صفحات العالم

مشتركات عربية للأزمات وللحلول

سليمان تقي الدين
هل يمكن إيجاد عنوان مشترك بين المشكلات والأزمات التي تعاني منها الكثير من الدول العربية، أم أننا نبالغ حين نفترض أن العالم العربي لديه قضايا مشتركة؟ أليس لكل دولة خصوصيتها ولكل مجتمع تكوينه الخاص؟ في ظاهر الحال على الأقل، تختلف طبيعة المشكلات والتحديات والأولويات . لا تشبه فلسطين العراق واليمن والسودان والصومال ولبنان، ولا طبعاً الأزمة المالية في الخليج تشبه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في مصر وبلاد المغرب العربي . أما التحدي الصهيوني لدول المشرق العربي فليس هو نفسه لبقية الدول والتحدي الإيراني لدول الخليج يختلف عن الدول الأخرى .
لكن الحقيقة أن العالم كله يتفاعل بصورة يصعب معها عزل وفصل المشكلات . أما الشرق الأوسط بالذات والمدى الآسيوي الأوسع وضمناً الشمال الإفريقي، فهو الميدان الأكثر انفعالاً بتداعيات النظام العالمي الجديد والسعي الغربي إلى إعادة تشكيله على نحو يضمن مصالح هذا الغرب كما يتصورها .
ليس بالضرورة أن نكون من أصحاب نظرية المؤامرة بالمعنى التبسيطي الذي يرى في كل حادث تعبيراً عن مخطط مرسوم ينفذ بعناية من جهة تقرر مصير هذا الكوكب . لكن المؤكد أن العولمة تقوم على مركز وأطراف وعلى موقع مهيمن في الاقتصاد والسياسة والأمن، وهو الذي يؤطر الظاهرات الجزئية التي تحصل هنا أو هناك، أو هي تشكل تداعيات أو ترجمات لمراكز القرار الكبرى ومصالحها .
السياسات الدولية لا تخلق كل المعطيات والوقائع، ولكنها بصورة أساسية تستخدمها وتقدم على تطويرها أو تفعيلها أو تحويرها .
ليس هناك من مهندس عالمي يستطيع أن يقرر وحده مصائر الدول والشعوب، لأنه ليس الوحيد على المسرح . في قراءة ما جرى خلال العقد الأخير يؤكد هذه الحقيقة . مشروع الشرق الأوسط الجديد لم يحقق أهدافه ولم ينجح في إقامة منظومة سياسية جديدة لها مرتكزاتها الأمنية والاقتصادية . لكن ذلك لا يعني أن من حاول رسم هذا النظام قد تراجع عن الأهداف الكبرى له . تبقى السياسة في جميع الأحوال خاضعة لموازين القوى وهي تتحرك بين خطوطها .
لا نستطيع اليوم القول إن مواجهة واحدة قد حسمت الأمور، وإن ساحة واحدة غيرت مجرى السياسة الدولية، ما زالت الصراعات الدولية مفتوحة مع تبديل في الوسائل والأدوات .
العالم العربي كان ولا يزال هدفاً حيوياً، بل مركزياً في أي مشروع دولي . لم تبطل وظيفته هذه، بل تتجدد لأنه قلب العالم القديم ونقطة الدائرة في احتواء ما تعنيه آسيا وإفريقيا للغرب من ثروات وأسواق وثقافات . انتهت الحرب الباردة في العالم وقد كان الشرق الأوسط أبرز مسارحها، لكن الغرب لم يتوقف عن السعي إلى إخضاع المنطقة بالقوة مستخدماً مبررات جديدة تحت عنوان الإرهاب أو صراع الحضارات والثقافات . قد لا تكون هذه الدولة أو تلك مطلوبة لذاتها لكنها جزء من منظومة إقليمية لا يمكن تجاهلها . في المشروع الدولي، الشرق الأوسط هو سلسلة مترابطة الحلقات يقوم البعض منها بدور سياسي أو أمني أو اقتصادي، لكنها جميعها تشكل المنظومة الإقليمية المترابطة . لذا يصعب على أي دولة في المنطقة أن تخرج نفسها من النزاعات الأخرى .
لكل دولة عربية اليوم مشكلة مفتوحة على حدودها، ومشكلة مفتوحة داخلها، ما يضطر هذه الدول إلى التدخل بعضها ببعض حفظاً لأمنها الوطني . على الأقل هناك دوائر واقعية الآن تجعل من سوريا محور النزاعات الدائرة حولها، وكذلك المملكة العربية السعودية ومصر . لا تستطيع مصر تجاهل مشكلة فلسطين ولا دول مجرى النيل، ولا السعودية ما يجري في العراق واليمن . ولا سوريا ما يجري في لبنان وفلسطين والعراق والأردن . وليس مغالياً القول إن الفوضى الإقليمية التي بدأت لحظة الاحتلال الأمريكي لأفغانستان تطرح تحديات تشترك فيها تركيا وباكستان وروسيا والصين وإيران، وإن ترابط الأزمات يفرض نفسه أمنياً وسياسياً قبل أن نتحدث عن الأزمة المالية العالمية وتأثيرها في كل مكان من العالم . طبعاً يكاد المغرب العربي يغرق بمشكلاته الداخلية والحدودية الصغيرة، لكن المشرق العربي دخل في أزمات كيانية مع تحديات الأمن الوافدة من دول الجوار، ومع انتشار حركات التطرف والعنف ومع انبعاث الهويات الفئوية التي تطرح نفسها بديلاً عن الدولة القُطرية الحالية .
هكذا صارت الحدود السياسية لأي دولة عربية تقع عند خط المشكلات التي تؤثر في مستقبل كيانها وشرعيتها، فلا تستطيع دولة كالمملكة السعودية أن تتجاهل الأزمة اللبنانية ولو من مسافة بعيدة . ولا تستطيع سوريا أن تتجاهل أزمة اليمن أو سواها . بل إن أزمة مالية تقع في دولة عربية تؤثر في العمالة العربية والاستثمار وتؤثر في احتمالات انتهاج سياسات عربية تجاه التطورات الإقليمية والدولية .
قد يفيد هذا التحليل في الاستنتاج أن النظام الإقليمي يحتاج إلى معالجة أبعد من حدود العالم العربي، وهذه حقيقة مؤكدة . فلا يمكن ضمان أمن الخليج بمعزل عن الاستقرار في باكستان، أو ضمان أمن سوريا بمعزل عن الاستقرار في تركيا . ومن الضرورة بمكان تطوير العلاقات بدول الجوار من منظور الأمن والاقتصاد . لكن الحقيقة البديهية أن العالم العربي هو الدائرة الوسطى التي تضغط عليها الدول المجاورة، وهو بحاجة إلى تطوير سياسات التعاون والتكامل ولو في الحد الأدنى من الشمال الإفريقي، إلى الخليج، إلى المشرق أو بلاد الشام . ولن يقوم تعاون عربي جدي ومثمر ما لم يحصل تأسيس لتفاعل اقتصادي عميق يسهم في ردم الهوة والاختلالات والتشوهات في الاقتصاد العربي .
إن بعض مظاهر الأزمات المالية هنا أو هناك مردها الاستثمار الرأسي الموضعي المقيّد بأسواق محدودة وغير المنفتح على احتمالات التوسع في المدى الإقليمي والعربي تحديداً . ومن مظاهر الخلل أن يكون لبنان المأزوم اقتصادياً يحظى بحجم كبير من الودائع لكن ليس لهذه الودائع من استثمارات سوى في السوق العقاري، الذي بدأ يشي بتطورات سلبية على القضايا الاجتماعية . هناك مدن في العالم العربي للتجارة والخدمات من دون مدن صناعية . هناك مدن فاحشة الثراء وسط بيئات اجتماعية محيطة فقيرة . من هذه المناخات تولد الكثير من المشكلات الاجتماعية التي تتحول إلى مشكلات سياسية داخل كل بلد وبين البلدان العربية، ويصبح الانقسام أو الاختلاف السياسي السطحي أحياناً مدعاة لتطوير لغة عدائية بين شعوب لديها مصالح وهموم مشتركة .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى