أزمة دبي اعلامية ايضا
عبد الباري عطوان
شهدت منطقة الخليج والجزيرة العربية حدثين على درجة كبيرة من الاهمية، الاول يتمثل في الأزمة المالية التي ضربت امارة دبي، وامتدت تداعياتها السلبية الى مختلف بورصات المنطقة والعالم، والثاني الفيضانات التي اجتاحت مدينة جدة غرب المملكة العربية السعودية، واسفرت عن اكثر من مئة قتيل وكارثة بيئية وصحية ربما تفتك بالآلاف من ابناء المنطقة.
لن نتحدث عن الجوانب الاقتصادية عن الأزمة المالية في دبي، فقد غطتها الصحافة الغربية بشكل مكثف، ولكننا سنتوقف عند جوانبها الثقافية والاعلامية، وما كشفته من تناقضات اساسية يمكن ان تسلط الاضواء على اسباب الانهيار العربي على كافة الصعد.
فاللافت ان الحداثة التي تشكل الجانب المشرق لتجربة دبي، وسطّر فيها الكثيرون المعلقات المادحة اقتصرت فقط على ناطحات السحاب، والمضاربات العقارية، والسباق الرهيب من اجل الربح المادي، اي انها اخذت من الحضارة الغربية، التي حاولت محاكاتها في كل شيء تقريبا القشور فقط، بينما جوهر هذه الحضارة من حقوق إنسان وحريات وابداع ثقافي، وتجارب ديمقراطية وتعددية سياسية، فقد ظل هامشيا، لم يتم الاقتراب منه على الاطلاق.
صغار المساهمين الذين جذبتهم ثقافة المضاربات المالية والعقارية، ومعظمهم من الموظفين الاماراتيين والخليجيين والعرب الآخرين، علاوة على عشرات الآلاف من ابناء شبه القارة الهندية، كانوا الضحية الاكبر للانهيارات المالية المذكورة، فقد تبخرت مدخراتهم، ووجد معظمهم انفسهم في ديون وازمات مالية خانقة، قد تؤدي بهم الى السجون، اما الهوامير الكبار فتبدو خسائرهم بسيطة بالمقارنة مع عشرات او مئات الملايين او حتى المليارات التي ازدحمت بها ارصدتهم من جراء المضاربات واستغلال عرق البسطاء من العمال الذين لم تزد رواتبهم عن مئتي دولار شهريا، في بلد يعتبر واحدا من اغلى عشرة بلدان عالميا.
ولعل التناقض الاساسي الذي كشفت عنه ازمة دبي يتعلق بالاعلام ونظرة المسؤولين اليه، فالاعلام الغربي الذي كان شفافا ومهنيا في تناول جوانب ازمة ديون دبي، تعرض لحملة شرسة من بعض وسائط نظرائه الاماراتيين والعرب، حيث وجهت اليه التهم بالعدوانية وكره العرب والمسلمين، والشماتة بتجربة دبي الناجحة، وتعرضت اهم صحيفة بريطانية ‘صنداي تايمز’ للمنع، لانها نشرت رسما كاريكاتوريا يصور الحاكم وهو غارق في الديون. اما عندما كان يشيد بدبي ومعجزتها في صفحات وملاحق كاملة فكان اعلاما مهنيا يفرش لمندوبيه السجاد الاحمر.
‘ ‘ ‘
الاعلام العربي في معظمه تجنب الحديث مطلقا عن هذه الازمة وجذورها، والاسباب التي ادت اليها، رغم ان البورصات الخليجية تراوحت خسائرها بين عشرة وخمسة عشر في المئة من جراء اهتزاز الثقة في المكانة المالية للامارة. فمعظم المحطات التلفزيونية والصحف النافذة تصدر من منطقة الاعلام الحرة في دبي.
وهكذا تبين ان الاجندة الخفية لهذه المناطق الاعلامية الحرة متعددة الجوانب، ابرزها الصمت المطبق في حالات مماثلة، تتناول الدولة المضيفة، وتجنب اغضاب حلفائها، والخليجيين منهم على وجه الخصوص، والالتزام بهذه الأجندات يعني الاعلانات الوفيرة لتسويق مضاربات عقارية ادت الى خراب بيوت عشرات الآلاف من البسطاء والحالمين بالثراء، وحصد الجوائز الاعلامية، اما عدم الالتزام فيعني الاغلاق والطرد من البلاد.
فمن الغريب ان محطات التلفزة والصحف التي تصدر من المنطقة الحرة في دبي، وغالبيتها سعودية، تستطيع ان تشن حملات شرسة ضد سورية والعراق (في زمن صدام) وايران وحزب الله وحماس، ولكن محرم على اي قنوات تابعة لهذه الدول، او موالية لها، ان تنطق بكلمة واحدة ضد المملكة العربية السعودية وحلفائها.
الشيء المسموح به للسوريين من المقربين للنظام، او الذين ولدوا من رحمه، هو غسل ملياراتهم في دبي، وشراء الابراج والمضاربة في العقارات. واذا سُمح لهم بانشاء قنوات تلفزيونية في المنطقة الحرة، فليس للرد على الحملات التي تستهدف بلدهم والنظام الذي سهل لهم تكوين المليارات، في بلد يئن شعبه من الجوع والحرمان والبطالة، وانما لنشر ثقافة الرقص والفن الهابط.
