحدة والشدة الشحن اللحظي المتبادل، الذي يتم بكثافة، ويستخدم لغة ذات منطويات عدوانية لم يسبق لأي صراع مصير ووجود خاضه العرب أن عرف مثيلا له في حاضرنا كله.
هكذا، قلبنا صفحة من تاريخنا كنا نظن خلالها أن شعوبنا بعيدة عن خلافات حكامها وتناقضات نظمها، وأنها لا تستجيب لتحريض هؤلاء، فإن استجابت، كانت استجابتها جزئية وعابرة، إلى أن كانت حرب كرة القدم بين البلدين العربيين الحدث الأكثر أهمية وتأثيراً في علاقات مصر والجزائر، البلدين اللذين عرفا في الماضي علاقات فوق أخوية، جعلت استقلال أحدهما: الجزائر، ممكناً بفضل مساعدات وأسلحة ودعم مصر عبدالناصر، التي عاد عليها موقفها الجزائري بحرب ضروس شنتها فرنسا ضدها بالتعاون مع “إسرائيل” وبريطانيا عام ،1956 عرفت بحرب السويس. من جانبهم، اعترف قادة الثورة الجزائرية، على اختلاف مللهم ونحلهم وأسمائهم وتياراتهم وارتباطاتهم، بفضل مصر على الثورة الجزائرية، وقالوا إن لها دينا في أعناق بنات وأبناء بلد المليون شهيد (هكذا كان اسم الجزائر آنذاك) سيسددونه حتما، وبالفعل قاتل الجزائريون في معركتي 1967 و1973 مع مصر، واعتبر بو مدين، رئيس الجزائر يومئذ، نفسه عضوا في الجهاز الحكومي المصري وفي جيش مصر، فقام بزيارات إلى الاتحاد السوفييتي لشراء أسلحة لمصر على نفقة بلاده، وخاض معارك كلامية مع قادة الدول العظمى وصلت إلى حد الصراخ والضرب بالأيدي على الطاولات. لكن الأيام، والسياسات الرشيدة، جعلت الشعبين ينسيان هذا، ويخوضان مباراة كرة قدم عادية وكأنها حرب لا يجوز لأحد منهما خسارتها، يجب التضحية بالغالي والرخيص من أجل الفوز فيها، خاصة بعد أن تعادل الفريقان في معركة القاهرة بالأهداف، وتقرر نشوب معركة الخرطوم بينهما، وأعلن الرئيس الجزائري، معاون بومدين ذات يوم وأحد من جاؤوا إلى مصر مراراً وتكراراً خلال حرب تحرير الجزائر، استنفار طائرات النقل في سلاح الجو الجزائري وتكليفها بنقل مشجعي فريق بلاده إلى الخرطوم، وشملت التعبئة جزائريي فرنسا، الذين يعيش قسم كبير منهم في حالة من التشرد والملاحقة البوليسية، وانتقل عشرة آلاف منهم إلى السودان، على نفقة الحكومة الجزائرية كما قيل، بينما تبادلت الخارجيتان المصرية والجزائرية مذكرات الاحتجاج، واتهمت كل واحدة منهما الأخرى بالعدوان على مواطنيها وبالتعبئة ضدهم. ولو كان هناك حدود مشتركة بين البلدين، لكانت التعبئة المتبادلة قد أدت إلى استنفار الجيوش وزجها في معركة تحسم بالنار عار التعادل في كرة القدم، التي تحولت خلال شهر واحد فقط إلى دليل وحيد يثبت وجود كرامة وشرف لدى أغلبية مواطني البلدين المتصارعين.
ما الذي حدث وكشف الحقيقة المفزعة، حقيقة انتفاء وجود أية فكرة جامعة يمكن أن تربط بين الشعبين العربيين، الموصوفين ب”الشقيقين”، وحقيقة خلو رؤوس مواطنيهما من أية قدرة على الفهم والمحاكمة المنطقية والتعالي على السخافات، وحقيقة امتلاء قلوبهم بقدر من الغل والحقد، الجاهز للتفجر أو للتفجير في أية لحظة، يستطيع أي أفّاق استغلاله بالطريقة التي يريدها، حتى لم يعد هناك من أو ما يستطيع كبحه أو تسكين غلوائه والحد منها، وأخيراً حقيقة أن الشعب العربي صار أشد سوءاً وتطرفاً وتعصباً من حكوماته، مع أنها أسوأ حكومات الدنيا قاطبة.
إذا كانت سنوات دعم استقلال ونضال الجزائر، ودعم كفاح مصر ضد العدوان “الإسرائيلي”، قد خلفت كل هذا الاستعداد للعداء، وكل هذا الحقد عند الشعبين، فماذا يمكن أن تخلف مباراة كرة قدم تحولت إلى حرب نشبت بينهما دون سابق إنذار، وأظهرت لنا، نحن مثقفي هذه الأمة المؤمنين بحقها في الحرية والوحدة، هشاشة إيماننا وغربة أفكارنا عن واقع أيامنا؟ ترى، هل لقول الجزائري والمصري أنهما ينتميان إلى أمة واحدة ومصير واحد أي معنى بعد ما حدث؟ وماذا يمكن أن يقول جزائري لمصري وبالعكس إن هما التقيا، هل سيكتفي كل منهما بشتيمة الآخر أم سيبادر إلى استلال سكين وطعنه حتى الموت، من دون أن يتبادل معه كلمة واحدة؟ إن مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر هي بداية مرحلة كاشفة في تاريخ العرب الراهن، تبين كم صارت سحيقة الهوة التي انحدرت إليها علاقات الشعوب العربية بعضها مع بعض، بعد الهوة السحيقة التي بلغتها علاقات النظم العربية خلال السنوات الأربعين المنصرمة. كنا نضع آمالنا على الشعوب ونوهم أنفسنا أنها ضد ما فعلته السلطة في بلادها، فإذا بنا نرى بأم أعيننا أدلة تؤكد أن الشعوب لا تقل سوءا عن، السلطة في بلادها وأن الانهيار العربي عام وشامل لا يستثني أحدا: أكان فوق أم تحت: من أهل الحكم الفاسدين، أم من الرعاع البائسين والعدوانيين، الذين يسدون بجهلهم وتعصبهم وقلة عقولهم الدروب إلى المستقبل، في المدى القريب والمنظور.
زار الشاعر شاتوبريان ذات يوم الشرق. سألوه بعد عودته إلى فرنسا عن مشاهداته، فقال: “رأيت قطعانا من البشر يقودها كالأغنام إمام ويذبحها جلاد”. كذب الشاعر الموتور: لو كان الأئمة يقودون قطعان الناس، لكانت نداءاتهم أثرت فيهم وأيقظت ضمائرهم، ولامتنعوا عن التصرفات المشينة التي مارسها بعضهم ضد بعض. إنها قطعان بينت حرب كرة القدم أن أحداً لم يعد يمون عليها، وأنها تسلم أعناقها للجلاد، فيقتلها بيده تارة، ويدفعها تارة أخرى إلى الموت بأيديها وأيدي أمثالها من جهلة ومحرومين، يجهلون كيف يدافعون عن حرياتهم ومصالحهم، ويسعدهم الانخراط حتى الموت في معركة كرة قدم، ليست في حقيقتها غير تعويض معيب عن هزائم متعاقبة أنزلها بآبائهم وأمثالهم العدو “الإسرائيلي”، الذي أعلن على لسان رئيس وزرائه سعادة “إسرائيل” بالاختبار العصيب، الذي تمر فيه علاقات الشعبين والحكومتين الجزائرية والمصرية، والذي يكشف على حد قوله حقيقة علاقات شعوب وحكومات العرب في هذا الزمن. ترى، أين يمكن أن تجد “إسرائيل” عدوا أفضل لها منا؟
الخليج