ا لا تكن ماءً عكراً!
نهلة الشهال
هل كان عاقل يظن أن إيران ستسلّم كل ما جمعته حتى الآن من اليورانيوم الضعيف التخصيب إلى دول أخرى، كروسيا وفرنسا، لتكثيفه ثم إعادته إلى طهران بكميات مناسبة بهدف تشغيل محطة… تنتج أدوية مشعّة خاصة بمعالجة أمراض معيّنة، كالسرطان! هذا ما كان قد توصّل إليه منذ شهرين «اجتماع الدول الست»، الذي عُقد للتفاوض مع إيران. وكان يخيّم عليه وقتها وقع إعلان السلطات الإيرانية وجود موقع تخصيب آخر قرب مدينة قم، حاجج الأوروبيّون بأنهم اكتشفوه أصلاً، فلا إرادة ذاتية ولا كرم أخلاق في ما أفصحت عنه طهران… التي بدأت مباشرةً بعد انفضاض الاجتماع «مفاوضات فرعية» بشأن آليات تطبيق الاتفاق المبدئي: نرسل كميات محدودة تخصّب وتعاد إلينا فنرسل سواها وهكذا، ولا نوافق على فرنسا محطةَ تخصيب ثانية لأن مواقفها حيالنا مغرضة، ونطالب روسيا بتنفيذ تعهّداتها بتوريد صواريخ أس 300 المضادة للطيران إلينا، وإلّا فسيكون في الأمر «إن»، وهو شكل من الضغط حتى على الحليف، كي لا يخطئ في حساباته.
تعتمد إيران على أمور عدة تعرف أنها تتيح لها مساحة مناورة كبيرة، منها أن الولايات المتحدة لا تملك اتخاذ قرارات حربية كبرى مثلما كانت الحال أيام بوش، وأنها بصدد السعي إلى لمّ حربَيها الكبيرتَين في العراق وأفغانستان، وأن إيران، على أية حال، ليست أيّهما، تماسكاً وحجماً وتداعيات متوقّعة لفعل كهذا جعلته مستبعداً أصلاً حتى أيام حكم عصابة المحافظين الجدد، وأن الأزمة الاقتصادية الشاملة تخنق الجميع في رمالها المتحركة، وأن كلاً من روسيا والصين تقيم مع إيران علاقات تبادل اقتصادية حيوية، وعلى ذلك تنظران إليها كجزء من تصوّراتهما لمصالحهما السياسية والاستراتيجية، وأن تهديدات إسرائيل جعجعة، وأن هناك القدرة الإيرانية على التأثير المباشر وغير القابل للتجاهل في الوضعين العراقي والأفغاني، وأن الضربات المحدودة قد تقلب الطاولة في المنطقة والعالم، وأن إيران ليست مجردة من القدرة على الرد الموجع، وأن الضغط الأوروبي تافه، فلا يحسب في تقدير ميزان القوى.
بعد أسابيع من ممارسة لعبة القطّ والفأر هذه، أعلنت السلطات الإيرانية منذ يومين أنها بصدد إنشاء عشر محطات جديدة، خمس منها فوراً، وخمس أخرى بعد شهرين، وبصدد الانتقال من تخصيب ضعيف إلى التخصيب بمعدل 20 بالمئة، وهو العتبة التي يُتوافق دولياً وعلمياً على اعتبارها تلامس إمكان استخدام اليورانيوم لأغراض عسكرية. صحيح أن الإعلان جاء رداً استفزازياً على قرار توبيخ طهران، الذي اتخذته وكالة الطاقة الذرية، وصحيح أن إيران لا تمتلك المعدّات اللازمة لمثل هذا التخصيب حجماً وكثافة، وصحيح أيضا أنها ما زالت عضواً في معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، ولا معطيات تشير إلى أنها ستتّبع المثال الكوري الشمالي (فتقطع مع فيينا وتطرد الخبراء الدوليين وتنسحب من المعاهدة)، فلذلك شروط غير متوافرة، وضرورات لعلها غير قائمة أو داهمة، ولكنّ المؤكد بعد كل ذلك أن وجهة المناورة ما زالت فعّالة، إذ قرر البرلمان بعد يوم من «مشهدية» الحكومة تلك، أن مجالات الدبلوماسية ما زالت مفتوحة. ويهم إيران ألّا يُفهم أن هناك تياراً غير مُسيطَر عليه، يتخذ من البرلمان نقطة ارتكاز له، لذا صوّتت من أجل وجهة تعزيز التفاوض الدبلوماسي الأغلبية الساحقة منه، أو 226 من أصل 290 برلمانياً.
وتبدو هذه النقطة الأخيرة في غاية الأهمية أو الحساسية لإيران. فبعد إعادة انتخاب أحمدي نجاد، وموجة الاعتراض الكبيرة التي تلته، والقمع البشع الذي اعتمدته السلطات لضبط المعارضة، بحيث أباحت كل شيء، من قتل واعتقالات واسعة وتعذيب وإعدامات واغتصاب وضغوط موسعة على محيط المعارضين، ها هي ترى في كل نأمة ظلال ما يمكن تشخيصه استضعافاً للسلطة، «يخدم مخططات الأعداء»، و«يوهن نفسية الأمة» على ما تقول نظيرتها السورية في تبرير قمع أفراد لا يمكنهم أن يؤثّروا تأثيراً خطيراً في الوضع القائم، مما يبدو عبثياً تماماً.
فما سوى العبث وضيق الأفق والمسلك الكيدي، وظائف تقف خلف قرار طهران «مصادرة» ميدالية نوبل من المحامية المختصة بالدفاع عن حقوق الإنسان، شيرين عبادي، وهو ما يمنح السيدة صدقية وتعاطفاً وسلطة معنوية قد لا تحوزها جميعاً لو تُركت وشأنها؟! ويمكن الاسترسال في أمثلة أخرى سبقت هذه الحادثة الأخيرة، كما يمكن توقّع سواها من الطينة نفسها.
هل يمكن أيّ عاقل أو متفائل بمصير أفضل للبشرية سوى الانشراح للطاقة الفائقة على المناورة التي تقود بها طهران صراعها مع القوى المهيمنة، وهي قوى فقدت الكثير من عناصر هيمنتها، دون أن تفقد عنجهيتها ودفاعها المستميت عن نظامها العالمي البائس؟ وهل يمكن في الوقت نفسه ألا يُعجب المرء، ويُصدم، بالغلبة المطلقة لـ«منطق السلطة»، ومن مجّانية معظم أفعالها، بينما المنتظر أن يولد يوماً نموذج يراعي المسارين، فلا يضع الديموقراطية في تضادّ مع تحقيق الذات. وإن كان في ذلك صعوبات جمة وكُلَف عالية، فهي ليست بأعلى مما يدفع الآن.