صفحات مختارة

واجب المشاغبة وعدم الاحترام.. التحقيقات الإعلاميّة العربيّة: بين ما هو سياسيّ، والسياسات الاجتماعية-الاقتصادية

سمير العيطة
أسّس هوبير بوف-ميري شهريّة لوموند ديبلوماتيك سنة 1954، وكانت “مجلّة الأوساط الدبلوماسيّة والمؤسّسات الدولية الكبرى”. ثمّ استلمها كلود جوليان من عام 1973 حتّى 1990، فغّير وجهتها مُعيداً في الحقيقة تأسيسها، مستقلاًّ عن دائرة الأخبار الخارجيّة في صحيفة لوموند، كي يجعلها شهريّةً “للأفكار ونقاشات المجتمع والاقتصاد، مع نظرة تخصّصيّة على السياسة الدوليّة”. وقد لخّص جوليان في مقالٍ شهيرٍ له فلسفة الانتقال من الأخبار إلى التحليل والنضالات، حيث أراد الشهريّة “ملتزمة، واقفة رافعة الرأس دون مساومة ونزيهة”، وكان عنوان هذا المقال “واجب عدم الاحترام( [1]”.
يقول جوليان أنّ “خيار من يكتب يرتبط في النهاية بطبيعته وكيف جُبِل، أكثر من تحليلاته” ويتطلّب “سعياً إلى الفعاليّة عبر التأمّل”. ومهما بدا هذا السعي بين متناقضين، فهو يشكّل معضلةً حقيقيّة للخيار. فالبحث عن الفعاليّة يأخذ إلى أجواء السلطة، “والسلطة تسحُر المثقّفين كما يجذب العسل الذباب”. والسلطة تعرِف كيف تتلاعب بالمثقّفين والصحافيين وتستخدمهم. لذا فإنّ وقفة التأمّل ضروريّة للتنزّه عن الطموح الشخصيّ والذهاب، رغم كلّ شيء، إلى المعركة، تلك التي ترتبط بسلّم القيم حتّى لو كانت خاسرة مسبقاً. فقط “لأنّ حقائق السلطة، أيّ سلطة، لا يمكن أن تكون الحقائق التي يتبنّاها” ذاك المثقّف أو الصحافيّ. “فهذا هو الواجب النقدي المطلوب من كلّ من أراد أن يشاهد، ويحلّل، ويفهم، ويفسّر. أمّا التخلّي عنه فهو استسلامٌ لحريّة الفكر أمام رجال السلطة”.
هكذا كان تعريف الصحافة التحليليّة حسب جوليان. ولكن هل تقوم صحافة تحليليّة دون صحافة استقصاء؟ فالمشكلة لا تكمُن في سعة المعرفة لتوفير تحليل، بل بالذات بتلك الطبيعة النقديّة الواجبة: حبّ المشاغبة وعدم الاحترام، تلك التي تقاوم نزعة المثقّفين لإغراءات وحقائق السلطات (“سلطة الدولة وسلطة الأحزاب وسلطة المال وسلطة من يوجّه ويقرّر”، حسب جوليان).
يقظة صحافيين عرب
في بلادنا العربيّة، هناك شبكة مركزها الأردن تُعنى بمساعدة وتدريب الصحافيين العرب على بناء ثقافة صحافة الاستقصاء المحترفة: وهي (أريج)، أي “إعلاميّون من أجل صحافة استقصائيّة عربيّة”. حيث يقول دليل التدريب [2] الذي أنتجته هذه الشبكة بالتعاون مع اليونسكو، أنّ هدف الصحافة الاستقصائيّة هو “كشف المستور وتوثيق المشكلة على أمل لفت الانتباه إلى الجهات المسبّبة وتحقيق العدالة الشفّافة؛ فالمساءلة هي بعضٌ من أعمدة السلطة الرابعة”، وما هو مستور يمكن أن يكون قد “اختفى خلف ركامٍ فوضويّ من الحقائق والظروف التي أصبح من الصعب فهمها”. ويتوافق الدليل مع جوليان في إشارته إلى أنّ “التغطية الاستقصائيّة” تقوم أساساً على مبادرةٍ شخصيّة، وأنّ ما يحرّك الصحافي الاستقصائي هو “هدفٌ ذاتيّ غير موضوعيّ يتمثّل برغبةٍ في إصلاح العالم. فمن المسؤولية أن نعرف الحقيقة كي يمكن تغيير العالم”.
