تزاوج الأنظمة الشمولية مع دجالي الأصوليات الفاسدة ..في قضية لبنى حسين
فخر الدين فياض
مازلت حين أقرأ عن رجم (الزناة) وقطع الرؤوس والأيدي وجلد (الخطّائين)، أشعر برهبة تاريخ مرعب، يحضر معه السيّاف مسرور، ورائحة الدم تملأ ثيابه ومسام جسده.. نظرة بلهاء تنبعث من عينيه، فتخترق صحراء القبائل والمذاهب وعصبيات الدم والذكورة نحو صحراء الراهن والواقع.
إذ ما معنى الحديث عن الرجم والجلد وقطع الأعضاء البشرية، في عصر تمثّل فيه المدنية، إحدى بديهيات الحياة. عصر امتنع عن إصدار حكم بالإعدام، وتحوّلت فيه السجون إلى أماكن للتعلم والدراسة والإصلاح الفردي الحقيقي. بعد أن استقلت السلطة القضائية، ودعّمت نفسها بشرعة حقوق الإنسان وحرياته العامة؟!
كذلك، كيف يمكن لحشد إنساني أن يجتمع اليوم لمشاهدة رجل يقطع رأسه، أو امرأة ترجم أو تجلد؟!
أمر يكاد لا يصدق عالمياً، وحتى في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية في خمسينيات القرن الماضي!! فما بالنا اليوم؟!!
تبدو أسئلتي هذه طفولية بعض الشيء للكثيرين الذين لم يرو مشهد جلد امرأة أو رجل، أو قطع يدها/يده، رأسها/ رأسه، فضلاً عن رؤية كينونة إنسانية ترجم حتى الموت!!
لكنها الأسئلة التي واجهت الصحفية السودانية لبنى حسين بواقعية أشد قبحاً من التخيل، وذلك حين حُكمت بالجلد في مكان عام، بعد أن أدينت ـ مع مجموعة من زميلاتها (الخاطئات!!) ـ في ارتداء بنطال!!
لبنى حسين رفضت الحكم، جاهرت باللا العظيمة في وجه حكم لا يليق بالحيوانات، فضلاً عن البشر، ولا أدري إن كنا نتصور كلباً وقد ربطت أطرافه، ويقوم بجلده أحد الرجال (المحقِّين)؟!!
بالتأكيد هناك الكثير من محاكم العالم، وربما أغلبها اليوم، سوف تحاكم من يجلد كلباً، مهما كان (محقاً) ومستنداً على هذه الشريعة أو تلك.
اللا التي قالتها لبنى حسين حوّلت قضيتها/ قضية السودانيين جميعاً، إلى قضية عالمية، اهتمت بها الكثير من مؤسسات حقوق الإنسان الدولية، والكثير من المؤسسات القانونية، وقد عبّر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون عن قلقه الشديد إزاء هذه القضية.
وبالتالي أصبحت قصة أحكام (قراقوش) السودانية معروفة اليوم لملايين البشر، رغم أنها القصة التي تتكرر يومياً في السودان بحق الرجال والنساء.
لكن الغريب في الأمر أن المجتمعات العربية والإسلامية، لم تحرّك ساكناً إزاء هذه الهمجية، التي تمارس في وضح النهار.. حتى في السودان نفسه، بضعة عشرات من النساء كن يتظاهرن أمام المحكمة دعماً للصحفية.
وهنا يبرز السؤال الأصعب: لماذا هذا الصمت حيال جريمة علنية؟! فمعظمنا يرتدي البنطال، رجالاً ونساء، ولو كنا نرى في ذلك عيباً أو خطيئة لامتنعنا عن ارتداءه.. ومع ذلك نصمت إزاء صحفية تتحدى بمفردها هذا القبح الشاذ في الألفية الثالثة للعالم المتمدن.. حتى أنها تضطر للهروب من وطنها السودان مؤخراً، تحت ساتر الحجاب الأفغاني.. ليس إلا.
ذات يوم، وفي خمسينات القرن الماضي، تحدّت سيدة أميركية سوداء تدعى روزا بروكس، قوانين أميركا العنصرية، حين رفضت النهوض من مقعدها في الحافلة، ليجلس رجلاً أبيض مكانها، كما كانت تنص قوانين الولاية (على السود التخلي عن مقاعدهم للبيض، وعليهم الدفع من الباب الأمامي ثم التراجع والدخول إلى الحافلة من الباب الخلفي). وكثيرا ما كان سائقي الحافلات يقفلون الباب ويتركون الركاب السود على حافة الطريق.. رفضت روزا باركس أن تعطي مقعدها للرجل الأبيض، هاج الناس، وتوقفت الحافلة، ومع ذلك رفضت باركس التحرك من مقعدها. كانت مصرة على إنسانيتها بكل هدوء ومدنية أيضا. ولكن الأمر انتهى بموقف لا علاقة له بالمدنية.. فقد تم ضربها ورميها خارج الحافلة ومن ثم القبض عليها من قبل الشرطة وتغريمها 14 دولارا، لخرقها قانون الولاية.
تبدو قصة روزا باركس بسيطة، لكنها البساطة نفسها التي تحملها القصص العظيمة في التاريخ الإنساني، تعملقت تلك القصة مع محاكمة بروكس التي استمرت 381 يوماً.. وترافقت بحركة احتجاج شعبية من السود والبيض تطالب بالحقوق المدنية والعامة وإلغاء العنصرية، لقد دخلت تلك المحاكمة إلى بيوت الأمريكيين جميعاً، واستمرت الاحتجاجات التي تحولت إلى بداية ثورة إنسانية عظيمة لإلغاء التمييز بين المواطنين على أساس اللون، في وسائل النقل أولاً، ثم وصلت ذروتها في عام 1964 بصدور قانون الحريات المدنية الذي حرّم التمييز على أساس العرق في الولايات المتحدة.
وليس غريباً أن نقول أن وصول أوباما، كأول رئيس ملوّن للبيت الأبيض كان بفضل موقف روزا بروكس (البسيط) ذات يوم.
لبنى حسين لا تقل إخلاصاً لإنسانيتها عن روزا بروكس، والفارق الوحيد واضح بين المرأتين.. هناك يوجد شعب يشعر بآدميته، وهنا لا يوجد هذا الشعب ببساطة.
لم نعتد على النضالات المدنية، التي تعانق مفاهيم الحداثة: حريات عامة، علمانية، قيم إنسانوية، انتخابات حقيقية ونزيهة، المساواة بين الجنسين.. وغير ذلك من حقوق هدرها تزاوج الأنظمة الشمولية مع دجالي التمذهب والتعصب والأصوليات الفاسدة التي أنعشها المال السياسي.
في المقابل، انبرى العالم العربي والإسلامي ليمجد منتظر الزيدي، الذي رمى الرئيس جورج بوش بفردتي حذائه، عمل عبّر من خلاله عن رفضه للاحتلال الأميركي الهمجي، وعن رفضه لرجل أحمق ورّط العالم بحربين ظالمتين، دفعت ملايين الناس ضريبتها. لكنه التعبير الذي لا يمكن للأمم والشعوب الإقتداء به في مقارعة الظلم والظالمين. ومن السخف أن تتخيل أمة أنها استعادت كرامتها وحقوقها عن طريق الحذاء.
وربما لست ضد الزيدي فيما قام به، كعمل فردي، أو كتعبير عن حالة غضب حقيقية في داخله.. لكنني من المؤكد ضد الأمة التي سارت وراء حذاء الزيدي، وصنعت نصباً له، في حين أنها تصمّ أذنيها عن استغاثة صحافية شجاعة، وقفت تدافع عن إنسانيتها، وإنسانية شعبها ومدنيته، فرفضت أن تُجلد، واستطاعت أن تحوّل محاكمتها إلى محاكمة للنظام نفسه، وللشرائع والقوانين التي يقوم عليها.