معادلة غريبة لا يمكن ان تحدث الا في المنطقة العربية، والخليجية منها على وجه الخصوص. وما هو اغرب منها، ان اي انتقاد لها، او حتى محاولة لمناقشتها، والتحذير من خطورتها، فهذا يعني توجيه اتهامات جاهزة مثل ‘اقلام مأجورة او مرتزقة، او عميلة’، واذا تلطفوا قليلا، فاتهامات بالشماتة او الحسد.
ينتقدون الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وحركات المقاومة، ويشككون فيها وبقادتها، اللهم لا اعتراض، فهذه حرية رأي، وان اختلفنا معها كلياً، ولكن ان ينتقد احدنا بعض العيوب واوجه الفساد، وانتهاكات حقوق الانسان، فهذه كبيرة الكبائر، وتدخل سافر في الشؤون الداخلية في دول مقدسة.
‘ ‘ ‘
ملياراتنا كعرب ومسلمين، تُنهب في وضح النهار، بحيث اصبحنا اضحوكة في اوساط شعوب كثيرة لم يكن لها اي دور حضاري، ولكنها نهضت من وسط الركام، وبنت انظمة ديمقراطية، وبنى تحتية اقتصادية صلبة، وتزحف لأخذ مكانها في صفوف الدول العظمى، بينما نحن ما زلنا في الحضيض.
المملكة العربية السعودية، البقرة المقدسة، التي لا يجرؤ احد على انتقادها، بسبب امبراطوريتها الاعلامية الاخطبوطية التي تمتد اذرعها من نواكشوط حتى سواحل الخليج الغربية شرقاً، قدمت لنا في الايام القليلة الماضية احد ابرز الامثلة على الفساد العربي في ابشع صوره. والفضل في ذلك يعود الى موجة امطار غزيرة، استمرت بضع ساعات في منطقة الحجاز، ومدينة جدة على وجه التحديد.
اكتشفنا ان هذه المدينة التي تسمى ‘عروس البحر الاحمر’ لا توجد فيها شبكة مجاري، ولا قنوات صرف صحي، حيث يتم تجميع مياه المجاري في ‘بحيرة المسك’، والتسمية هي للمواطنين سخرية من روائحها الكريهة. هذه البحيرة مهددة بالطوفان واكتساح مياهها الآسنة احياء للبسطاء، او تلويث مياه البحر، ونشر الاوبئة في كل مكان.
دخل المملكة العربية السعودية في السنوات العشر الماضية من العوائد النفطية، حسب احصاءات منظمة اوبك، بلغ تريليون (الف مليار) و 305.032 مليار دولار، اي حوالى تريليون ونصف تريليون دولار، ومع ذلك لم تبن شبكة للمجاري والصرف صحي في مدينتها الثانية، فلماذا حدثت هذه الخطيئة الكبرى، واين ذهبت الاموال؟
العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي بدأ خطوات اصلاحية ملفتة، يحاول الاجابة عن هذا السؤال من خلال تشكيل لجنة للمحاسبة، وتقديم المسؤولين عن هذا الخطأ الفاضح الى العدالة.
خطوة جيدة، وان كانت متأخرة، ولكن السؤال هو عما اذا كان كبار المسؤولين، وامراء الاسرة الحاكمة، المتورطون في هذه الفضيحة، وفضائح مالية أخرى كثيرة، ستطالهم التحقيقات ايضاً، وسيقدمون الى العدالة؟
‘ ‘ ‘
زملاء في الصحافة السعودية طفح بهم الكيل وكتبوا سلسلة من المقالات الجريئة عن الفساد، وقال احدهم ‘ان كل فاسد صغير خلفه فاسد كبير’، وطالبوا بالعقاب دون رحمة، ايضاً هذه خطوة شجاعة من كتاب وطنيين حريصين على بلادهم وارواح أبنائها، والمأمول أن لا تكون هذه الهبة مؤقته تنتهي بعد فترة وجيزة، فالمملكة تحتل المرتبة 146 على قائمة الحريات الصحافية حسب علمنا.
ما يجعلنا نخشى من توقف التحقيقات عند صغار الفاسدين هو تجربتنا مع تجار المخدرات في المملكة، ليس كمشاركين وانما كمراقبين، ففي كل عام تعدم المملكة حوالى مئة مهرب مخدرات من فقراء باكستان ونيجيريا واليمن، وهم غالباً مضلل بهم، ودون اي محاكمات عادلة او محامين، بينما كبار المهربين الذين يعمل لديهم هؤلاء يتمتعون بملايينهم، ويجندون المزيد من صغار المهربين، والدولة تعرفهم واحداً واحداً.
علينا ان نعترف بأن الفساد لا يقتصر على الحكومات، وانما ايضاً يعشعش في معظم اوساطنا كاعلاميين. نحن نشارك في جريمة ايصال شعوبنا ومجتمعاتنا الى مرحلة الانحطاط الحالية، سواء في انحيازنا الى انظمة فاسدة، او تغطيتنا على عيوبها، اما بالصمت، او بالحديث عن عيوب الآخرين وتضخيمها، لاخفاء عيوب أرباب بيوتنا.
عملية التغيير يجب ان لا تتوقف عند الحكام والطبقة المحيطة بهم، وانما تمتد الى مؤسساتنا الاعلامية، والجامعات ومراكز التدريب على وجه الخصوص، فلا بد من العودة الى البدايات، واحياء الثوابت، اي تحويل الصحافة الى سلطة رابعة فعلاً، سلطة تراقب وتحاسب وتنحاز لمصلحة الشعب.
القدس العربي