يسلّح هذا الدليل العاملين بالصحافة الاستقصائيّة بأساليب فنون الكتابة وواجبات الدقّة وطرق اللجوء إلى الخبراء ومصادر المعلومات وتقانات مراقبة الجودة قبل النشر، وأهمّ من ذلك بالثقافة القانونيّة اللازمة للإعلاميين وبأسس أخلاقيات المهنة. إذ أنّه في “مهنة البحث عن المتاعب هذه”، من الضروري “حساب المخاطرة” والتسلّح بالقانون، مع أنّ هذا القانون والجهاز القضائي لا يحميان دوماً [3]، ومن المفترض التساؤل عمّا “يستحق أن يموت الصحفي من أجله”، لأن “أسباباً كثيرة تدعو إلى القلق خاصةً في منطقةٍ من العالم حديثة العهد بهذا النوع الصحفي المتطلِّب، ومليئة بصغار الصحافيين الذين يتلهّفون إلى إثبات ذواتهم في ظلّ غياب أبسط درجات الاحتياط”. كذلك من الضروري الالتزام بنزاهة وأخلاقيّات عالية تستند إلى إعلان اليونسكو عام 1987 ومواثيق الشرف العالمية والعربية والدولية.
لكنّ الدليل يركّز في النهاية على البعد الذاتي، مشيراً للاستقصائيّ أنّه: “أوّلاً وآخراً، اتبَع مشاعرك”؛ ممّا يعني من ناحية أن تترك هذه المشاعر “تجعلك حسّاساً لقصصٍ لا يبدو أنّ أيّ أحدٍ آخَر يأخذها على محمل الجد”؛ ومن ناحية أخرى، أنّه “إذا لم تُدهشك قصّة أو تُغضبك أو تمنحك رغبةً عارمة لرؤية شيءٍ يتغيّر، يجب عليك ألاّ تحاول استقصائها… لأنّك لن تنجح”.
البعد الذاتيّ المشاغب “لتغيير العالم” أساسيٌّ إذاً للصحافة التحليليّة وللصحافة الاستقصائيّة على السواء. ولكنّ الفرق الضمنيّ بين الإثنتين يبدو كامناً في أنّ الأولى تُترَك “للخبراء المختصّين” الأكبر سنّاً عادةً؛ أمّا الثانية فهي، إلاّ في حالاتٍ نادرة، محاولات من شبابٍ أقلّ خبرةً لكشف المستور لتغيير العالم. فهل الأمر فعلاً كذلك: فرقٌ في العمر ونضج المعرفة، وربّما في الجرأة والمجازفة؟ وأين تتوجّه هذه الجرأة؟
إذا ما نظرنا في الموضوعات الاستقصائيّة التي رعتها “أريج”، نجد أنّ أكثر المواضيع قد تركّزت على حقوق المرأة والطفل والعمّال والبيئة والصحّة العامّة والمستهلك والمواطنة ولبعضها… عمل أجهزة الدولة (الفساد). وكانت كلّ هذه الموضوعات الاستقصائيّة مهمّة، تكشف مستوراً وتبعث على الغضب وتستفزّ مشاعر البحث عن العدالة والإنسانيّة، إضافةً إلى أنّها وإن عَنَت بلداً معيّناً، بلد الصحافيّ الذي تلقّى التدريب، فإنّه يُمكن إسقاطها على معظم البلاد العربيّة. فأين نحن من الصحافة التحليليّة والاستقصائيّة في المشهد الإعلامي العربي؟
مناخ ملائم لنمو الصحافة التحليلة والاستقصائية عربياً
بالفعل، تعيش البلاد العربيّة وضعاً خاصّاً على الصعيد الإعلامي. ففي حين تتخبّط وسائط الإعلام الغربيّة في أزمةٍ وجوديّة [4] جرّاء تطوّر التقانات والتزاحم الشديد وسيطرة المجموعات الكبرى (ومؤخّراً التأثّر بالأزمة العالميّة)، وتبحث عن استمراريّة نماذجها الاقتصاديّة والمهنيّة، يشهد العالم العربي تطوّراً واضحاً ومتسارعاً في وسائل إعلامه [5]. فبعد سيطرةٍ طويلة للسلطة على وسائل الإعلام، فتح نموّ هذه الوسائل على أقصى جانبي المشهَد مجالات كبيرة ومناخاً جديداً: من جهة القنوات الفضائيّة، خاصّةً بعد التجربة الرائدة لقناة “الجزيرة”؛ وعلى الجهة الأخرى، مواقع الإنترنت الإعلاميّة والمدوّنات ومواقع التوّاصل الاجتماعي.
