حتمية الطريق الأوروبي!
د. طيب تيزيني
حين جاء النهضوي التونسي خير الدين التونسي في القرن التاسع عشر، وجد نفسه أمام حالة من النهوض والتقدم جعلته يقف مندهشاً مأخوذاً… كان ذلك في فرنسا، موطئ الثورة الأم في أوروبا، وصاحبة ثالوث الحرية والأخوة والمساواة. فلقد كتب في كتابه (أقوم المسالك إلى معرفة أحوال الممالك) تحت وطأة الدهشة التي أخذت به: “إن التمدن الأورباوي تدفق سيْله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأْصله تياره المتتابع. فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا حذوْا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق”.
كانت تلك الكلمات بمثابة تقرير وقرار، تقرير لما رآه واقعاً حياً يتدفق في أنحاء الوجود التاريخي الجديد في القارة الأوروبية، وقرار بضرورة تبني ذلك والحذو حذوه، إذا توافرت الرغبة الحثيثة والواعية بالخلاص من كوابيس التخلف والتقهقر الحضاري. وبتعبير آخر، كانت الكلمات المذكورة بمثابة (بيانٍ) بمنعطف جديد في الفكر العربي حيال (العالم الآخر). ويلاحظ أن ما عبّر عنه خير الدين ها هنا قدّم حجر بناء ولما غدا جزءاً من النظر العربي للغرب الحديث، وأتى تحت حدٍّ اصطلاحي لدى العديد من الكتاب والباحثين والسياسيين العرب، وهو “صدمة الحداثة”.
والحق، إن هذا المصطلح يثير تساؤلاً معرفياً حاداً، كما يتطلب إيضاحاً تاريخياً مهماً، وإلا سيبقى الأمر مضطرباً وقادراً على إحداث مزيد من الاضطراب في مرحلة تزداد فيها تعقيدات العلاقة بين الشرق والغرب عموماً، وبين العرب وأوروبا وأميركا خصوصاً. أما التساؤل فهو: هل من طبائع الأمور أن يوجد نمط من الغزاة يدخلون إلى بلدٍ ما من أجل تحريره وتقدمه، كما فعل نابليون في مصر وبلدان عربية أخرى؟
أما الإيضاح التاريخي فيقوم على كون بعض البؤر العربية في مصر وسوريا وتونس والعراق، مثلاً، كانت قد أخذت تنجز بعض المهام التعبيرية ذات الطابع النهضوي التنويري، منذ أواخر القرن الثامن عشر، أي قبل بروز اهتمام الغرب بالعالم العربي وتعاظم مطامعه به بصيغة الاستعمار.
ما نسعى إلى الإعلان عنه الآن وبعدما تقدم يتمثل في القول بأن خير الدين التونسي لم يكن قد تعرف إلى الغرب بعد نشأة الاستعمار، وإنما أتى ذلك عموماً فيما قبله، ومن ثم لم يكن في حينه محتملاً أن يكتشف خير الدين – رغم تمرسه السياسي الدبلوماسي – ما سيُفصح عن نفسه لاحقاً. وهذا يرتب على الباحث أن ينظر إلى تطلعه لسلوك الطريق الأوروبي على أنه دعوة لتمثل طريق التقدم والنهضة والتنوير في مرحلة كان العالم العربي فيها (ومن ضمن ذلك تونس) يسعى لتحقيق هدفين كبيرين حاسمين، هما الاستقلال الوطني العربي عن الدولة العثمانية آنذاك والدخول في عالم الحداثة.
الاتحاد