شعوذة سياسية

ساطع نور الدين
آن لهذا المزاح ان يتوقف، فهو لم يعد يضحك احدا، ولم يعد يثير سوى المزيد من السخرية من البلد كله. وحان الوقت للبحث عن جدول اعمال يتسم بقدر كبير من التواضع وقدر اكبر من التعقل.
الجدل المستمر حول البيان الوزاري صار لعبة سمجة لا وظيفة لها سوى ان تكشف خواء اهل السلطة والسياسة وانحدارهم الى مستويات لم يسبق لها مثيل في تاريخ لبنان، سواء عندما كانوا متخاصمين او عندما بدأوا يتصالحون، وشرعوا في كتابة ذلك النص الفارغ الذي لا يمكن ان يندرج في اي سياق سياسي، والذي استغرق اعداده وقتا طويلا، مع انه كان يمكن ان يكتب في نصف ساعة ويقرأ في ثلث ساعة.. وينسى في عشر دقائق.
تعامل المسؤولون والسياسيون مع البيان الذي انجز للتو على انه نص تأسيسي، لا يخلو من القداسة والحكمة، ويتسم بالكثير من صفات الميثاق الوطني الجديد الذي يترجم الرغبة المشتركة بين الطوائف والمذاهب في التعايش والتفاهم والتهدئة، ويمثل اشارة الى الخارج تطمئن المعنيين والمهتمين الى ان اللبنانيين خرجوا اخيرا من الشوارع، ويرسل الى جامعة الدول العربية ومنظمة الامم المتحدة، كي يصنف مع وثائقهما الرسمية.
وتعاطى المسؤولون والسياسيون مع البيان بصفته شرطا لنيل الثقة بحكومة ستمثل امام مجلس النواب ولن تجد في مقاعده معارضا واحدا، او ربما مجادلا يقف في القاعة ليناقش الخطط والمشروعات والنيات الواردة في النص الاشد غموضا والتباسا من جميع البيانات الوزارية السابقة، والذي حفرت كلماته بالخناجر والسكاكين، ونظمت فقراته مثلما تنظم صفوف الجنود النظاميين المتجهين الى الحرب.
قراءة مشروع البيان توحي بانه اقرب الى الشعوذة السياسية التي لا تعبر سوى عن محاولات لطرد كوابيس متبادلة تراود ممثلي الطوائف وتؤرقهم، وتكسب خلافاتهم وصراعاتهم المزيد من الجدية، وتجعل مجلس الوزراء المقبل خطا اضافيا من خطوط التماس التقليدية، يمكن ان تشتعل في اي لحظة، ويحرق ذلك النص الذي جادلت لجنة صياغته في عناوين لن تكون من شأن الحكومة ولا من مهمتها، مثل المقاومة والعلاقة مع سوريا، وهما البندان اللذان كتبا باحرف من ذهب خالص.
لم يخلف النقاش المطول حول البيان انطباعا بان لبنان يستعد للانتقال من حقبة الى اخرى، بعد الفترة الانتقالية البائسة التي عاشها على مدى السنوات الخمس الماضية. كان طول النقاش سببا اضافيا للهزء من المسؤولين اللبنانيين، من قبل عواصم عربية واجنبية راهنت فعلا على النضوج السياسي اللبناني، وعلى الا يظل لبنان مصدرا رئيسيا للمشكلات في الشرق الاوسط، بحسب توصيف الرئيس التركي عبد الله غول.
ثبت البيان ما لم يكن بحاجة الى اثبات في نص رسمي: اللبنانيون مختلفون على كل شيء. والجلوس الى طاولة واحدة لا يعني ارتقاء في العمل السياسي، ولا ابتعادا عن الحرب الاهلية، بل مجرد استراحة محاربين اضطروا لصياغة ورقة ليس لها اي قيمة سياسية، فقط لانها جزء من طقوسهم وادعاءاتهم انهم في دولة… فقدت في الاسابيع القليلة الماضية المزيد من مصداقيتها ورصانة مسؤوليها امام الخارج الذي لن يتوقف عن السخرية.
السفير