وما زالت مجالات النموّ كبيرة [6]. صحيحٌ أنّ القنوات الفضائيّة تعتمد على تمويل بعض الحكومات والشركات الكبرى، في حين ما زال الإعلان على القنوات الفضائيّة ضعيفاً نسبيّاً؛ إلاّ أنّ نموّ توزيع قنوات التلفزة عبر الكابل والحزمة العريضة مع الإنترنت ما زال في بداياته ويمكنه الاعتماد على أسواقٍ إعلانيّة مختلفة تنمو بسرعة. كذلك تشهد الصحافة المطبوعة نموّاً كبيراً، بالرغم من تخوّفها المبدئي من تطوّر النشر المجاني على الإنترنت، بحيث تطوّرت في كلّ البلدان التي فتحت المجال أمام تواجد الإعلام الحرّ عشرات الصحف والمجلاّت، أخذت مكانتها أمام الصحف الحكوميّة وطوّرت نماذجها. بل إنّ البعض منها بدأ يتخطّى حدود البلد المعني إلى البلدان المجاورة، بل إلى مستوى العالم العربي.
المناخ ملائم جدّاً إذاً لتطوّر الصحافة في البلاد العربيّة. بالرغم من كلّ المعوقات، أو ربّما بسبب هذه المعوقات، ليست الرقابيّة فحسب بل بما فيها الاستغلال الاقتصادي من إدارات الصحف للصحافيين. ليس فقط أنّها في مرحلة نموّ، بل كذلك شغف القرّاء والمشاهدين. إذ ما زالت هناك خاصّية مهمّة يمتاز بها القاريء والمشاهد العربي مقارنةً مع نظيره الأوروبي أو الأميركي الشمالي، هي أنّه ما زال لا يصدّق الصحافة، التي ما زال يربطها في إدراكه بالسلطة والمصالح، حتّى لو كانت صحافته المفضّلة؛ حيث أنّ ردّة فعله الأساسيّة عند تسلّم المعلومة هو أن يدقّقها من خلال الاستماع إلى وسائل الإعلام الأخرى، حتّى المناهضة لآرائه الخاصّة [7].
بل إنّ المنافسة بين وسائل الإعلام هذه تفتح مجالات جديدة للحريّة الصحافيّة، وللصحافة التحليليّة والاستقصائيّة؛ أساساً لأنّ هذه الوسائل، مهما كانت المعوقات وسيطرة السلطة السياسية والمالية عليها، تتنافس بين بعضها لاحتلال أكبر حيّزٍ في مرحلة النمو، في داخل كلّ بلد، وأحياناً تسابقاً بين بلدٍ عربيّ وآخر. هكذا، عدا حالات قليلةٍ كتونس مثلاً، تحسّن أفق الصحافة بشكلٍ كبير في كثير من البلدان العربيّة، بل تطوّرت حريّاتها في بلدانٍ كالمغرب ومصر إلى حدودٍ كانت غير مسبوقة.
