استعادة إرث الماضي الثقيل
الموقف الديمقراطي
نشهد منذ عام تقريباً منعطفات حادة في مسيرة حقوق الإنسان والحريات في سورية التي انحدرت إلى مستويات متدنية جداً لم تشهد البلاد نظيراً لها منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي،
ويمكن رصد عدد هائل من التجاوزات في المستويات كافة. إذ فاقمت السلطة من نهجها الأمني في التعاطي مع المجتمع، وكانت ثنائية الطوارئ و الفساد ركيزة أساسية في ممارساتها التي أدت إلى المزيد من التدهور في أوضاع حقوق الإنسان واتساع دائرة الفقر والبطالة في آن معاً.
لم تقم الحكومة بأية تعديلات قانونية ذات دلالة فيما يخص احترام حقوق الإنسان، إذ لم تقدم على خطوة إيجابية واحدة بهدف تعديل الإطار التشريعي المضاد للحريات كافة، بل على العكس، أصدر رئيس الجمهورية مرسوماً تشريعياً برقم 64 تاريخ 30 سبتمبر 2008، الذي أثار استياءً واسعاً في الأوساط الحقوقية والسياسية، نظراً لما يشكله من تكريس للمنظومة القانونية التي تعزّز ممارسة التعذيب بحق السجناء والمعتقلين وحماية العناصر الأمنية من الملاحقة القضائية وإهدار حقوق الضحايا، إذ قضى هذا المرسوم بمنح عناصر الشرطة وشعبة الأمن السياسي والجمارك حصانة لم يسبق أن منحت لهم منذ تأسيس الدولة السورية، حيث نصت مواد المرسوم على حصر قرار ملاحقة عناصر الشرطة والأمن السياسي والجمارك المتهمين بممارسة التعذيب بالقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، رغم إنهم يتبعون إدارياً لوزارة الداخلية.
توسعت حالات منع السفر لتشمل عدداً كبيراً من النشطاء المدنيين والسياسيين في سوريا، حتى أصبحت تقريبا آلية روتينية تترافق مع أول نشاط يقوم به أي شخص كان، ولم يشفع للكثيرين كونهم انقطعوا عن النشاط العام بشكل نهائي منذ سنوات. وصعدت السلطات من وتيرة هجومها على نشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني هذا العام، فاعتقلت العشرات وأعادت اعتقال بعض الناشطين الذين اعتقلوا سابقاً في خطوة لإخماد النشاط الحقوقي والمدني الذي انتعش في السنوات الماضية.
وتستمر السلطات السورية للعام السادس والأربعين على التوالي في احتكار وسائل الإعلام كافة، المقروءة والمسموعة والمرئية، إضافة إلى بقاء البيئة القانونية لممارسة العمل الصحفي كما هي، رغم الوعود الحكومية بإجراء التعديلات، ولا زال قانون المطبوعات رقم 50 تاريخ 2001 يشكل عائقاً كبيراً في هذا المضمار، خاصة أنه منح السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الوزراء صلاحيات مطلقة فيما يخص ترخيص المطبوعات أو رفضها، إذ ترك هذا الأمر لتقديرات رئيس الوزراء لمدى موافقة ذلك للمصلحة العامة!. ولا يزال تشديد الرقابة على مقاهي الأنترنت معمولاً به سواء من جهة إجراءات الترخيص ولزوم موافقة شعبة الأمن السياسي في وزارة الداخلية، أو من خلال إلزام أصحاب مقاهي الأنترنت بضرورة تسجيل البيانات الشخصية لمستخدمي الأنترنت في محلاتهم والاحتفاظ بسجل يومي بذلك، وإلزامهم بتسليم هذا السجل إلى مندوبي الأجهزة الأمنية عند حضورهم.
