اقتصاد الجريمة يتوسّع في عصر العولمة
سمير التنير
يتمثل الهدف الرئيسي لعمليات غسل الأموال، في محاولة اضفاء الشرعية على العائدات المتأتية من الأنشطة الاجرامية، وذلك بتحويل السيولة النقدية المتولدة عن هذه الأنشطة، الى أشكال أخرى من الأصول، بما يساعد على تأمين تدفق هذه العائدات غير القانونية وغير المشروعة، بحيث يمكن استثمارها او استخدامها لاحقاً في أعمال قانونية تزيل عنها الشبهات ومخاطر المصادرة، من قبل الأجهزة الأمنية والسلطات الحكومية المعنية. وقد أدّى النمو السريع الذي عرفته الأنشطة الإجرامية، خصوصاً التجارة غير المشروعة في المخدرات، وانتشار المراكز المالية الحرة، والعولمة الاقتصادية، إلى حدوث طفرة حقيقية في حجم وأساليب غسل الأموال.
ويستأثر موضوع تبييض الأموال باهتمام متزايد من السلطات السياسية ومؤسسات الرقابة المالية والدولية في مختلف بلدان العالم، خصوصا في العالم الصناعي، نظراً لارتباط هذا النشاط بأعمال غير شرعية في طليعتها تهريب المخدرات والمتاجرة بها، ولحجم الأموال المرتبطة بهذه الأعمال. وقد أظهرت أرقام منظمة الأمم المتحدة أن 330 مليون شخص يتعاطون المخدرات في العالم.
ونشير هنا إلى ان المبالغ التي تدخل في الدورة الاقتصادية كل سنة كبيرة جداً. ولكن بالنظر لكون الشبكات الاجرامية التي تتعاطى هذه الأعمال غير المشروعة تعمل عادة في الخفاء، وضمن سلسلة ضخمة من التنظيم والتعقيد كي يصعب اكتشافها، يستحيل إعطاء تقدير دقيق لحجم الأموال المبيضة سنوياً في العالم. ويختلف هذا التقدير من مصدر إلى آخر. ولكن حسب مصادر صندوق النقد الدولي فإن الأموال التي تمّ تبييضها عام 1997 تراوحت بين 2 و5 بالمئة من مجموع الناتج المحلي لكل دول العالم أي ما بين 600 و1500 مليار دولار يتم تبييضها. منها ما يقارب 500 مليار دولار يتمّ تبييضها في المصارف والمؤسسات المالية للدول الصناعية السبع.
وحسب تقرير صادر عن دائرة الخزينة في الولايات المتحدة تحدد حجم الاموال الناتجة عن تجارة المخدرات بـ 300 مليار دولار في العالم منها 100 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها.
إن الأموال الناتجة أو المرتبطة بجرائم موصوفة في تشريعات البلدان او المعاهدات او الاتفاقات الدولية تشمل ما يلي: الاتجار بالمخدرات، والفساد وسرقة الأموال العامة والخاصة، والاتجار غير المشروع بالأسلحة، وتزوير العملات، والتهرب الضريبي، والرشوة، والاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، والاتجار بالبشر، والدعارة وغيرها من الأنشطة الإجرامية.
ان تبييض الأموال هو جريمة تبعية تلي وقوع جريمة أخرى أصلية هي المصدر غير المشروع للأموال المراد تبييضها. ولكن هاتين الجريمتين مستقلتان. فتجوز ملاحقة الجريمة التبعية أي التبييض، ولو بقي فاعل الجريمة الأصلية غير معاقب. وتبييض الاموال تعبير يجسد مختلف الإجراءات التي تقوم بها منظمات اجرامية لاخفاء الأموال غير المشروعة. ويكون مصدر هذه الأموال خفياً. وهو ما يحول دون إمكانية استخدامها المباشر كما هي، خوفاً من اكتشاف الشبكة التي تمارس هذه النشاطات. لذلك تسعى هذه الشبكات الى أساليب متعددة لمعالجة هذه الأموال عن طريق إدخالها في الدورات الاقتصادية والمالية المشروعة.
يحصل التبييض بطرائق وتقنيات مختلفة عدة، فقد تتخذ عمليات التبييض أشكالاً متنوعة متعددة، منها ما هو نقدي ومنها ما هو عيني، ومنها ما هو بسيط ومنها ما هو معقد. وكل ذلك حسب ظروف كل عملية. ولكن أيا كانت الطريقة المستعملة لتبييض الأموال فإنها تمرّ عادة بثلاث مراحل رئيسية وفقاً لما حدده خبراء مجموعة العمل المالي (G A F I) وهي: 1ـ مرحلة التوظيف. 2ـ مرحلة التجميع او التمويه. 3ـ مرحلة الدمج. وقد تحصل هذه العمليات دفعة واحدة او بفارق زمني تبعاً للضرورة والحاجة.
1ـ مرحلة التوظيف: وهي مرحلة إدخال الأموال غير المشروعة في النظام المصرفي والمالي ويتمّ ذلك من خلال تجزئتها الى مبالغ صغيرة وأقل لفتاً للانتباه. يتم إدخالها تباعاً في حساب او حسابات مصرفية متعدّدة. كما يتم من خلال شراء مجموعة من الأدوات المالية مثل الشيكات وأوامر الدفع والسندات التي يتم تجييرها الى حسابات مفتوحة في مصارف أخرى. وقد يحصل التبييض عبر الاقتراض بضمان الأموال التي تمّ إيداعها.
2ـ مرحلة التجميع او التمويه: هي عبارة عن سلسلة عمليات مالية تهدف إلى التضليل والتمويه عن طريق إخراج الأموال المتفرقة التي تم إيداعها في مؤسسات مالية ومصرفية أخرى لتغيير الاستخدامات التي تمّت في المرحلة الأولى لقطع الصلة بين مصادر الأموال غير المشروعة والحصيلة الناتجة منها. وهذه المرحلة تشكل المدخل لتجهيز المال للتدوير.
3ـ مرحلة الدمج: تدخل الأموال في هذه المرحلة في بوتقة الاقتصاد الشرعي وتبدأ مرحلة الاستفادة القانونية منها من خلال توظيفات مالية واستثمارات حقيقية بهدف محو أي اثر لمصدرها غير المشروع.
من أهم محاولات تقدير حجم ظاهرة غسل الأموال، اعتماداً على تقدير حجم التجارة غير القانونية بالمخدرات تلك التي اضطلعت بها مجموعة التدخل الدولي المالي (G A F I) منذ عام 1990 لتقدير حجم الأموال التي يتم غسلها في كل دولة من دول المجموعة، بفرض تجميع تلك الاحصاءات والحصول على تقدير شامل لحجم تلك الأموال في مجموع الدول الاعضاء، كخطوة أولية في اتجاه تقدير الحجم الكلي للأموال التي يتم غسلها على الصعيد العالمي. وقد اقتصرت المجموعة المذكورة في محاولتها تقدير حجم التجارة غير الشرعية بالمخدرات من منطلق ان هذه العائدات تمثل حوالى نصف العائدات الاجرامية. وهو ما اتفقت عليه معظم المنظمات الدولية. رغم كون هذه النسبة تقل كثيراً عن 50 بالمئة في بعض الدول.
رغم تعدد محاولات تقدير حجم ظاهرة غسل الأموال بقيت هذه المحاولات متواضعة وذلك لأسباب منها: الطبيعة المستترة لعمليات غسل الأموال نفسها. فالأرباح متأتية من أنشطة إجرامية، وبالتالي لا توثق هذه العمليات ولا يعلن عن قيمة أرباحها. ولصعوبة حصر الأنشطة الإجرامية كافة المرتبطة بعمليات غسل الأموال، نظراً إلى تعددها وانتشارها. وللطبيعة الدولية التي اكتسبتها عمليات غسل الأموال، لارتباطها بأنشطة الجريمة المنظمة الدولية، كما أن حجم رأس المال الإجرامي الأصلي هو مصدر يولّد أرباحاً جديدة.
السفير