لكن هل يترافق تطوّر الصحافة في البلاد العربيّة فعلاً مع تطوّر نوعيها التحليلي والاستقصائيّ ؟ وإن كان ما من جرأة، فأين تتّجه هذه؟ هناك موضوعات تخطّت حدّ المحرّمات. وهي على وجه الخصوص الموضوعات المتعلّقة بفعاليّة الخدمات المقدّمة من الأجهزة الحكوميّة، وتلك الاقتصادية-الاجتماعية، التي بتنا نجدها حتّى في الصحف الحكوميّة ذات الرقابة الذاتيّة: من حماية المستهلك حتّى تقديم خدمات الماء والكهرباء والصرف الصحيّ والنقل والهاتف. إلاّ أنّه غالباً ما يتوقّف العمل الاستقصائي والتحليلي عند حدٍّ ما؛ يصف “من ولماذا ومتى وأين؟” ولكنّه لا يصل إلى المساءلة والتحوّل إلى سؤال “كيف؟” وتحديد المسؤوليات.
يأتي التوقّف أحياناً عن الاصطدام بمحرّمات، ويأتي كثيراً عن صعوبة حقيقيّة في التحليل، إذ أنّ قلّةً من الخبراء يستطيعون أو يريدون الذهاب بعيداً في تحليل المسبّبات، وحدهم أو مساعدةً للصحافي الاستقصائي، خوفاً على مصدر رزقهم، إن كان محليّاً كمركزٍ جامعيّ أو خارجياً كالدراسات للمؤسّسات الدولية، التي يجب أن يتبعوا نهجه وخطّه.
هذا العمل الاستقصائي مفيدٌ حتمأً لفضح العيوب وللمطالبة بالتحسين، ويكمن أن يُفضي أحياناً إلى تغيّرٍ فعليّ في الأداء. لكنّه لا يكفي. فمن ناحية، سيبقى ناقصاً طالما لم يبحث عن “السلطة” التي تكمُن وراء هذا العيب، ومجموعة المصالح الاقتصادية والسياسية التي تلعب وراءها. ومن ناحية أخرى، يُمكن أن يكون هو بذاته عرضةً للتلاعب في صراعات هذه المصالح (صراعات بين شركات اقتصادية أو صراع بين مسؤولين سياسيين على مناصب) فيفضح قصّةً صغيرة تخفي وراءها شيئاً أكبر. بل حتّى يتوافق هذا الانتقاد للأداء الحكومي مع سياسات “الإصلاح الهيكليي” التي تقوم بها الإدارات العربيّة بنصيحة صندوق النقد الدولي: الدولة غير فعّالة، فلنخصّص مرافقها!.
أبعد من ذلك، أنّه خلافاً للفترة التي تلت الاستقلال، تطوّر في البلاد العربيّة انفصامٌ بين الدولة (المؤسّسات) والسلطة (أي قمّة الهرم). وأضحت السلطة (ملكيّةً كانت أم جمهوريّات توريثيّة) فوق الدساتير والقانون (تغيّرها وتستخدمها حسب مشيئتها)، كجسمٍ مستقلٍّ له آليات إنتاج (أي موارده المالية التي لا تخضع للمحاسبة) وإعادة إنتاج (في شراء الولاءات من هذه الموارد المالية، وهذه أيضاً لا تخضع للمساءلة). جسمٌ فوق الدولة، لا ضمنها، يُضعِف الدولة التي يُمكِن أن تتضارب مصالحها (المصلحة العامّة) بالذات… مع مصالح وآليات السلطة. الصحافة التحليليّة أو الاستقصائيّة نادرة هنا، لأنّها تتطلّب مخاطرة كبيرة (لا لعدم وجود المعلومات) حتّى لو كانت مسؤولية الصحافة هي إبراز الحقيقة. هنا إذاً ندخل في مضمار المحرّمات، التي تصِل في بعض الأحيان إلى درجة الطوطميّة، تعاقب بقسوة حتّى الكاريكاتير والسخريّة؛ مع أنّ هاتين الأخيرتين لهما إرثٌ مؤصّل في الثقافة والتاريخ والشعر العربيّ. وإن مرّت هنا وهناك بعض الشطحات لأسبابٍ ظرفيّة، فستفتح لمن تجرّأ بها حساباً سيأتي عسيراً بعد حين وإن كان عبر حجّةٍ واهية غير مباشرة.