ويستمر الإعلان عن حالة الطوارئ منذ الثامن من آذار 1963، ويستمر إلى جانبها العمل بالقوانين والمحاكم الاستثنائية، ويمكن رصد المئات من الأحكام الصادرة عن محكمة أمن الدولة العليا، وهي المحكمة غير الدستورية المفتقرة لأبسط معايير المحاكمة العادلة, كما يمكن رصد العديد من الأحكام الصادرة عن القضاء العسكري الاستثنائي بحق العديد من الناشطين السياسيين والحقوقيين، أما القضاء العادي فإنه عندما يفقد استقلاليته يتحول في كثير من الأحيان إلى قضاء استثنائي، ويصبح مثيراً للسخرية عندما يوجّه للناشطين تهماً مضحكة مثل جناية النيل من هيبة الدولة، وإضعاف الشعور القومي، وإذاعة أنباء كاذبة تنال من هيبة الدولة، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعنصرية، والحض على النزاع بين الطوائف، وغيرها!.
واستناداً لهذه التهم المضحكة لا زال النظام مصراً على استمرار اعتقال مجموعة من خيرة المثقفين والسياسيين في سورية، وهم من أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، ويستمر اليوم في الطريق ذاته من خلال ملاحقاته لنشطاء المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، وكان من بينهم المحاميان هيثم المالح ومهند الحسني، ويبدو أن نهج الاعتقال مستمر ليطال آخرين غيرهم في خطوات غايتها تجريد المجتمع من نشطائه وتهديم أية فعاليات مستقلة وخنق كل صوت معارض.
وتستمر عمليات التعذيب وإساءة المعاملة كوسائل تحقيق معتمدة في أقسام الشرطة ومراكز التوقيف المختلفة والفروع الأمنية، ومازالت سورية تعتبر من الدول التي يمارس فيها التعذيب بشكل منتظم، خاصة بوجود مراسيم تشريعية تحمي مرتكبي جرائم التعذيب من الملاحقة القضائية، وكان آخرها المرسوم التشريعي 64 السابق الذكر، وما شكله من إضافة قانونية في تعزيز ممارسة التعذيب والإفلات من العقاب.
وتأتي أحداث سجن صيدنايا التي راح ضحيتها العشرات من القتلى، ويستمر التعتيم على هذا الحدث في دولة “الشفافية”، ولم يصدر بيان رسمي حول نتائج إنهاء حالة العصيان في السجن، والكشف عن أسماء الضحايا والمصابين من الطرفين، وظلت زيارة أهالي المعتقلين في السجن ممنوعة حتى فترة قريبة، ولم يحاسب أي من المسؤولين عن هذه الجرائم. فضلاً عن ذلك لا تزال السلطات السورية على موقفها من تجاهل الكشف عن مصير آلاف المفقودين في السجون والمعتقلات السورية (حوالي سبعة عشر ألفاً) منذ عقد الثمانينيات، ولا تزال ماضية في إنكار حقوق عشرات الآلاف من المهجرين في العودة الآمنة لوطنهم وفي الاعتراف بشخصياتهم القانونية وحقوقهم المدنية ورفع الحجر عن ممتلكاتهم المحجوزة في البلاد.
رغم أن مسألة تعديل قانون الجمعيات المعمول به (رقم 93 لعام 1958) مطروحة منذ العام 2000، إلا أن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، فلا زال هذا القانون هو الحاكم للجمعيات القائمة، وللجمعيات الجديدة الساعية باتجاه الترخيص، رغم الأثر السلبي الكبير لهذا القانون على العمل المدني في سوريا، فهو يحظر، كما هو معروف، على الجمعيات القيام بأنشطة تخالف “النظام العام”، وهذا تعبير مبهم وفضفاض، يسهِّل على الحكومة ممثلة بوزارة الشؤون الاجتماعية التدخل في مجريات عمل الجمعية، ويمنحها سيطرة تامة تخوِّلها منح الترخيص للجمعية من عدمه، ويطلب من الجمعيات تقديم خططها السنوية للحكومة مقدماً لأخذ الموافقة عليها، كما يحق للمسؤولين الحكوميين حضور اجتماعات الجمعية، ويسمح للوزارة باستبعاد مجلس إدارة أي جمعية واستبداله بمسؤولين من الدولة، وبحل أي جمعية ترتكب مخالفة من وجهة نظر الوزارة، كما يسمح للحكومة بالاطلاع على السجلات المالية للجمعيات في أي وقت ودون أي سبب أو أمر قضائي. ولا شك أن هذه الإجراءات تصعِّب على الجمعيات القائمة العمل بشكل مستقل بعيداً عن الحكومة، وتضيِّق على إمكانية إحداث جمعيات جديدة. وبالطبع تستند وزارة الشؤون الاجتماعية في رفضها أو قبولها لترخيص الجمعيات وتسجيلها إلى معايير سياسية – أمنية، ومرجعيتها في ذلك الأجهزة الأمنية، وهو أمر محجل حقاً.
تفتقر سورية “التطوير والتحديث” أيضاً إلى أهم مظاهر الحياة المدنية، أي التجمع والتظاهر، ورغم أن هناك أسباب موجبة حقيقية في الوضع الاقتصادي والمعيشي تستدعي التجمع والتظاهر والعمل الشعبي والمدني (كارتفاع أسعار المازوت 400%، وحالات انقطاع الكهرباء لفترات طويلة وبأوقات غير محددة) إلا أننا لم نشهد حراكاً من أي نوع ومستوى بسبب الحظر المفروض على النقابات والمجتمع المدني برمته، وتستمر السلطات على نهجها في قمع التجمعات السلمية، وغالباً باستعمال القوة المفرطة غير المبررة.
يتميز المجتمع السوري بتنوعه وغناه في انتماء أفراده بالمعنى القومي والديني والمذهبي، إلا أنه يجري إنكار هذه المكونات نظراً لهيمنة أيديولوجية حزب البعث على الدولة والمجتمع، وهذا ساهم في تعزيز مناخ ثقافي أيديولوجي يقوم على التمييز العنصري، فالأكراد مثلاً الذين تقدر نسبتهم بحسب أكثر من مصدر بين 9 – 11% من تعداد السكان، يعانون من غياب التمثيل السياسي، وفرض القيود الصارمة على حياتهم الاجتماعية والثقافية، ولا يزال هناك ما يزيد عن مائتي ألف كردي من فئة المكتومين والمجردين من الجنسية.
وجاء صدور المرسوم التشريعي رقم 49 بتاريخ 10/9/2008 ليزيد من سوء أوضاع السوريين الأكراد، وهو المتعلّق بتقييد عمليات البيع والشراء العقارية في المناطق الحدودية، لإرغام البائع والشاري بالحصول على الترخيص الأمني بقرار من وزير الداخلية، ولتصبح الجهات الأمنية وصية على ممتلكات المواطنين من أبناء المناطق الحدودية، وكان السوريون الأكراد أكثر المتضررين. فالمرسوم أدى إلى توقف النشاط الاقتصادي في المحافظة، حيث باشر أصحاب رؤوس الأموال العقارية بنقل أنشطتهم وفعالياتهم إلى المحافظات الأخرى، وهناك عدد كبير من الأسر هيأت نفسها للانتقال إلى محافظات أخرى سعياً وراء الرزق ولقمة العيش.
كما كانت الفترة الماضية حافلة بالاعتقالات في صفوف الناشطين والمواطنين الأكراد، وتجاوزت إلى حد كبير مستويات الاعتقال في الأعوام السابقة، ويكفي إلقاء قصيدة شعرية أو ارتداء ملابس كردية فلكلورية أو العمل مع فرقة فنية كردية كسبب للاعتقال، أما النشطاء الأكراد فيعتقلون عموماً بتهمة الانتماء إلى جمعية سرية تهدف إلى سلخ جزء من سورية وضمه إلى دولة أجنبية، أو إثارة الشغب والحض على النزاع بين عناصر الأمة.
خرج إلى العلن كذلك مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية بتاريخ 5/4/2009 تمهيداً لإقراره. وكانت الآمال معقودة على خروج هذا القانون بشكل يتواكب مع التطورات الحضارية، لا أن يعود المشروع إلى لغة ما قبل المواطنة ويفرِّق ما بين المواطنين على أساس الدين، ويعتبر هذا المشروع متخلِّفاً عن القانون الحالي الذي يحتاج إلى التعديل والتطوير. المشروع الجديد يصنِّف المواطنين على أساس طوائفهم ومذاهبهم وأديانهم، ويغيِّب الكينونة المستقلة للمرأة، وينظر إليها فقط من خلال تعابير لمجتمع ذكوري مغرق في تخلفه (الزوجة، البكر، الأرملة، الزانية… إلخ)، ورغم أن المشروع جرى سحبه من التداول إلا أن طريقة صدوره ونهجه يدللان على التعاطي السلبي للسلطة مع حاجات الداخل ومقتضيات الإصلاح، ففي كل تحرك أو سلوك أو قرار للسلطة الحاكمة تتكثف معظم آليات الشمولية، حتى عندما يكون الظاهر إلى العيان هو نوع من “الإصلاح” على حد تعبير السلطة وأجهزتها، فأين أصبحت سورية حقاً بعد عقد من الزمن على الدعوة الإصلاحية؟
أين أصبحت سورية بعد عقد على الدعوة الإصلاحية؟
لقد كانت رحلة السنوات التسع الماضية رحلة التنكر للشعارات المطروحة، ورغم أن المسؤولين يعلنون، مراراً وتكراراً، أن الإصلاح يسير على قدم وساق، إلا أن واقع الحال آخذ في التردي بشكل متسارع، فقد وصلت أحوال البلد إلى وضع هزيل على مستوى الحريات السياسية والمدنية والبنية المؤسساتية، إذ يورد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 مؤشرات متدنية سلبية للنوعية المؤسساتية في مجالات التمثيل والمساءلة، الاستقرار السياسي، فعالية الحكومة، النوعية التنظيمية، حكم القانون، ضبط الفساد، ونوعية المؤسسات، واحتلت سورية المركز 17 عربياَ والـ 147 عالمياً في تصنيف الدول على مؤشر الفساد في القطاع العام والخاص، الذي أصدرته منظمة الشفافية العالمية. وصنفت منظمة “مراسلون بلا حدود” سورية في تصنيفها العالمي الذي صدر في أكتوبر 2008 في المرتبة 159 من أصل 173 دولة شملها التصنيف من حيث حرية الصحافة. وقامت الحكومة بالتضييق على جمعيات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني الأخرى بحجب مواقعها الإلكترونية، وحجب العديد من المواقع التي تهتم بالشأن السوري، حتى أن منظمة Article 19 صنّفت النظام السوري في وقت سابق ضمن الأنظمة العشرة الأكثر عداءً للإنترنت في العالم.
أطلقت السلطة قبل عقد من الزمن تقريباً شعار “محاربة الفساد” الذي انتهى اليوم في الواقع إلى تعميم الفساد وتعميقه، فقد عملت جهات عديدة في النظام ضمن خطة مدروسة على تقليم أظافر الإصلاح المطروح والمطلوب، فمن استبعاد الشق السياسي في الإصلاح أولاً، إلى الانتقال من مفهوم الإصلاح إلى مفهوم التطوير والتحديث ثانياً، وأخيراً إلى إفراغ الأخير من مضمونه عن طريق حصره في إطار إجراء بعض التعديلات الإدارية، وما تبع ذلك من إعادة شخصنة السلطة وإعادة إلباسها عباءة العهد الماضي، لرفعها إلى مستوى المقدس ومنع مساءلتها ونقدها.
رغم كل ذلك، فإن السلطة، بعد ظهور عجزها عن الإصلاح جلياً، لم تقم بإعادة النظر في رؤيتها التي استندت إلى فصل عميق بين الاقتصاد والسياسة، ولم تقر بأن الفشل الاقتصادي والعجز الإداري وترهل الدولة إنما هي النتائج المباشرة لبنيان سياسي مترهل وفات أوانه، وأن إصلاحها يتطلب وجود إرادة حقيقية من السلطة، وتوافقاً اجتماعياً حول الآليات والأهداف المبتغاة. بمعنى آخر فإن كل الخراب الذي عاشته البلاد على مدار أربعة عقود، ولا يزال حاضراً بقوة، ما هو إلا نتاج خيارات سياسية محددة، في مقدمتها نموذج وأسلوب ممارسة الحكم، الذي يعتبر العمل الأول في تشكيل أخلاق الناس ووعيهم وسلوكياتهم.
الواضح بعد تسع سنوات مضت، أن أمرين اثنين يحكمان الوضع الداخلي السوري، الأول هو بنية النظام السياسي المغلقة والمضادة للإصلاح، إذ كانت شبكة المصالح، على ما يبدو، أقوى من رغبات بعض الإصلاحيين في النظام السياسي الحاكم، وهو ما أدى لانتشار حالة عامة من فقدان الثقة بالوعود المعلنة. الثاني أن السلطة لا تملك برنامجاً للإصلاح، وطرح الإصلاح بالطريقة التي تم فيها ليس إلا من باب الحفاظ على امتيازات قائمة، يتعارض استمرارها مع أي إصلاح من أي نوع ومستوى.
أما على مستوى المعارضة، فعلى الرغم من أزماتها وإشكالياتها العديدة، بل وقصوراتها في ميادين عديدة، كان أداء الجسم الأساسي من النخبة السياسية والثقافية والمجتمع المدني فيها إيجابياً خلال السنوات التسع الماضية، وكان الخطاب المستخدم والسلوك المتخذ متوازنين، قياساً بما عاشته سوريا من ظروف عصيبة في الثمانينيات. وقد تأكد ذلك التوازن لدى المعارضة بدعوتها للمصالحة الوطنية والتدرج في الإصلاح، وإدراكها لعدم إمكانية التجاوز السريع وتخطي التركة الثقيلة دفعة واحدة، إلا أنها ما فتئت تؤكد أن الإصلاح السياسي، بما يتطلبه من إعادة الاعتبار لسيادة القانون وإرساء الديمقراطية كمبدأ ناظم لعلاقة السلطة بالمجتمع وللعلاقة بين القوى السياسية المختلفة، هو البوابة الحقيقية والوحيدة لكل النوايا الإصلاحية الراغبة بتأكيد صدقها وقدرتها على التحقق في الواقع.
لا شك أنه حدثت بعض الأخطاء والتجاوزات، لكنها طبيعية في سياق العمل، ولا يصلحها ويعدِّلها إلا المزيد من الحوار والمزيد من العمل، تماماً كما لا يمكن إصلاح أخطاء الديمقراطية إلا بالمزيد من الديمقراطية. أما السلطة فقد قابلت دعوات المعارضة الهادئة والرزينة بالاعتقال، والمزيد من الاعتقال، حتى باتت وكأنها مغرمة باستحضار ماضٍ ثقيل اعتقد السوريون لبرهة من الزمن أنه ولّى واندثر! فهل مازال هناك معنى للحديث عن الإصلاح؟!
المخرج الديمقراطي والأدوار المطلوبة
اليوم، في الوقت الذي يتعملق فيه الفساد ليس لدى السلطة ما تقدمه، ويغيب عن الساحة وجود برنامج حقيقي وجدي للتغيير، أو خطة إصلاح واضحة ومعلنة، ويعود من جديد الخطاب الذي يؤكد سلامة أوضاع البلاد والعباد، ويتضح أكثر فأكثر أن الأمور تسير في طريق إعادة إنتاج الماضي الثقيل بأدوات وأشكال جديدة.
هذا ما كان خلال الفترة الماضية، ولكن ماذا عن اللحظة السياسية الراهنة بكل تشابكاتها وتعقيداتها الداخلية والخارجية؟.
لازال الإصلاح مشروعاً راهنا وضرورياً، خاصة وأن الساحة السورية حبلى بقوى وطاقات لها مصلحة حقيقية في التغيير الوطني الديمقراطي وتسعى باتجاهه.
هناك لحظات فاصلة في حياة جميع المجتمعات تقرّر فيها طرح مفاهيم “التغيير” و”الإصلاح و”الانتقال الديمقراطي”، وغيرها..، ومهما اختلف في تحديد مضمون هذه المفاهيم ومستوياتها، إلا أنها جميعاً تشكل دعوات معتدلة لمحاولة النهوض والارتقاء بالأحوال العامة، فالمشكلة ليست في طرح المفاهيم، بقدر ما هي في التوافق حول طبيعة المشاكل التي يعاني منها المجتمع ومستوياتها وآليات تجاوزها.
لا نريد العودة للوراء للجدال حول أي نوع من الإصلاح ينبغي أن يتصدر قائمة العمل المطلوب، فالسلطة وضعت أولويات عديدة لم تلتزم بها، ولم تنتج في أي منها. لكن نقول إن كل “الإصلاحات” بجميع مستوياتها وأنواعها مطلوبة وضرورية، فالإصلاح جملة مترابطة من الإصلاحات التي تتناول مناحي الحياة المختلفة، وما “التغيير الوطني الديمقراطي” الذي تطرحه المعارضة إلا تعبير عن هذه الترابطات، فهو مضمون الإصلاح الحقيقي، وهو لذلك بالضرورة فعل متدرّج وتراكمي وسلمي، ولئن كانت قضايا الحريات السياسية تتصدر قائمة مطالب المعارضة فلأنها، منطقياً وواقعياً، المدخل للإنجاز الحقيقي على الصعد كافة كما أثبتت التجارب الفاشلة لأولويات السلطة المتغيرة.
في محاولة استكشاف “القوى” التي تقع عليها مسؤولية إطلاق سيرورة التجاوز والتغيير، يمكن القول، منطقياً وواقعياً، وبمعزل عن التجربة المريرة مع السلطة خلال أربعة عقود خلت، إن النخبة الحاكمة تتحمل الجزء الأكبر منها، كون الوضع الحالي هو من صنع يديها أولاً، وكونها الطرف الأقوى الذي يمتلك القدرة على المبادرة في هذا الاتجاه ثانياً. لذلك سيكون الإصلاح بعيد المنال ما لم تعلن السلطة حقيقة وقوفها إلى جانبه، وتعهدها بالسير على طريقه. هذا الإقرار بالحقائق الواقعية أساسي، فالتغيير والإصلاح في سورية إما أنه يأتي بمبادرة جادة من السلطة، وعندها تكون الآلام والمخاطر المرافقة بالضرورة أقل، وإما أن يأتي بدونها، لكن ذلك يحتاج إلى جهود أكبر وتكتنفه مخاطر أعلى ويتطلب زمناً أطول، وفي كلتا الحالين سيكون للمعارضة دور أساسي وحيوي.
في اللحظة الراهنة، وباستحضار الطريق الأولى للتغيير والإصلاح، أي بوجود دور رئيسي للسلطة في التغيير والإصلاح، يمكن القول إن الشروط الواجبة للإصلاح والتغيير معروفة وواضحة، وغياب أي منها يعني في المآل غياب الإصلاح والتغيير وتمضية وقت مجاني إضافي من عمر البلد وأهله، فكل شرط من الشروط الآتية يدعم البقية ويعطيها المعنى والجدوى، وغياب هذا الشرط أو غيره يترك الشروط الأخرى بلا دور ولا فعالية.
توافر إرادة حقيقية لدى السلطة هو الشرط الأول، لكنه يبقى بلا معنى دون تعييناته على الأرض، إذ لا يكفي فيه مجرد إعلان النية أو طرح الشعارات، وبالتالي تأتي مصداقيته من خلال جملة من الأوليات الضرورية التي تعتبر بمثابة خطوات لإعادة إرساء ثقة المجتمع ومكوناته السياسية والاقتصادية بالسلطة القائمة، وفي مقدَّمها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وطي ملف الاعتقال السياسي بشكل نهائي، وكف أيدي الأجهزة الأمنية عن ممارسة الترهيب والتخويف والاعتقال والتدخل في الحياة السياسية والمدنية خارج دائرة القانون والرقابة الشعبية.
الشرط الثاني هو الرؤية التي تسند العملية الإصلاحية والهدف المبتغى منها، فالإصلاح ينبغي أن يكون عميقاً وشاملاً، فلا يجري اختزاله، ولا تحوير أهدافه بحيث يتناسب مع مصالح أقلية متنفذة. أما تحديد ماهيته ووضع برنامجه العملي والزمني، ومناقشة وإقرار أبعاده وتحديد الضمانات والآليات اللازمة لتأمين تحول تدريجي سلمي، والتقليل من المخاطر وامتصاص الصدمات فإنها مسؤوليات تتطلب مشاركة كافة القوى السياسية والاقتصادية والمجتمعية. أما الشرط الثالث فهو وجود المجتمع الفاعل الذي لا يقف موقف المتفرج، فلابدّ للإصلاح من أن تقوم به القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة فيه، وهنا لا يمكن للبشر أن تًّحول الأهداف المعلنة إلى أعمال وحقائق واقعية ما لم تطلق إرادتها وتستعيد حقوقها وقدراتها على المبادرة والحراك وإبداء الرأي. ليس هناك إصلاح دون البشر، والسلطة التي تعلن عن نيتها الإصلاح، دون رأي البشر وفعلهم وتوافقهم، لن تصل إليه، وطالما ظلت السلطة تعتبر الإصلاح أمراً يخصها وحدها، دون المجتمع الذي يجب أن يبقى بعيداً، فسوف لن يكون هناك إصلاح.
وباستحضارنا للطريق الأخرى، أي الطريق التي تبقى فيها السلطة عقبة أمام الإصلاح وتصر على نهجها الذي أرسته خلال أربعة عقود، هنا يمكننا القول إن للمعارضة السورية طريقها ورؤيتها للإصلاح والتغيير، وهي إن كانت تضع الملامح السابقة للخروج من حالة انسداد آفاق التغيير اليوم بتحميل السلطة مسؤولية إطلاق مبادرة إيجابية نحو المجتمع وقواه السياسية كخطوة أولى على طريق الإصلاح والتغيير، فهذا لا يعني البتة أنها تقف في ساحة الانتظار، بل إنها ستعمل على الدوام بكافة الوسائل السلمية، على استحضار مستقبل ديمقراطي لسورية قوية وحرة بشعبها إزاء إستحضار السلطة الدائم لماضيها الثقيل، وتعميم هذا المستقبل الإيجابي في روح وعقل السوريين جميعاً، وتعزيز إرادتهم في العمل على تجسيد هذا الطموح المشروع واقعاً جديداً ينعم فيه جميع السوريين. ولعل أهم أدوارها اليوم يتمثل في السعي المتواصل باتجاه وحدتها، وإعادة ترتيب بيتها الداخلي، واستعادة العنفوان الذي بدأت به قبل تسع سنوات، وتجاوز القصور الذي اكتنف أساليب عملها آنذاك، وإعادة بنائها من منظور أشمل، وبمشاركة أوسع، استناداً للمصالح الوطنية العليا، وبهدف إنتاج التقدم في حياة البلاد والعباد، خاصة في ظل إدراكها أن السوريين باتوا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى الأمل في التغيير في أي مستوى من مستوياته.
العدد 113 – التجمع الوطني الديمقراطي