حول الهوية اليسارية للحوار المتمدن
رزكار عقراوي
في الذكرى الثامنة لتأسيس الحوار المتمدن وبعد توسعه الكبير تثار هنا وهناك حوارات وأراء مختلفة حول التوجه الفكري لمؤسسة الحوار المتمدن.
هل هي مؤسسة يسارية ملتزمة, أم مؤسسة يسارية علمانية ديمقراطية؟ أم مؤسسة عامة تنشر في مواقعها كل الآراء بغض النظر عن توجهاتها الفكرية والسياسية كسائر المواقع الأخرى؟
أم أنها مؤسسة معادية لليسار, كما طرح البعض لكونها تطرح الأفكار الماركسية وعموم اليسار وحركته للنقاش, كما تسمح بنقد ذلك الفكر وعموم الحركة اليسارية وفتحت محورا خاصا لذلك في موقع الحوار المتمدن ومركز دراسات اليسار؟
أم أنها مؤسسة معادية للإسلام لكونها تنشر العشرات من المواضيع يوميا التي تتعرض للفكر الإسلامي وتنتقد الإسلام السياسي وممارساته التعسفية وأفكاره الظلامية؟
أم أنها مؤسسة إسلامية التوجه لأنها سمحت بآراء إسلامية ودينية من الممكن أن يتم التحاور مع تلك الأفكار بشكل حضاري؟
قبل تحديد الهوية الفكرية للحوار المتمدن, لا بد من تحديد توجه كادر الحوار المتمدن الفكري ,حيث من الواضح من خلال أرائهم أن معظمهم يساري ماركسي التوجه ولهم خلفية سياسية يسارية, وكانوا وما زال البعض منهم كوادر في أحزاب شيوعية ويسارية مختلفة. إذا بهكذا توجهات و بالمفاهيم اليسارية التقليدية المتعارف عليها لا بد أن يشكلوا مؤسسة يسارية مختصة بالفكر الاشتراكي والماركسي وحده, مثل الكثير من المراكز والمؤسسات اليسارية الحزبية والمستقلة التقليدية الموجودة ألان في الكثير من بلدان العالم العربي والتي معظمها محدودة التأثير وتحت نفوذ حزب يساري معين, لم تتمكن من الوصول بشكل جيد إلى مجتمعاتها وتؤثر فيها. التساؤل هنا لماذا لم يقوموا بذلك وعوضا عنها كان الحوار المتمدن؟
في بداية تأسيس الحوار المتمدن لم يكن الانترنت قد تطور بشكل كبير وخاصة في العالم العربي, كما أن والإعلام الإلكتروني كان محدود الاستخدام والتأثير, ولكن كان العالم بشكل عام يتوجه نحو التقنية الإلكترونية في كافة مجالات المجتمع الاقتصادية والسياسية والإدارية والاجتماعية والثقافية, ومعظم إعمال المجتمع اتجهت وتحولت إلى استخدام الإلكتروني, وأصبحت التقنيات الحديثة والمتقدمة أحد الأسس المركزية للنظام الرأسمالي الحالي والذي لا يمكن أن يستمر بدونها.
في هكذا تغييرات كبيرة جدا كيف يفترض أن يتصرف التيار اليساري ويتعامل مع هذا التقدم التقني الحديث؟, هل يستمر بالطرق التقليدية ويتمسك بالصحافة والعمل الورقي ويعتبرها الأساس في كافة نشاطاته الإعلامية والسياسية, أم يفترض ان يتكيف مع الجديد ويحاول الاستفادة من التطور التكنولوجي والإلكتروني الكبير والمتسارع لصالح الفكر الذي يحمله؟ كان لا بد من وعي هذه العملية الحديثة وهضم مفهوم التحديث والسعي لتطوير العمل والإبداع في مفهوم اليسار الإلكتروني (E-Left) * من خلال الاستفادة من التطور العلمي والتقني التي سجلت خلال العقدين المنصرمين ثورة حقيقية في هذا المجال. ومثل هذا التوجه يستلزم تطوير إشكال واليات النضال الفكري والسياسي والثقافي والتنظيمي والاعلامي بما يلائم الوضع الحالي والتغيرات الكبيرة.
ومن هنا أرى أن مؤسسة الحوار المتمدن ومواقعها كانت احد أول واكبر أشكال النضال لليسار الإلكتروني المنظم في العالم العربي الذي طرح شكلا جديدا للإعلام اليساري باستخدام تقنية المعلومات والانفتاح واحترام الرأي والرأي الأخر مع التركيز وإبراز خط اليسار في كافة مفاصل عمله.
الإعلام الإلكتروني لا بد أن يختلف عن الإعلام التقليدي الورقي حيث أن الأخير محصور بمنطقة جغرافية معينة, في حين أن للانترنت طابع عالمي ويمكن الوصول إلى ذلك الإعلام من كافة إنحاء المعمورة, ولذلك لم يختص الحوار المتمدن بدولة واحدة وإنما كان الناطق بالعربية لمعظم قوى اليسار والعلمانية بمختلف توجهاتها.
من المؤسف حقاً أن نشير إلى أن الإعلام اليساري لديه تجربة سلبية في مجالات احترام الحوار والنقاش والرأي الأخر, إذ كان معظمه أحادي الاتجاه وحتى يقتصر على اتجاهات معينة داخل الأحزاب والمؤسسات اليسارية وتقييد الآراء الأخرى المختلفة مما اضعف الديمقراطية والحيوية والشفافية فيها, بل تحولت بعض منابر اليسار لترويج خطب ومقالات قادته فقط! لأنها لا تريد أن تسمع صوت الآخر, بل مغرمة بصوتها فقط ! وتعتقد أن كل الحقيقة المطلقة عندها, حتى أصبح أعضاء تلك الأحزاب لا يطالعون صحافتها.
الحوار المتمدن تجاوز ذلك بشكل كبير وجذري ويتطور باستمرار في هذا المجال, حيث لم يكن ناطقا باسم أشخاص معينين أو باسم إدارته, أو اتجاه يساري محدد أو اتجاه علماني محدد, أو اتجاه ديمقراطي محدد بل كان يسع دوما ليكون ناطقا باسم حركة سياسية-اجتماعية كبيرة, وحقق الكثير في هذا المجال, كما فتح الأبواب على مصارعها لطرح كافة الآراء اليسارية والعلمانية والديمقراطية في مواقعه من منطلق الحرص العام على الفكر اليساري المتفتح , وأعطى مثلا جديدا وواقعيا للإعلام اليساري إذا حكم المجتمع, أي إعلام متمسك بقيم اليسار وله الأولوية وفي نفس الوقت يحترم ويسمح لكافة الآراء الأخرى في المجتمع ويتحاور معها بما فيها المنتقدة له.
كيف جسد الحوار المتمدن يساريته الخاصة به في الأعوام الثمانية المنصرمة ؟
1. هوية يسارية واضحة وفي نفس الوقت منبر عام مفتوح للجميع وبالأخص لكافة التيارات العلمانية والليبرالية والديمقراطية والدينية المتنورة.
2. لم يدع احتكار الحقيقة المطلقة أو فرض نوعا من التقديس والتأليه على الماركسية واليسار ورموزها, أو ردد نصوصا جامدة وإنما طبقها على ارض الواقع بشكل عملي عقلاني, ومؤثر وملموس. وفي نفس الوقت طرح كل التراث الماركسي واليساري للحوار والنقاش والانتقاد من اجل تحديد الأخطاء وأسباب النكسات والخيبات أو الإحباطات والضعف من اجل إعادة النظر بالكثير من الأفكار والسياسات باتجاه تجديدها وتطويرها نحو الأفضل بما يتلائم وينسجم مع التطور الكبير في مختلف المجالات على الصعيد العالمي.
3. الحوار المتمدن مستقل تنظيميا وسياسيا عن كافة الأحزاب اليسارية ويمول نفسه ذاتيا.
4. ساهم بإعادة نشر الأرشيف الماركسي والاشتراكي ونشر عشرات ألوف الكتب والدراسات والمقالات اليسارية والتقدمية وإيصالها إلى الملايين من القراء في العالم العربي والعالم اجمع.
5. كان المروج الأكبر لكافة فصائل اليسار والداعم الإعلامي والتحريضي لها بإيصال أرائها وبياناتها وحملاتها إلى زواره.
6. روج لمفهوم التعددية في اليسار وضرورة الحوار بين الأفراد والجماعات والمنظمات ومناقشة الأفكار والسياسات في ما بين الاتجاهات المختلفة باعتباره لا زال دون المستوى المطلوب حتى ألان. كما ركز على الشفافية و الدمقرطة التنظيمية لأحزاب اليسار واحترام حقوق الأقلية الحزبية التي وجدت في الحوار المتمدن متنفسا لها بعد أن أغلق الإعلام الحزبي اليساري بوجهها في معظم تلك الأحزاب.
7. منذ تأسيسه كان الحوار المتمدن داعيا للعمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية وانعكس ذلك في الحملات والملفات وشارك برأيك… الخ. وحاول وعمل من اجل تنشيط الحوار والنقاش الموضوعي والايجابي في ما بينها.
8. الدفاع والترويج للحركة العمالية والنقابية في كافة نشاطات المؤسسة.
9. العمل من اجل بناء مجتمع علماني مدني كان ولا زال وسيبقى احد أبرز الشعارات التي رفعها الحور المتمدن وطبقها أيضا عمليا , حيث احتلت – العلمانية- مكانا مهمة في عمل موقع الحوار المتمدن , إذ أتاح فرصة ثمينة لكافة الآراء العلمانية لكي تطرح وتناقش, كما لم يقتصر على طرح اتجاه يساري معيين للعلمانية, بل وسع ذلك من خلال نشر الآراء المختلفة حول العلمانية, التي تبلورت كمفهوم لدى قوى اليسار, وحول الديمقراطية , والليبرالية, حتى المتدين المؤيد والمنتقد لها وجد فرصة ممارسة الحوار والنقاش على صفحات مواقعه.
10. كان ولا يزال من ابرز المؤسسات الإعلامية المدافعة عن حقوق الإنسان, فاضحا الحكومات الاستبدادية ودفع ثمنا باهظا حيث حُجب الموقع عن الكثير من الدول العربية بحيث صنف كأحد أكثر المواقع الكبيرة حجبا.
11. كانت ولا تزال حقوق المرأة كاملة ومساواتها مع الرجل, محور مركزي في عمل الحوار المتمدن, كما أن مركز مساواة المرأة أصبح احد المراكز المهمة المختصة بذلك والذي هو على طريق تحقيق خطوة نوعية كبيرة على كافة الأصعدة والمجالات.
12. إن انفتاح الحوار المتمدن الواسع على الاتجاهات الفكرية الأخرى وإعطائها مجال كبير في النشر لضمان التفاعل والنقاش, أصبح وكأنه منبراً حوارياً لها أيضا, إذ ساهم في تنشيط الحوار وتعزيز ثقافة الاختلاف واحترام الرأي والرأي الأخر, وكان ذلك احد المميزات الجديدة والجيدة ليسارية الحوار المتمدن والتي أعطت مثلا ايجابيا للإعلام اليساري الجديد.
13.فسح الحوار المتمدن المجال للآراء المختلفة بما فيها الدينية وأدى ذلك إلى تنشيط حوار ايجابي بين المتدينين والعلمانيين وحتى بين الأديان المختلفة وان كان حادا أحيانا ولكنه بقي في المحصلة النهائية ايجابي جدا وينشط روح النقاش البناء ونبذ العنف والذي هو احد أسس المجتمع المدني العلماني الذي ننشده كخطوة أولية نحو مجتمع اشتراكي متحضر تسوده العدالة الاجتماعية وتحترم فيه كافة حقوق الإنسان.
14.واهم ما يميز يسارية الحوار المتمدن وحسب مفاهيم السوق, انه تمكن ونجح في استخدام طرق جديدة للترويح والتسويق بإيصال – السلع اليسارية بمختلف أنواعها وعالية الجودة ! – إلى اكبر عدد ممكن من المشتريين وحتى الذين لم يكونوا يرغبون بهذه السلع ومن مختلف التوجهات وبكلف محدودة جدا .
1. ……..
إن الهوية اليسارية للحوار المتمدن تعتبر احد أهم ركائزها ولا يمكن تغييرها أو المساومة عليها, وقد اختلف عن اليسار التقليدي في طرق التعامل والتعبير ومضمون الخطاب الفكري والسياسي, حيث استخدم وابتكر مفاهيم جديدة, واستفاد من نكسات اليسار وأخطاءه, واستند إلى التطور الإلكتروني, والانفتاح الكامل واحترام الرأي الأخر, ومخاطبة كل المجتمع وليس نخب محدودة فيه وإشراكه في الحوار, وأدى ذلك إلى نجاح كبير في الوصول إلى أوساط واسعة من المجتمعات التي كنا نريد ونسعى إلى إيصال اليسار والفكر الماركسي وعموم الفكر الإنساني والتحرري إليها. وقد أمكن عبر الإنترنيت زيادة عدد الزوار من سائر أرجاء العالم, إذ تجاوز العدد 250 مليون زائر-ة إلى ألان, بحيث تفوق على معظم الإعلام الحزبي والمستقل لليسار في العالم العربي .
إن هذه الحيوية والنشاط والنتائج الإيجابية لم تأت من فراغ, بل أُنجزت من خلال العمل الجماعي التطوعي الرائع والمبدع لأعضاء إدارة الحوار المتمدن و مشاركة القيمة لكاتبات وكتاب الحوار المتمدن ومن خلال احتضانه من قبل زواره الأعزاء من مختلف البلدان في الشرق الأوسط والعالم اجمع.
إن الحوار المتمدن يدرك تماماً بأن مواصلة السير على هذا الطريق العملي العقلاني, والواقعي والمفيد والمثمر هي التي من الممكن أن تفتح أمام اليسار بكافة فصائله المزيد من الأبواب الموصدة حتى الآن في أوساط المجتمعات وستؤثر إيجاباً على عمل كل قوى التيار اليساري والعلماني في منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص.
* ساتطرق لمفهوم اليسار الإلكتروني (E-Left) بالتفصيل في مقال قادم
الحوار المتمدن