بالطبع يمكن لهذا التحليل ألاّ يكون مفهوماً في بعض الدول العربيّة (ومن بينها بعض الدول الخليجيّة التي ترعى نموّ الصحافة وازدهارها)، حيث يبدو “طبيعيّاً” فيها أن يكون إمرؤٌ عضواً في السلطة ومسؤولاً حكومياً ومديراً لشركة تتعاقد مع الجهاز الحكومي؛ ولا يرى أحدٌ في ذلك تضارباً في المصالح.
هكذا يصعد تحريم الاستقصاء والتحليل عن السلطة إلى مستوى التحريم المتعلّق بالموضوعات الدينيّة؛ مع أنّ المجال قد فتح كثيراً بالنسبة للأخيرة لمقاومة الفكر التكفيري والإرهابي، ووصل حتّى إلى الانتقاد الشديد لبعض “الفقهاء”، خاصّةً وأنّ لا شيء في الشرع الإسلامي ينزّه الفقهاء ويجعلهم كهنوتاً لا يخضعون للمساءلة من المجتمع، في حياتهم اليوميّة كما في فتاويهم. ويكفي تتبّع ما يحدث على شبكة الانترنت، وأحياناً في الصحف، لرؤية حجم النقاش الجاري حول هذا الموضوع [8].
لا بدّ هنا من التوقّف عند نقطة تشدّد عليها كلّ أدبيّات الصحافة، وخاصّةً الاستقصائيّة منها: وهي القضيّة الأخلاقيّة. فالصحافة الاستقصائيّة ليست تشهيراً، ويجب أن تنطلق من معايير احترام العقائد الدينيّة (العقائد السائدة في البلد المعني، وتلك للأقليّات وللشعوب الأخرى على السواء) واحترام الخصوصيّة الشخصيّة. وقد خلق الخروج عن هذه المعايير مشاكل كبيرة أعاقت التضامن للدفاع عن حريّة الصحافة، عربيّاً وعالميّاً. في حين يصحّ القول أنّ الخروج عن هذه المعايير قد انتشر أيضاً في غير البلدان العربيّة، جرّاء مشاكل الصحافة هناك والتهييج حول “صراع الحضارات”.
ومن الضروريّ هنا التأكيد أنّ ذهاب بعض الصحافة العربيّة “مستقصيّةً” عن الحياة الشخصيّة لهذا وذاك، مهما كانت الإثارة وراء الموضوع، للمنصب الذي يحتلّه الشخص المعنيّ، ليس له علاقة بالصحافة الاستقصائيّة، ولا حتّى بالصحافة (غير الصفراء). ومع كلّ ضرورات المشاغبة، لا يُمكن لتجاوزات من هذا النوع أن تجلب تعاطفاً عامّاً. صحيحٌ أنّ الصحافة الأنجلوساكسونيّة تنحو هذا المنحى في بعض الأحيان، لكنّ الصحافة الأوروبيّة الأخرى، وخاصّةً الفرنسيّة والجادّة منها، تستهجنه بشكلٍ كبير. فقد تمّ حفظ سرّ الابنة غير الشرعيّة للرئيس فرنسوا ميتران لسنين طوال (مع أنّ الكثيرين كانوا على علمٍ بالأمر)، حتّى اختار هو أن يعلن عنه… بالذات لأنّ لا علاقة لهذا الأمر بالصالح العام ولا يضرّه. وبما أنّ الهدف هو الدفاع عن الحريّات، فإن الخصوصيّة من أولى الحريّات.
وجهة الاستقصاء.. دعوة جدية للمشاغبة وعدم الاحترام
التطوّر الكبير الجاري للصحافة العربية لم يصِل بالصحافة التحليليّة والاستقصائيّة إلى الآن بعيداً في مساءلة السلطة. صحيح؛ إذ أنّ الوصول هناك هو تحقيق الديمقراطيّة بكامل معناها؛ ويتطلّب ذلك أموراً أخرى غير الصحافة بحدّ ذاتها: نظاماً قضائيّاً مستقلاًّ، ومؤسّسات حكومية خاضعة للمساءلة الشفافّة، وحركات اجتماعية ناشطة لها مصداقيّتها في الدفاع عن الحقوق وتجييش المواطنين لحمايتها. حيث ستساهم الصحافة من خلال عملها في دفع هذه العناصر الأخرى بدورها للنضوج. فحريّة الكلمة هي فقط “المقدّمة الأولى للديمقراطية، وسيادة القانون هي الضمان الأخير لها”.
لا يعني هذا عقلانيّةً؛ مع أنّ فيه شيئاً من الحرص على كلّ أولئك الشباب الاستقصائيين المجازفين. بل هو في الحقيقة دعوة “جديّة” للمشاغبة وعدم الاحترام. إذ أنّ الهدف هو إيقاظ مشاعر المواطنين على حقوقهم، حتّى حين يفشل المحلّلون في ذلك. فإذا عرفوا جيّداً حقوقهم والتجاوزات عليها، لا بدّ لهم يوماً أن يهبّوا دفاعاً عنها. وحتّى ذلك الحين، كلّ تخطّي على الحقوق، حقوق المواطن والإنسان، الشخصيّة والاجتماعيّة، وحقوقه الاقتصادية، يستحقّ المشاغبة وعدم الاحترام…. والتهكّم.

* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com
[1] Claude Julien : Le Devoir D’irrespect ; HB éditions, Collection Politique (s) ; 2007.
[2] مارك هنتر (إشراف): على درب الحقيقة: دليل (أريج) للصحافة الاستقصائيّة العربيّة، 2009، يمكن تحميله من موقع http://www.arij.net/
[3] ماعدا الأردن، تندر في البلاد العربيّة القوانين التي تحصّن حقّ المواطن في الحصول على المعلومات انطلاقاً من المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. راجع مثلاً: http://www.un.org/arabic/aboutun/hu… و http://www.article19.org/pdfs/langu…
[4] حول هذا الموضوع يمكن مراجعة مقالي سيرج حليمي: “إعادة تشكيل فظّة واستجداء على كافّة المستويات” و”معركتنا”، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، تشرين الأوّل/أكتوبر 2009
[5] حول تطوّر وسائط الإعلام العربيّة يمكن مراجعة:Franck Mermier : Mondialisation et Nouveaux Médias dans l’Espace Arabe ; Ed. Maisonneuve & Larose, 2003 و Yves Gonzalez-Quijano & Tourya Guaaybess: Les Arabes parlent aux Arabes ; Sindbad Actes Sud, 2009 و Khadija Mohsen-Finan: Les Médias en Méditerranée, Le Pouvoir de Penser les Relations Internationales; Ed. Actes Sud, MMSH, barzach, Etudes Méditerranéennes, 2009.
[6] راجع سمير العيطة: صناعات المحتوى الرقمي العربي، الإسكوا، 2008، http://css.escwa.org.lb/ictd/29-30A…
[7] راجع حول هذه الميّزة أعمال البروفيسور لورانس ليسيغ من جامعة ستانفورد: www.lessig.org وأيضاً سمير العيطة: “الإعلام والسياسة والاقتصاد… والعرب”، افتتاحية لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آيار/مايو 2007، http://www.mondiploar.com/article.p…
[8] يقوم مركز بحثيّ في جامعة هارفرد برصد ما تتناوله المدوّنات الإلكترونيّة في البلاد العربيّة، راجع تقريرهم الأخير: Mapping the Arab Blogosphere: Politics, Culture and Dissent; Berkman Center for Internet and Society at Harvard University; June 16, 2009; http://cyber.law.harvard.edu/public…
النشرة العربية – لوموند ديبلوماتيك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى