ما يحدث في لبنان

معارك لبنان في ضوء الصّراع على الهيمنة الإقليمية

null

دبي – راغدة درغام الحياة – 16/05/08

انقلاب «حزب الله» في لبنان هو حلقة من حلقات نظام اقليمي جديد في منطقة الشرق الأوسط تفرضه الجمهورية الإسلامية في إيران بلغة السلاح الموجه إلى الداخل لضمان الهيمنة المحلية. طروحات وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الداعية إلى تقديم الدول الكبرى عروضاً ملموسة على طاولة المفاوضات مع ايران حول الشأن النووي وإلى «تقديم ضمانات أمنية لإيران وتأمين مكان اكثر تميزاً في المفاوضات بشأن الوضع في الشرق الأوسط»، طروحات تشكل حلقة أخرى اساسية في صوغ النظام الاقليمي الجديد للمنطقة.

الوساطة العربية، بقيادة قطر، لمعالجة التطورات اللبنانية الناتجة عن استخدام «حزب الله» سلاحه ضد اللبنانيين الأسبوع الماضي، تذكّر بالوساطة القطرية لرئيس الوزراء الشيخ حمد بن جاسم في أعقاب حرب تموز (يوليو) قبل سنتين، حين قام «حزب الله» بالجولة الأولى من المعارك المدروسة في استراتيجية فرض نظام اقليمي جديد.

صمت إسرائيل على تحويل لبنان شبه قاعدة إيرانية عبر سلاح «حزب الله» مثير للريبة وله دلالات عميقة، تشير إلى سياسة مدروسة لاستمرار العلاقة الاستراتيجية التهادنية بين إيران وإسرائيل. وهذه التهادنية، بحسب فكر النظام الاقليمي الجديد، تتطلب صوغ علاقة ذات نوعية مختلفة بين الولايات المتحدة والدول العربية ذات الوزن الكبير تقليدياً – الأمر الذي يفرض أسئلة جذرية أبرزها: ما هي آفاق الصفقة، أو المواجهة، للنظام الاقليمي الجديد؟ وهل بدأت حقاً صوغ التفاهمات الكبرى مع إيران، أم أن هذه مجرد صفحة في فصل آخر من مجلد محاولات فاشلة للتفرد بفرض نظام اقليمي جديد؟

هناك مدرستان فكريتان، على الأقل، عند تحليل أحداث لبنان التي اندلعت الأسبوع الماضي باستيلاء «حزب الله» على مطار بيروت، ثم بتطويقه بيروت، واقتحامه جبل لبنان، ومحاولاته استدراج اللبنانيين إلى حرب طائفية باسم الدفاع عن سلاح «المقاومة» وبهدف اسقاط الحكومة اللبنانية.

مدرسة تقول إن «حزب الله» خاسر مهما انتصر، لأنه فضح نفسه باستخدامه سلاحه ضد الداخل اللبناني، ولأن نموذج العيش الذي يستورده إلى لبنان من إيران نموذج فاشل. وذلك لأن اللبنانيين ليسوا أرضاً خصبة لا لحكم الملالي والعنجهية الإيرانية ولا للأنماط التي تميز الإيرانيين تقليدياً، وبالذات أولئك الذين في السلطة اليوم. وبالتالي، حتى وإن كان لبنان حلقة من استراتيجية دولية أو اقليمية، أميركية أو إيرانية أو إسرائيلية، لن يدوم نصر «حزب الله» لأنه حزب مرفوض لبنانياً على المدى البعيد بسبب التناقض الاساسي لفكره وعقيدته مع الفرد والبيئة اللبنانيين.

المدرسة الأخرى تقول إن استمرار «حزب الله» بامتلاك سلاحه وتحييد ذلك السلاح بفوقية عن الحوار وعن صيغة الحكم الجديد الذي يريد فرضه على لبنان، هو بحد ذاته انتصار فوق العادة. فالمعادلة بسيطة وهي أن الميليشيات انتصرت على الدولة، أقله في هذه المعركة بالذات. هذا محلياً، أما اقليمياً ودولياً، فقد استطاع «حزب الله» أن يسجل فوزاً بامتياز لحلف التطرف الذي يضمه مع إيران وسورية، وأن يضرب بعرض الحائط قرارات دولية لمجلس الأمن، مراهناً على وهن الإدارة الأميركية وضعفها في شهورها الأخيرة المعروفة بـ «البطة العرجاء».

هناك اليوم صوغ لاستراتيجية دفاعية جديدة أفرزها سلاح «حزب الله» الذي جاءه عبر سورية من إيران. أساس هذه الاستراتيجية ذو شقين: احدهما يدخل في صوغ سيناريو التفاهمات مع إسرائيل، والآخر يدخل في خانة التحصّن والاستعداد للمقايضات من أجل تفاهمات، الأمر الذي يتطلب تصعيداً هنا وهناك لتعزيز الأوراق. أما استخدام سلاح «حزب الله» في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، فإنه أمر مستبعد طالما لم تُتخذ قرارات الحروب الجديدة في دمشق وطهران.

اليوم، إن ما يُطرح بصدد سلاح «حزب الله» هو بمثابة «دخول» إيراني إلى لبنان من دون جيوش كثيفة، عكس ما فعلت سورية عندما أدخلت جيوشها إلى لبنان بهدف «حمايته» من نفسه وحوّلت القوة العربية التي جاءت تحت شعارها إلى احتلال وهيمنة سورية للبنان.

إيران اليوم هي شبه الحدود للبنان بفضل سلاح «حزب الله» في عقر الدار اللبناني وإمداداته الدائمة من إيران. سورية هي حلقة الوصل المهمة بين إيران وسلاح «حزب الله»، لكن القرار الاستراتيجي تقوده القيادة الإيرانية وتركب عربته القيادة السورية. وإيران تتخذ قرارات استراتيجية لبناء نظام اقليمي جديد.

قد تتطلب هذه الاستراتيجية تخلي «حزب الله» عن سلاحه كتنظيم أو كميليشيا، لينخرط سلاحه في الدولة اللبنانية، وليخرج السيد حسن نصرالله، الأمين العام لـ «حزب الله»، بصيغة لانقاذ ماء الوجه. هذه الاستراتيجية، اذا وقع الخيار عليها، تتطلب بالضرورة انتصار رؤية إيران -»حزب الله» – سورية لنموذج الدولة اللبنانية بحسب تعريف هذا الثلاثي. بكلام آخر، ان ذلك يأتي بعدما يتم تكبيل جميع الضمانات بأن تكون الدولة اللبنانية ملكاً لهذا الثلاثي.

هناك نظرية تقول إنه يجب الرضوخ لمثل هذا الواقع الجديد النتائج عن الخلل الجذري في موازين القوى الداخلية والخارجية في لبنان، العسكرية منها وكذلك السياسية. الرضوخ بمعنى الاعتراف بالأمر الواقع اليوم وليس الاذعان له. أي أن الواقع السياسي والعسكري في لبنان يحوّل الأكثرية الشعبية أو الأكثرية الموالية للحكومة في البرلمان، والحكومة ذاتها التي يرأسها فؤاد السنيورة، إلى صفة جديدة. ففي أعقاب انتصار ما يُسمى اليوم بـ «المعارضة» واستيلائها على السلطة وانخراط ميليشياتها في الجيش، يمكن لأكثرية اليوم أن تتحول إلى معارضة، وأن تعمل باستراتيجية وصبر من أجل العودة إلى السلطة.

هذه سنّة الديموقراطية، بحسب اصحاب هذه النظرية. و «الجميل» فيها قد يكون افراز انخراط سلاح «حزب الله» وقواته في الجيش اللبناني، الأمر الذي يكون عملياً عبارة عن تجريد «حزب الله» لنفسه من السلاح.

في طيات هذه النظرية وجهة نظر ملفتة. ولكن ما ترمي إليه استراتيجية ثلاثي ايران – سورية – «حزب الله»، هو عملياً تحويل الجيش اللبناني إلى ملحق لميليشيات «حزب الله». هذا ما أرادته القوى الثلاث عندما قام «حزب الله» بانقلابه العسكري الأسبوع الماضي.

يوجد سيناريو آخر لشرح ماذا كان وراء التصعيد في لبنان عبر انقلاب «حزب الله»، بالذات في طهران. مسؤول عربي رفيع المستوى مطلع تقليدياً على التفكير في واشنطن وطهران، قال إن الاحتمال الأقوى وراء الأحداث هو أن إيران تخشى عمليات عسكرية جوية للولايات المتحدة ضدها هذا الصيف، ولذلك استبقت التطورات بتحريك «حزب الله» بهذه الحدة.

فشبكة الاتصالات التي تعزز البنية التحتية لـ «حزب الله» داخل الدولة اللبنانية تشكل عنصراً أساسياً من الامتداد الإيراني داخل لبنان، ولذلك كان ممنوعاً التعرض لها منعاً باتاً. سيطرة «حزب الله» على المطار أيضاً مسألة أساسية في استراتيجيات المواجهة، إذا كان من ضرورة لها، بحسب التفكير الايراني. المواجهة، بمعنى المواجهة الأميركية – الإيرانية بضربات جوية لمواقع داخل ايران والرد عليها باجراءات تصعيد في لبنان تعزز الأوراق الإيرانية الاقليمية.

أصحاب نظرية المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، بسبب الملف النووي أساساً، ثم نتيجة التحديات الإيرانية في العراق ولبنان وفلسطين، يقولون إن الآتي على المنطقة أسوأ فأسوأ. وان الأميركيين محبطون ازاء نمو النفوذ الإيراني، وان الدول العربية المعارضة لهذا النمو في النفوذ مرعوبة من انتصار نفوذ إيران في لبنان وعمق توغلها فيه، وان كلاً من الإدارة الأميركية والدول العربية ينتظر الآخر للقيام بالخطوة الأولى.

ما يكاد يتفق عليه الجميع، في تحليلاتهم ومعلوماتهم، هو أن الرئيس جورج دبليو بوش لن يغزو ايران، ولن يقوم بإنزال القوات البحرية (المارينز) على شواطئ لبنان، ولن يقصف حلقة الوصل الأساسية، أي سورية. ما يختلف عليه المراقبون هو ما إذا كان بوش سيقف متفرجاً على كل هذه التحديات، لأنه بطة عرجاء، أو أنه ينتظر استكمال زيارته إلى المنطقة ثم يصدر، من واشنطن، قرارات مفاجئة.

فالتصعيد المرتقب والذي سيتمثل في اجراءات ترعاها إيران في العراق ولبنان وفلسطين قد يرتد عليها. هذا إذا سقطت رهانات التفاهمات الكبرى التي يبدو أن روسيا تريد أن تكون في طليعة الداعين إليها لتضمن مكانتها ومصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط ولا تُفاجأ بصفقات على حسابها.

فالروس يستذكرون «عباقرة» المحافظين الجدد أصحاب نظرية «الاستبقائية» من أجل ضمان التفوّق الأميركي الذي لا مثيل له من خلال الربط بين النفط وإسرائيل عبر حزام شيعي في منطقة الخليج أو الشرق الأوسط تتصدر قيادته إيران. هؤلاء أرادوا استفراد الولايات المتحدة وعثروا على الفكرة البائسة القائمة على انشاء علاقة استراتيجية بين القوميتين الفارسية واليهودية لاحتواء العرب وتقزيمهم.

الروس ليسوا راغبين في خوض معركة من أجل الكرامة العربية أو ما يشبه ذلك. إنهم يريدون أن يكونوا جزءاً من الصفقة الكبرى، لا سيما أنهم استثمروا كثيراً في السنوات القليلة الماضية وفي أعقاب حرب العراق بالذات. استثمروا في العلاقة الاستراتيجية مع إيران وسورية، وفي بالهم مقومات بناء النظام الاقليمي الجديد على اساس التهادنية مع إسرائيل.

إذا كانت التفاهمات الكبرى والصفقة العظمى ستؤديان إلى سلام مع اسرائيل يحوّل هذه المنطقة إلى الاهتمام بالنمو الإنساني والمعرفة والتطوير واحترام الآخر وخياراته، أهلاً بهما. ولتعتمر طهران قبعة القيادة الاقليمية إذا كانت ستخلع عن نفسها نموذج حكم الملالي. لكنها لن تفعل.

فالقيادة الإيرانية، منذ ثورة آية الله الخميني قبل حوالي ثلاثين سنة، تريد تصدير نموذجها والتسلّط على فكر المنطقة بايديولوجيتها المتطرفة. إنها نقيض حماية منطقة الشرق الأوسط من الحروب مهما تحالفت صمتاً مع إسرائيل لأسباب تدخل في صلب طموحات همينتها وفرضها نظاماً اقليمياً جديداً.

فمعركة لبنان معركة واحدة في الحرب الكبرى على فكر وخيارات منطقة الشرق الأوسط. الأميركيون، شعباً وإعلاماً، في سبات عميق وهم يتسلون بظاهر وقشور الانتخابات الرئاسية. الإسرائيليون، حكومة وجزءاً من الرأي العام، يتهربون من الحلول الجذرية للاحتلال الإسرائيلي ويجدون في الفتنة بين السنّة والشيعة ما هو في مصلحة الدولة اليهودية.

توقيت طروحات سيرغي لافروف لرزمة ترغيب إيران بالصفقة الكبرى، له دلالات جذرية. فلقد أتى في خضم انقلاب «حزب الله»، ليس فقط على لبنان، وإنما على القرارات الدولية التي شاركت في صوغها روسيا. أتى برسالة فحواها السماح بالمكاسب السياسية الناتجة عن استخدام السلاح والترويع ورفض ايران القاطع للامتثال للقرارات الدولية.

فإذا كان في ذهن لافروف تقديم ضمانات أمنية لإيران في معالجة جذرية للعلاقة الأميركية – الإيرانية، لا بأس بذلك أبداً. أما قوله إن على الدول الكبرى «تأمين مكان أكثر تميزاً» لإيران في المفاوضات على فلسطين ومستقبل منطقة الشرق الأوسط، فإن الرسالة إلى الأطراف العربية بسيطة فحواها: حان لكم أن تتنحوا وتأخذوا المقعد الخلفي لأن روسيا قررت دعم النظام الاقليمي الجديد بقيادة إيرانية.

ماذا سيكون الرد العربي؟ وماذا ستقرر الولايات المتحدة في عهد هذا الرئيس أو الرئيس الآتي؟ الجواب مجهول حتى عند القيادات المعنية.

الواضح أنه ليوم حزين أن يرضخ العرب لنموذج طهران في الفكر والعقيدة والتسلّط، فيما أمامهم نموذج دبي المتفتح على التعددية وبناء المؤسسات الفكرية بعقيدة الاعتدال. وإنه ليوم حزين، ولكن، انه مجرد يوم في مسيرة سنوات. وما تتطلبه المرحلة هو أن تجلس قوى الاعتدال، حكومات وقيادات، لتصوغ ما تتطلبه استراتيجية النجاح لقيمها وتطلعاتها ومستقبلها، بعيداً عن املاء ملالي طهران للنظام الاقليمي الجديد. فهذه مجرد صفحة، والمجلد كبير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى