صفحات العالم

زمن الشُّطار والعيّارين

خيري منصور
عرف العرب في تاريخهم العيّارين والشطار والمجّان، وكان هؤلاء إفرازاً طبيعياً لمجتمعات في طور التحول، خصوصاً في العصر العباسي، لكن المفكر الأفّاق هو المهنة المستحدثة في زمن الفضائيات وتحويل الغابات إلى ورق، حيث أصبح عدد الصحف والمجلات ينافس عدد الأشجار في وطن عربي أصابه التصحر من جهتين، الأولى بيئية وطبيعية، والثانية بشرية وثقافية .
ويبدو أننا بحاجة إلى تعريف الأفّاق والمفكر معاً كي نستدل على المشترك بينهما كما تصوغه وسائل إعلام تخصصت في التجهيل والتضليل معاً .
والمفكر بعيداً عن تلك الصورة التي نحتها الفنان رودان لرجل يضع يده على جبينه ويتأمل في صمت، وبعيداً أيضاً عن المقولة هو الكائن الذي لا ينظر حوله بعيني دمية، بل يدرك العلاقات بين الأشياء، وله قدرة على ما يسميه علماء النفس الاستبصار، وقد يشاركه في ذلك القرد الذي استطاع في إحدى التجارب العلمية أن يهتدي إلى ربط عصا مجوفة بأخرى رفيعة كي يسقط موزة تتدلى من سقف الغرفة العالي، وكم كان د . هشام جعيط مصيباً عندما سخر ذات يوم من صفة المفكر التي تنسب إلى بعض الناس، وقال إن معنى ذلك هو أن البشر العاديين محرمون من نعمة التفكير .
والأفّاق هو الذي تصلح له عدة تعريفات بدءاً من الشاطر المتسول بمهارة حتى العارف بشعاب الكتب والغابات، بحيث يستطيع أن يملأ سلة من مختلف الثمار، لكن على طريقة البعارة، وهي التقاط ما تعفن وسقط لأنه لم يقاوم جاذبية الأرض .
إن المفكر الأفّاق في عصرنا الفضائي ليس مطالباً بأن يكون مؤلف كتب أو باحثاً، إذ يكفي أن يثرثر لبضع دقائق عن أية قضية، حتى لو كانت من صميم الكيمياء أو من صلب الطب والقانون، لأن المطلوب في هذه الكوميديات هو أدوار لا تدوم أكثر من خمس دقائق ثم يسدل الستار بفاصل يطول أو يقصر بانتظار جولة قادمة أو مذبحة قادمة .
لقد حولت حروب الخليج الثلاث الكثير من الأفّاقين إلى جنرالات وخبراء استراتيجيين، لهذا كانت الصدمات كبيرة، لأن التوقعات خابت، ومن بشروا بانتصارات عظمى تحولوا في رمشة عين إلى ندابين، وتباكوا أكثر من غيرهم على ما حدث! ويبدو أن كثرة عدد المطبوعات والفضائيات والأرضيات والبرمائيات في أيامنا تتطلب علفاً على مدار اللحظة، ما دام البث مستمراً طيلة النهار والليل، لهذا لا فرق بين الغث والسمين والصالح والطالح، لأنه ما من وقت للغربلة أو المقارنات والعودة إلى المرجعيات للتدقيق .
والمفكر العربي الجدير بهذا اللقب، إذا اتفقنا عليه ولو بشكل إجرائي، هو الذي يعرف على الأقل ما اشترطه عليه ابن خلدون في مقاربة القرائن، والشك في الرواية، وما أودعه أمانة في قلمه ولسانه ابن رشد من عقلانية ومنطق، وما تقطر من عذابات الجاحظ والتوحيدي وسائر السلالة، هذا إذا لم نتذكر تراث الفكر الإنساني بدءاً من الثالوث الإغريقي قبل أكثر من خمسة وعشرين قرناً حتى ميشيل فوكو وجاك دريدا وبقية العائلة .
لا ندري كيف حذف الفارق بين الحجر والسفرجلة وبين حفيف الشجر وفحيح الثعابين وبين الشفق والغسق وأخيراً بين المفكرين والأفّاقين في زمن يستحق بالفعل أن يسمى مجدداً زمن الشطار والعيّارين في حقبة ما بعد الحداثة .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى