ثلاثة شخوص من التاريخ نذكرهم
د. طيب تيزيني
في التأريخ لأمة او لشعب لم يعد ذا اهمية معرفية او سياسية ان ترى بداية هذا الفعل العلمي ماثلة في شخص مهما كبُر وعظُم. وفي هذا الموقف كان معظم مؤرخي العصور القديمة والوسطية قد وقعوا. ولم يُنظر الى ذلك على انه مثلبة او خروج عن الحقيقة. فعلى امتداد تلك العصور هيمنت تراتبية تأريخية صارمة, انطلقت من الآلهة والانبياء والرُسل, ثم عظماء البشر. وكان التأريخ- في عمومه – قد مورس من مواقع هذه المرجعيات الثلاث. وجاءت العصور الحديثة لتُدخل مرجعية جديدة رابعة راحت تتمثل في الكتل البشرية الكبرى, كالأمم والشعوب والطبقات والفئات الاجتماعية وغيرها.
ومع ذلك, ظلت هناك احوال قد تكون كثيرة, برزت فيها مرجعيات اعتقد انها افسحت الطريق لغيرها; مما مكن لظهور مسار للمرجعيات التأريخية قام على بروز تعددية لهذه الاخيرة في مرحلة تاريخية واحدة بعينها. وضمن هذه الاحتمالات المفتوحة, كان لثلاثة شخوص ان تكتسب دلالات رمزية كبرى في جُل التاريخ العربي, ما زالت تطرح نفسها على الباحثين والسياسيين مُساءلة واستنكارا. اما الشخص الاول فقد جسّده يهوذا الاسخريوطي, في حين ان أبا رغال جسّد الثاني منهم.
ويبقى الشخص الثالث, فهو المجهول المعروف, الذي نعرف فعلا من افعاله ما يلخص لنا شخصيته, وهو انه شغل دورا حاسما في فتح ابواب بغداد امام جحافل الاحتلال الامريكيين, في مرحلتنا هذه المعيشة.
لقد وشى الاسخريوطي بيسوع للجند الرومان, فسلّمه اليهم, وكان يُظهر نفسه نصيرا له ولمريديه من الفلسطينيين. اما ابو رغال فقد عمل دليلا للأحباش, الذين أوصلهم الى مكة سالمين, ومهيئين لاحتلالها. ويبقى ذلك المجهول المعروف, الذي صنع مفاتيح بغداد وسلمها لمن استطاع من الامريكيين ان يركّعها ويعلنها »مستباحة« لسبع سنين او لسبعين سنة, لا فرق. ورغم العناصر الكبرى, التي قد تميز اولئك الاشخاص الثلاثة بعضها عن بعض, فان هناك ما يجمع بينها ويجعلها قوة واحدة متضامنة متفاعلة. تلك القوة الجامعة بينها هي انها – مجتمعة – تجسد صمام أمان في أيدي من سعى ويسعى لاختراق الداخل العربي او الدواخل العربية من خارجها وعبر التوافق والتناغم مع قوى في داخلها, تمثل امتدادا لها: امتدادا ليهوذا الاسخريوطي في فلسطين ولأبي رغال في مكة, ولذاك السيد العبد الذي سلم الامريكيين مفاتيح بغداد: انه الاستبداد والفساد, وحجب الدواخل العربية عن اهلها, مع استباحتهم ليل نهار.
ان هؤلاء الذين نذكرهم لم تتحول ذكراهم في حياتنا بعد الى مهماز ناري يُثير اللهب في ضمائرنا الآسنة, وفي عقولنا الخامدة! لكن ما هو وراء الأكمة (وهو موجود بامتياز) سيتحول الى امامها. ولعلنا نعيش ذلك.
العرب اليوم