صفحات مختارة

… في أن النص عندنا مستحيل بينما الواقع مقفل

حسام عيتاني
تُعيِّن مصائر النصوص العربية ومواقعها من الاهتمام وتأثيرها في مضمون الحياة العامة، الدرجة التي يقف عليها دور الثقافة في المجال العربي، أو بالأحرى ابتعاد هذه في طورها الحالي من كل آليات الفعل السياسي والاجتماعي. والنص، إذا نُظر إليه كتكثيف لخطاب، يحمل في مضمونه ميزات الهمّ التغييري – الثوري أو السكوني المحافظ، أو ما بين هذا وذاك من تصنيفات إصلاحية أو تبريرية دفاعية. تطبيق التعريف المذكور على نصوص عربية سياسية او ثقافية حديثة، يشي بوجود فارق غير قابل للتخطي بين الفضاء الذي تقصد النصوص هذه الإقامة والتأثير فيه وبين الأرضيات التي تصدر عنها. فما تكتبه الأقلام العربية يكاد لا يترك بصمة على جدران الواقع. صحيح أن قسماً عظيماً مما يُكتب وينشر لا يستحق مجرد قراءة عابرة على ما يقول متشائمون كُثرٌ من المآلات التي بلغتها الثقافة العربية. لكنه، في نظرة ثانية، يعبِّر تعبيراً صادقاً عن واقع ثقافتنا والخلفيات المعرفية التي تتأسس عليها. ومن الظلم إطلاق حكم بإعدام كل الإنتاج الإبداعي والثقافي العربي المعاصر، لكن القليل الذي ينجو من أوبئة الضحالة، يُواجه بالتجاهل، على الأغلب.
في هذا السياق، لعل من المفيد القول إن النصوص الواضحة في تعبيرها عن فئات سياسية عربية، لا تزيد عن كونها تلاوات مقفلة في «حقائق» لا معنى لنقاشها أو تفنيدها. يسلط جمود النصوص وامتناعها على السجال (ناهيك عن «التفكيك»)، الضوء على مسائل بُحثت منذ مئات السنين، أي ربما منذ محاولة الجرجاني النظر في معاني النصوص المقدسة ومحمولاتها ودلالاتها، وصولاً الى المدارس البنيوية وما بعد الحداثية والتفكيكية وغيرها. العين القارئة لنصوصنا العربية تصل الى استنتاج بسيط مفاده ان النص «مستحيل» إذا أُخذ كوسيلة تعبير عن واقع متحرك. وهو مستحيل بسبب المسافة الشاسعة الفاصلة بينه وبين الحقيقة الموضوعية والمستقلة عنه. فقيمة المضمون تتأسس على مدى قربه من الواقع وليس على البلاغة. والواقع هو الهارب الأبدي من النص العربي الحديث.
ليس المقصود هنا تناول تنازل الكاتب العربي عن واجبه في أن يكون ممثلاً لشرائح اجتماعية ومنافحاً عن مصالحها، على ما سعى كتّاب القرن التاسع عشر الأوروبيون أن يكونوا، أو أن يعمل على دفع مجتمعه المتخلف الى السير في ركاب العالم المتقدم، بحسب المهمة التي كلف كتّاب عصر النهضة العربية أنفسهم بها. بل الأبعد من ذلك هو هذا البحث المضني عن فاعلية اجتماعية ثم سياسية تنطلقان مما لا يمت بأي سبب إلى الحقائق الموضوعية، الى محاولة عقلنة ما لا يتعقلن بل ما يتناقض مع العقلانية بأبسط أشكالها. وليس غريباً ان تكون ظاهرة «المثقف العضوي» في العالم العربي قد باتت محصورة في جهة تكرس عملها على تفسير او تأويل الحاضر وما ينتجه من حقائق جديدة تأويلاً ماضوياً، بما في ذلك من علوم وتقنيات وقيم ما دخلت يوماً في الأطر المعرفية القديمة ولم تعرف هذه سبيلاً الى تلك.
تمنح الظواهر السياسية والاجتماعية العربية مادة غنية لمقارنات بين الندرة في آثار اي نص مجرد، مهما كان عميقاً، وبين العواصف الهوجاء التي تثيرها مقاربات تمس الشعور الجمعي (المعبر عن وعي مشوه في أغلب الأحوال) أو المصالح السياسية المباشرة. فما من شيء يشبه الصمت الذي يلف تقارير المنظمات الدولية والإقليمية، سواء التابع منها للأمم المتحدة أو المنتمي الى المجتمع المدني، والمشيرة الى سير دولنا العربية، بمجتمعاتها وشرائحها الاجتماعية المختلفة في منحدر من الأمية والفقر وتهميش الفئات الأضعف. من يرصد تقارير الأعوام العشرة الماضية لبرنامج الامم المتحدة للتنمية وتقارير التنمية البشرية في العالم العربي، يصل الى استنتاج مؤلم: إن أكثرية الدول العربية، أو قلْ حيث تتركز الكتل البشرية الكبرى، لم تفعل شيئاً يُذكر لمعالجة مشكلاتها، بل انها اليوم في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في وضع أسوأ مما كانت عليه في الستينات والسبعينات من القرن العشرين.
نتائج تقارير مثل هذه لا تسبب حرجاً للحكومات ولا تدفع «الجماهير» الى الاحتجاج على تدهور أوضاعها. ويقتصر النقاش على دوائر ضيقة من الأكاديميين الذين ينقسمون عادة وفق خطوط الولاء للسلطة أو معارضتها معارضة لا تلتفت الى حقيقة أنها نتاج للواقع المشكو منه.
ما من إهانة، إذاً، تسببها التقارير السوداوية حيث ما من طرف يعتبر نفسه معنياً بها مباشرة او مداورة. وعلى رغم الآثار المدمرة التي يلحقها الفساد والتمييز على اساس الدين والجنس وغيرهما من العلل المتفشية في العالم العربي، بالنسيج الاجتماعي وانقلاب هذا الى حاضنة لظواهر الإرهاب وخروج الأهل على الدولة واستدعاء التدخلات الخارجية، إلا ان ذلك كله لا يكفي لاعتبار أي من العلل المذكورة وورود الاشارات المتتالية اليها في التقارير الدولية بمثابة عار وطني. والشعوران بالعار والفخر، على بدائيتهما، محجوزان في دولنا ومجتمعاتنا للخطوب الجلل، كالانتصارات والهزائم في المباريات الرياضية الأقرب الى حدود الالتصاق بمشاريع التوريث والمستقبل السياسي، من مسائل الفقر والتنمية والتعليم والأمية.
يتطلب ما تقدم إعادة نظر في الموقع الحقيقي للمشكلات التي تعاني منها كل دولة عربية على حدة. وإذا كانت البطالة والهجرة، وهما المكونان الأكبر لمستقبل ملايين الشباب العرب، ليستا بأهمية التأهل ذاتها لمباريات كأس العالم في كرة القدم، فإن في ذلك ما يعلن أن المشكلات العربية الحقيقية هي في مكان آخر.
ولعلها ملاحظة في غير مكانها تلك القائلة إن من تظاهر فرحاً أو احتجاجاً لربح أو خسارة مكان في «المونديال» يتجاهل ان فريقه ما كان ليتجاوز الأدوار الأولى بحال من الأحوال. فمتطلبات الفوز في كأس العالم، مثلها مثل دواعي التقدم في مجالات تنموية كثيرة، لا تأتي سوى بشق الأنفس وبعد التحلي بصفات أكثرها مرذول عندنا، كالعمل الشاق على سبيل المثال.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى