في حركة الإصلاح الديني ودور المثقف الوطني
أبي حسن
سبق للباحث السوري محمد كامل الخطيب أن وضع كتاباً بعنوان “آخر أخبار المسألة الشرقية. ما زال الرجل مريضاً”، المسألة الشرقية المعروفة في القرن التاسع عشر، استحضرها الخطيب، منذ قرابة الثلاث سنوات، بغية تسليط الضوء على الراهن الذي لا يراه سوى امتداد واستمرار للماضي الذي هو المسألة.
ولئن لم يكن المريض الذي عناه باحثنا حينها السلطنة العثمانية، بل العرب الذين ورثوها وأمراضها معاً، غير أني سأنطلق في قراءتي هذه للحاضر/الراهن، معتمداً السرد التاريخي لمحاولة فتح نوافذ وكوى على الحاضن لتاريخ المسألة التي عناها الخطيب، وهي مسألة ما برحت تؤرقنا جميعاً، وأعني بالحاضن هنا العوامل الاقتصادية الداخلية والخارجية والاجتماعية أو بعضها، وبنسبة أقل الثقافية التي كانت سابقة وملازمة للمسألة التي باتت مسألة عربية بامتياز أكثر منها شرقية، لأنتهي بمآل ما كان يُعرف بالمثقف الوطني.
يمكننا أن ننطلق في حديثنا عن أسباب تخلفنا(أو بعضها) من سؤال مشروع فحواه: هل كان هناك إصلاح ديني إسلامي حقاً عبر تاريخنا؟! نطرح سؤالنا قياساً بتاريخ مصطلح(حركة الإصلاح الديني) المأخوذ من التجربة المسيحية ـ الأوربية، ومن حركة الإصلاح البروتستانتي تحديداً، ذلك الإصلاح المقترن بصعود الرأسمالية الأوربية.
يشير بعض الباحثين العرب إلى أنّ أول محاولة إصلاح ديني عرفها المجتمع الإسلامي، كائنة في كتاب حاجي خليفة(دستور العمل لإصلاح الخلل ـ 1653)، ومن بعدها جرت بضع محاولات للإصلاح الديني في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وانطلاقاً من تلك المحاولات يمكننا أن نخلص إلى عدد من الآراء، القابلة للنقاش، التي قد يكون من شأنها أن تساهم في الإصلاح الديني.
فمثلاً نحن نحتاج فعلاً إلى تغيير اجتماعي وفكري عام في وضعية المجتمع ونمط إنتاجه ورؤيته الزراعية ـ الدينية القديمة، قياساً على التجربة الأوربية الحديثة التي لا مثال غيرها في ظروف عدم وجود تجربة محلية جديدة أو تجربة عالمية أخرى! وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن نقوم بإعادة نسخ التجربة الأوربية تاريخياً، إذ نحن لسنا بحاجة إلى مثل ذلك النسخ، فبغض النظر عن أن العامل الزمن ليس في صالحنا من الأجدى لنا أن نبدأ من حيث انتهى إليه الغرب الأوربي، بمعنى أن نقطف الثمار من بستان الإصلاح الأوربي، وضمن ذلك الديمقراطية، والمساواة الاجتماعية، وسيادة القانون، ودولة المؤسسات، والعمل على تبيئة هذه المفاهيم وتوطينها في مكان الاستبدادين اللذين اختص بهما الشرق: الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، علينا أن لا نغفل أثناء قيامنا بالقياس على التجربة الأوربية، مسألة خلو الدين المسيحي من الفقه، الأمر الذي سهل على الإصلاحيين المسيحيين (لوثر، كالفن، توما الإكويني…) مهمتهم، على عكس الفكر الإسلامي ـ وأقول الفكر متعمداً ـ القائم حالياً على الأقل على مسألة الفقه، مع إدراكنا أنه من صنع البشر ولا تنطبق عليه قدسية النص.
لا شك أن القيام بالإصلاح الديني المنشود، يتطلّب تغييراً اجتماعياً وفكرياً عاماً في وضعية المجتمع ونمط إنتاجه ورؤيته، هو تغيير مهم وأكثر من ضروري، كما أنه مطلب مشروع وملح.
لكن مرة أخرى إذا أردنا إسقاطه –أي الإصلاح الديني- أو قياسه على التجربة الأوربية، فسنصطدم بحقيقة مفادها أن الفيودالية الغربية(الإقطاعية الغربية) لعبت دوراً إيجابياً ومساعداً في عملية الانتقال بالمجتمع الغربي من مرحلته الإقطاعية إلى المرحلة البرجوازية، ومن ثم الرأسمالية، وهذا كله ساهم في خلق بنية اجتماعية عقلانية نيرة، على عكس الدور الذي لعبته الفيودالية(الإقطاعية الشرقية) الذي كان دوراً معرقلاً، مما ساهم في حرمان المجتمع الإسلامي من إيجاد بنية جمعية عقلانية نيرة تفرز مفكرين قادرين على إجراء الإصلاح الديني المنشود، وإن وجدوا فهم قلة، كظاهرة د. محمد شحرور التي سنتطرق إليها لاحقاً. وبسبب حرمان المجتمع من تلك البنية الاجتماعية الجمعية العقلانية ظل مجتمعاً يرفض إجراء أي إصلاح، ومهما كان نوعه، إذ استعذب العيش في سجون المنظومة المعرفية(الفقهية) التي تم إنتاجها في فضاء القرنين الثاني والثالث الهجريين وإلى حد ما الرابع الهجري، والتي ما زالت تعيد إنتاج نفسها إبستيمياً(معرفياً).
قد تكون عقلية المجتمع الإقطاعي التي ما زالت تسكننا هي التي تجعلنا نعيد إنتاج الماضي معرفياً، متجاهلين دعوة أو مقولة الإمام محمد عبده: “تفسير النص ليس حكراً على شخص دون غيره، وبإمكان أي منا أن يفسره وفقاً لأدواته المعرفية ولإمكاناته، وبما يناسب عصره”. بمعنى أن عبده ميّز بين الفقه الذي هو نتاج بشري، وبين النص القابل للتطويع وفقاً للمصلحة المجتمعية عبر سيرورة التاريخ، مستنداً في ذلك إلى مقولة الإمام علي: “النص حمّال أوجه“.
مرة أخرى في ما يخصّ الإصلاح الديني هناك من رأى أنه عبارة عن حركة انتقاد فكري جذري للدين، بوصفه طريقاً، أو بوصفه نظرية في المعرفة… (مثل هذه المحاولات نجدها عند إسماعيل مظهر وسليم خياطة من خلال مقالات لهما في مجلتيهما “العصور” و”الدهور” اللتين ظهرتا في أواخر عشرينات القرن الماضي وأوائل ثلاثيناته، وكذلك في كتاب “نقد الفكر الديني” لصادق جلال العظم 1968..)، لكن من شأن هذا كله أن يصل بنا إلى رأي مضاد مفاده أنه لم تقم حركات إصلاح ديني معرفي، أو كانت هذه الحركات ضعيفة وتستلهم الماضي أكثر مما تستلهم المستقبل! وإن وجدت فهي قليلة ونادرة كظاهرة محمد شحرور في سوريا الذي تقوم قراءاته للنص على قطيعة معرفية مع التراث، ويتكئ قبالة تلك القطيعة المعرفية على العلوم العصرية الحديثة بما فيها علم الرياضيات.
من جانب آخر نجد أن محمد شحرور هو أول من فرّق بين مقامي الرسالة والنبوة، قائلاً: إن المسلمين ملزمون بطاعة محمد الرسول لا طاعة محمد النبي، وإن ما قام به محمد النبي من اجتهادات أثناء بنائه لدولته لسنا ملزمين بها نهائياً، فقد كان تصرفه هذا نابعاً من مقام النبوة، في حين يدخل في سياق مقام الرسالة الصلاة والزكاة والحج الخ… أي كل فعل يكون محمد الرسول هو من قام به للمرة الأولى.
وفي السياق ذاته، وإن كان من وجهة نظر مختلفة، يمكننا أن نقرأ أعمال المفكرين العلمانيين الذين تناولوا التراث كحسين مروة وطيب تيزيني ومحمد عمارة(قبل أن يصبح شيخاً رجعياً) الخ.. على أنها شكل من أشكال الإصلاح الديني، وان كانت القسرية الفكرية(إن جاز التعبير) هي القاسم المشترك بين أعمال أولئك المفكرين، كأن يصبح ابن رشد ماركسياً وابن سينا يكاد يكون لدى بعضهم شيوعياً.. بهذا المعنى هم أخضعوا التراث إلى سرير بارادوكس(بحسب تعبير د. أحمد برقاوي). ومن نافل القول إن اهتمام من سبق ذكرهم بالتراث كان بفعل هزيمة 1967، واعتقادهم بضرورة العودة إليه بغية إعادة فهم الواقع من جديد(الواقع الذي فرضته الهزيمة النكراء) هذا من جهة، ومن جهة أخرى كي لا يبقى التراث حكراً بيد الإسلاميين الظلاميين، لكن ورغم نبل مقصدهم دعونا نرى كيف كان مآل ذلك الحراك من خلال ما ذكره ذات مرة محمد كامل الخطيب عن مثقف حركة التحرر الوطني في سوريا، وقد كان يقصد آنذاك الراحل أنطون مقدسي، إذ قال عنه بما معناه: “يبدو أنطون مقدسي، وبعد أكثر من عشرين عاماً من المعايشة شبه اليومية له، في العمل، مثقفاً وجودياً أصيلاً وحائراً، وقد يكون ممزقاً بين متناقضات، أو شبه متناقضات كثيرة، مثل: الدين والعقلانية، القومية، والماركسية..”، بهذه الرؤية يبدو له أنطون مقدسي “رمزاً حياً ونموذجاً مجسِّداً للمثقف العربي الحديث، هذا المثقف الممزق والحائر منذ بداية عصر النهضة العربية الحديثة، ما بين عالمين، أو ما بين رؤيتين للمجتمع وللوجود”، إلى أن يبدو له وكأنه علامة نبل ومعاناة وشرف، أو حساسية ثقافية مرهفة، مثل أي تمزق وجودي وفكري أصيل، لا يعانيه إلا مثقف منخرط في الحياة والفلسفة، بافتراض أن لا أحد يستطيع أن يعلو على تمزقات زمانه ومكانه، وقد يكون هذا السبب هو الذي جعل مثقفاً كأنطون مقدسي يبدأ رحلته الثقافية، في أوائل أربعينات القرن الماضي، بمقالات تحررية عن (قضية المرأة) في مجلة (الطريق) الشيوعية، ليصل في التسعينات منه إلى الكتابة عن (معجزات العذراء والقديسين)، معلناً بذلك انكسار مثقف حركة التحرر الوطني، بل معلناً انكسار مرحلة وانغلاق أفق جيل وطريقة تفكير.
عندما أتذكر مرافعة الخطيب تلك عن الراحل مقدسي من خلال إيجاد الذرائع الكافية له، لانتقاله من النقيض إلى النقيض، لا أدري حينها ماذا سنترك لعامة الناس، أولئك الذين استهوتهم المواقف الغيبية، إذ وجدوا فيها ذواتهم المغتربة عن زمانها ومكانها(وطنها) بعد أن جردتهم سلطاتهم السياسية والدينية من كل شيء سوى فقرهم وبؤسهم.
لا شك أن دولة الرفاه الاجتماعي التي تحققت في أوربا طوال الخمسين عاماً المنصرمة، وبما حققته من إنجازات جعلت من الدين(بما فيه من غيبيات) مسألة شخصية، وبالتالي لم يعد مواطنها يفكر بالخلاص الأخروي، لأن الدنيا ملك يديه، على نقيض الرعية الشرقية التي حققت لها الدولة ـ السلطة، سواء أكانت تقدمية أم محافظة، كل الشعارات التي رفعتها، لكن بطريقة معكوسة. انطلاقاً من هنا كان من الطبيعي أن تجد تلك (الرعية) الشرقية نجاتها في الدين، أملاً وطمعاً في الخلاص الأخروي، بعد أن فقدت الأمل بالعالم الدنيوي. وبذلك لا نستطيع إلا أن نعذرها محترمين، في الوقت نفسه، نكوصها هذا، في حين لا نستطيع أن نجد عذراً للمثقف النموذج الذي يجب أن يكون دوره، كما جهده، مضاعفاً في ظل واقع مترد كهذا! وإلا لحقّ لنا التساؤل: ترى هل ينبغي علينا أن نبحث عن ثقافة جديدة، ومثقفين آخرين، أم قدرنا أن نظل مؤمنين بفاعلية الكلمة، كإيماننا بواجبنا تجاه مجتمعنا؟ وهل فعلاً كما وسعت أرض الله للظلاميتين السياسية والدينية، كذلك ستتسع لنا ولأحلامنا؟ آمل ذلك.
موقع الآوان