صفحات العالم

عـروبـتــان

سليمان تقي الدين
لن يتوقف المسار الانحداري للأوضاع العربية في المدى المنظور. عبثاً نفكر بمبادرات أو بخطط لتفادي حروب الإخوة والصراعات الأهلية. الفوضى الكيانية العربية ستأخذ مداها لأن الخلل عميق في المنظومة السياسية العربية بين الدول وداخل المجتمعات القطرية. الشرعيات القومية والوطنية إلى انحسار ومحرضات الفعل السياسي تفكيكية بطبيعتها، والنخب العربية في استقالة كاملة من مواجهة التحديات.
الهياكل السياسية العربية الرسمية والشعبية خاوية وعاجزة عن مقاومة عاصفة الهجوم الأميركي والغربي والإسرائيلي لتشكيل نظام إقليمي خاضع وتابع، وعن معالجة مشكلات حقيقية تأتي من دول الجوار وطموحاتها واستخدامها للتناقضات العربية من أجل النفاذ إلى دور أو نفوذ أقوى على أرض العرب وبالقضايا العربية.
العلاقات العربية العربية أزالت الحدود عملياً لأن المشكلات الداخلية في هذه الدولة أو تلك تؤثر حكماً على جارتها. طبيعة النزاعات الطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية، وطبيعة السلطات القائمة على حلقات ضيقة من المصالح تؤثر في كل المناخ العربي كما تستدرج المداخلات من محيطه. تجربة «اللبننة» في الحرب الأهلية تتسع في العراق وفلسطين واليمن والسودان وتكاد تصبح النموذج لمجتمعات لا تقوم الدولة فيها بمهمة الدمج الوطني السلمي، بل تقوم على السيطرة والتسلط والقمع وإلغاء المشاركة واحتكار الامتيازات وتعطيل التنمية الشاملة.
السلطات القائمة في العالم العربي أضاعت الوجهة منذ زمن بعيد. الحفاظ على السلطة وتجديدها حكم للسياسات في الداخل والخارج. تعزيز الثقافة القطرية بكل أشكالها المتخلفة واستخدام كل الوسائل البدائية والموروثات والتناقضات بين الجماعات هو الذي سيطر على الإدارة السياسية. التعاون العربي اتجه إلى بناء شبكات أمان سياسية وأمنية وتحالفات تدعم هذا النظام أو ذاك.
اعتاد العرب أن يخوضوا حروباً على حدودهم ويدعموا حركات وجهات داخل الدول الشقيقة من دون تردد دفاعاً عن أمنهم السياسي المشترك أو منظومة السلطات التي تكونت في ظل الهيمنة الأميركية التي أعقبت الانقلابات على حركة التحرر العربية، بدءاً من القاطرة المصرية. في واقع الأمر تغيّر مضمون العروبة من عروبة تحررية تقدمية إلى عروبة محافظة، ومن عروبة نازعة إلى وحدة شعوبها إلى عروبة مرتكزها تضامن الأنظمة والدفاع عن امتيازاتها ومكتسباتها وانحرافاتها عن مصالح شعوبها.
تنغمس الدول العربية في نزاعات لبنان وفلسطين والعراق واليمن والسودان وغيرها لكن من أجل استتباع المعطيات السياسية في هذه الدول تحت سقف النظام الرسمي العربي المسلس قياده لأميركا. ينفق العرب على الأمن والسلاح والحروب والمداخلات السياسية ما يمكن أن يؤسس لتنمية ولعلاقات بينية اقتصادية تعالج الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وترتقي بالبنية العلمية والتكنولوجية والثقافية العربية. لكن هاجس السلطة هو الوحيد المسيطر حيث الاستئثار والعجز عن تحقيق مكتسبات جدية للشعوب. يستنتج كثيرون من المأزق العربي الراهن سقوط العروبة ويعلنون إفلاس المشروع العربي لأن حروب الأخوة وتناقضات الدول تسيطر على المسرح. هذه الصورة البائسة تؤكد عكس ذلك. خروج الأنظمة على العروبة أقوى مما نتصور، ودفاعها عن نظامها الإقليمي المفكك أشرس مما نتوقع. وتشابك وتكامل المشكلات العربية أعمق مما نتخيّل. ثمة حاجة إذاً لتجديد العروبة من خارج الهياكل السياسية القائمة، لأن انحسار العروبة التحررية التقدمية هو الذي استولد مشكلات التصدعات في العلاقات بين الدول وداخلها. أزمة العروبة النظامية أنها صارت في أيدي فئات اجتماعية وسياسية منخرطة في شبكة العلاقات الإمبريالية وشريكة في المصالح الهادفة إلى تعزيز التبعية على حساب الكرامة العربية والحقوق الوطنية ومعاني السيادة والاستقلال وقيم التقدم وطموحات الشعوب إلى بناء غدٍ أفضل واستقرار اجتماعي ورفاه. ثمة حاجة اليوم إلى تجديد العروبة بثقافة القوى المؤمنة بحقوق الإنسان العربي وحريته وبقدرته على اكتساب وسائل التقدم، عروبة تعيد إنتاجها النخب المرتبطة بهموم شعوبها الملتزمة بالقيم الإنسانية الأساسية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى