المتلبرلون الجدد في سورية
الدكتور: قصي غريب
1
ليس المقصود ب”المتلبرلين الجدد” في سورية هم : من أتباع الأيديولوجية الليبرالية أو الديمقراطية الليبرالية التي ترتكز مصادرها الفلسفية على كل من التيار الاقتصادي الليبرالي، والتيار السياسي الليبرالي، والمدرسة النفعية، وأن أهم القيم التي تستند إليه وأهم مكوناتها تتمثل في : الفردية، والملكية، والحرية، والمساواة، وكذلك ليس المقصود ب”المتلبرلين الجدد” في سورية هم : أصحاب الفكرة الليبرالية الجديدة التي تمثل موجة جديدة من موجات الليبرالية، والتي تتضمن : عولمة الاقتصاد، والثورة العلمية والتقنية، وإفلاس الدولة، وكفاءة السوق، وأخيراً نهاية التاريخ، وهي أيديولوجية اقتصادية تمثل العنصر الأساس لأيديولوجية الدوائر الحالية المهيمنة على الاقتصاد العالمي في المرحلة الراهنة للرأسمالية . ولكن المقصود ب”المتلبرلين الجدد” في سورية : أولئك العناصر المتقلبة الأهواء الذين غيروا ميولهم السياسية بما يتلاءم مع المتغيرات الدولية الجديدة، وانتقلوا كلمح بالبصر بعد سقوط جدار برلين، وانهيار النظم الاشتراكية في أوربا الشرقية، وتفكك الاتحاد السوفيتي وزواله، وانتهاج الولايات المتحدة الأميركية سياسة الانفراد بالقراروالفعل عالمياً من أقصى اليسار الماركسي البروليتاري الاشتراكي، وادعاء التعصب العقائدي للماركسية اللينينية إلى أقصى اليمين الليبرالي البرجوازي الرأسمالي، وادعاء التعصب الأيديولوجي للديمقراطية الليبرالية على غير احتشام، فسابقاً كانوا يؤكدون في أدبياتهم الماركسية اللينينية على : أنهم يسترشدون بالنظرية الاشتراكية العلمية الماركسية اللينينية في نشاطهم لتحقيق أهدافهم الكبيرة، وفي حياتهم الداخلية، وممارستهم العملية، وأن القوى المحركة الأساسية في العملية الثورية هي : الطبقة العاملة، وجماهير الفلاحين، والمثقفون الثوريون، وأن القوى المعادية التي يوجهون ضدها نضالاً لا هوادة فيه، هي : الاستعمار، والصهيونية، والرجعية، والملكية الكبيرة للأرض، والرأسمالية الكبيرة، ويؤكدون التزامهم الطبقي بالمصالح الأساسية والجذرية للطبقة العاملة، ونظرية الماركسية اللينينية، والنضال المشترك للقضاء على الاستعمار، والإمبريالية، والرأسمالية، والصهيونية في سبيل الهدف المشترك لبناء الاشتراكية والشيوعية، ويناضلون من أجل نقاوة النظرية الماركسية اللينينية وبنائها وتطويرها، وضد جميع مظاهر التحريفية اليسارية، واليمينية المعادية للنظرية الماركسية اللينينية، وأن النظرة الطبقية الماركسية اللينينية ترفع لديهم إلى أعلى الدرجات حب الوطن، والشعب الكادح، وروح التضحية في سبيلهما، فهم ينظرون إلى حركة تطور المجتمعات البشرية عبر الصراع الطبقي المحرك الأساسي للتاريخ، ويقرون مواقفهم، ويقيمون مواقف غيرهم على أساس إدراك عوامل، وموازين، ومستويات هذا الصراع الطبقي الذي لا يبقى ماركسياً لينينياً من يغفل عنه أو يتجاهله، ويكون معاديا للماركسية من يتخذ لنفسه مهمة الطعن بالمتمسكين بالنظرة الطبقية، لأنها الأصح والأكثر فعالية لمن يحرصون حقاً على خدمة قضايا شعبهم، وهم حريصون على أن يبرز في سياساتهم باستمرار وجههم الأممي البروليتاري لتضامنهم مع جماهير العمال، وملتزمون بالخط العام للحركة الشيوعية العالمية، ويدافعون عن تعزيزوتطوير وحدتها، ويقفون في القضايا الرئيسة الكبرى دون تحفظ إلى جانب الدفاع عن السلم، ووحدة المعسكر الاشتراكي، والدفاع عنه ضد تعديات الإمبريالية، وفي النضال ضد الاتجاهات والأنظمة الفاشية، ويعدون توحيد نضال جميع الكادحين، وعلى اختلاف انتمائهم القومي والديني هو : عنصر مهم في نجاح كل تقدم، ولهذا فهم يناضلون ضد التمييز على أساس القومية، والدين، والجنس، ويعد تحالف العمال والفلاحين هو : الحجر الأساس في توحيد جهود كل القوى الوطنية والتقدمية، ويبشرون بأن حكم التاريخ يكون بزوال الرأسمالية ومرحلتها العليا الإمبريالية، وبانتصار قوى الحرية، والديمقراطية، والاشتراكية يتحقق في عصرنا الحاضر، فالأفكارالاشتراكية تغزوعقول وقلوب الجماهير في العالم بأسره، وأصبحت الماركسية اللينينية الفلسفة السائدة لدى الملايين من الناس، والقوة الفكرية السياسية الأكثر تأثيراً في الزمن الحديث، فعالم الاشتراكية يتسع، في حين أن عالم الرأسمالية يتقلص حتى أن الحركة العمالية الثورية في البلدان الرأسمالية الأساسية نفسها تقوم بدورها الطليعي، وتخوض ضد سيطرة رأس المال الاحتكاري نضالاً طبقياً، وتنتزع من الرأسمالية مكاسب اقتصادية وديمقراطية عامة تساعدها على المضي قدماً في النضال من أجل إسقاط النظام الرأسمالي الإمبريالي، وبناء النظام الاشتراكي، ولكن في وجه الهجوم الشامل الذي تقوم به القوى الثورية في العالم تقف الإمبريالية العالمية، وطليعتها الأميركية على رأس جميع القوى الرجعية مقاومة بشراسة ووحشية إرادة الشعوب في تحويل العالم تحويلاً ثورياً، محافظة بذلك على طبيعتها كعقبة رئيسة بوجه المسيرة التاريخية للشعوب نحو الحرية، والديمقراطية، والسلم، والاشتراكية، وتستخدم الإمبريالية كل ما تحت يدها من قدرات، وتبتكر مختلف الأساليب لوقف عجلة التاريخ، ودفعه إلى الوراء، ويوحد الإمبرياليون جهودهم لمواجهة الطوفان الثوري الذي يهاجمهم من كل مكان، وأن الإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الأميركية لم تيأس من جراء انتصار حركة التحرر العالمية، واندحار النظام الاستعماري الكولونيالي، وهي تسعى إلى إقامة مجموعة من العلاقات مع الدول المستقلة بهدف التغلغل الاقتصادي للإمبريالية في هذه البلدان، وإحلال الاستعمار الاقتصادي الجديد محل الاستعمار الكولونيالي القديم، ولكن مهما ابتكرت الإمبريالية من أساليب، واستخدمت من إمكانات ما تزال بين يديها لإطالة أمد بقائها، فلن ينقذها أي شيء من حتمية اندحارها، وإزالتها من على وجه الأرض، فالمتناقضات الداخلية في قلب النظام الإمبريالي، وخصوصاً التناقض الأساسي للمجتمع الرأسمالي بين العمل ورأس المال تنخر وتنهش فيه في ظل الأزمة التي وقعت فيها الرأسمالية العالمية، وهذه الأزمة لا خلاص منها حتى تنهار، ويقوم محلها النظام الاشتراكي، فسمة العصر هي : الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، لأن إحدى الحقائق الكبرى لحصيلة التطور الاجتماعي التاريخي تكمن في صدق النظرية الماركسية اللينينية الهادفة إلى بناء مجتمع جديد خال من المتناقضات الطبقية، والقومية، والعنصرية، وقائم على المساواة، والتآخي، وتكافؤ الفرص، ولهذا كانوا لا يقبلون بأقل من دولة أممية، ويصرخون بانتهاج سياسة أممية وطبقية، وتطبيقها بحزم، لأنهم متحمسون للماركسية اللينينية كنظام اقتصادي، وعد السعي إلى تحقيقها هو : الحل والبديل الوحيد عن الأنظمة الليبرالية، وادعوا : إنهم يقودون التصدي لهجمة الرأسمالية التي تهدد العالم بالاختراق، والتي تسعى إلى إغراق الجميع في لجتها، ويطلقون الصرخات في وجهها كنظام اقتصادي، محاولين تنبيه الجميع إلى خطورتها، وإلى فداحة الثمن الذي قد تدفعه دول وشعوب البلدان النامية إن نجحت الرأسمالية على وجه الخصوص في إخضاعها، والهيمنة عليها، ففي سورية يرون بأن هنالك قطاعاً رأسمالياً يقوم بدور طفيلي وتخريبي، ويضم هذا القطاع الطفيلي كبار تجار الاستيراد والتصدير، وتجار الجملة، وكبار تجار البناء، وسماسرة الشركات الأجنبية ووسطائها، وهؤلاء لا يسهمون بشيء في عملية الإنتاج، وأن الرأسماليين الطفيليين، وبالتعاون مع من مسهم التأميم والإصلاح الزراعي، ومع العناصر البيروقراطية، والرجعية المخربة في جهاز الحكم ينظمون حملة واسعة ضد القطاع العام، فهاجموا تقوية القطاع الرأسمالي الخاص، وفتح الباب أمام الرساميل العربية والأجنبية، وإضعاف العلاقات مع البلدان الاشتراكية انطلاقاً من انه يجب أن تنسجم الأشياء مع مصالح الطبقة العاملة، وجماهير الفلاحين، والمثقفين الثوريين، وكانوا في الوقت نفسه يؤكدون على حتمية انهيار الرأسمالية، لأن ما يجري في بعض البلدان المتحررة من تحولات اجتماعية واقتصادية تقدمية عميقة يؤكد مجدداً صحة الماركسية اللينينية، ولذلك سيظلون يرفعون عالياً راية الماركسية اللينينية، ويعملون على تطبيقها تطبيقاً خلاقاً لمصلحة الطبقة العاملة، وجماهير الفلاحين الفقراء، والمثقفين الثوريين، ومن أجل التحرير والديمقراطية الشعبية، والاشتراكية، والوحدة العربية – هذا بالنص بعض ما جاء في أدبياتهم – .
إن هؤلاء الذين كان محور أدبياتهم قائم على التأكيد على الصراع السياسي، والاقتصادي، والأيديولوجي الحاد بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين الطبقة العاملة والبرجوازية، وعلى إنزال الضربات بالرأسمالية، والإجهاز عليها، ويؤكدون على : حتمية هلاكها، وانتصار النظام الاشتراكي، ويعلنون صراحة : إن أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها إلا بدك كل النظام الاجتماعي القائم بالعنف، فلترتعش الطبقات الحاكمة أمام الثورة الشيوعية، فليس للبروليتارية ما تفقده فيها سوى قيودها وأغلالها، وتربح من ورائها عالماً بأسره، أصبحوا الآن يجرون أنفسهم في ذيل الرأسمالية والليبرالية التي كانت عندهم تدافع عن العبودية المأجورة، فعهد ديكتاتورية البروليتارية قد انطوى، وعهد الديمقراطية الليبرالية قد بدأ، فانتقلوا من الماركسية اللينينية النظرية الثورية الصحيحة الوحيدة إلى الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية أو من التيار البروليتاري الثوري إلى التيار البرجوازي الليبرالي، وهؤلاء الذين كانوا لا يربطون قضية الاشتراكية إلا بقضية التحرر من الإقطاعية والرأسمالية، ومن الإمبريالية والاستعمار الجديد، و يناضلون من أجل إسقاط النظام الرأسمالي الإمبريالي، وبناء النظام الاشتراكي أصبحوا الآن لسان حال الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية بامتياز، ومثلما كانوا متطرفين ومتحمسين للماركسية اللينينية كنظام سياسي واقتصادي كونها البديل الوحيد عن النظام الديمقراطي الليبرالي، أصبحوا الآن متحمسين ويزعقون بملء حناجرهم بحيث ينقطع منهم النفس للديمقراطية الليبرالية البرجوازية كنظام سياسي واقتصادي، وفي تحولهم في الدفاع عن الخيار الرأسمالي أو الديمقراطي الليبرالي الذي كان في السابق عدو، نراهم الآن قد تفوقوا على أنفسهم في الدفاع عن هذا الخيار، فهم يدافعون عنه دفاعاً مستميتاً، فحسب تصوراتهم : انه يجب على الجميع أن يكونوا ليبراليين، وهذا ليس مستغرب أبداً لكونهم يبدون معمعيون – يكونون مع من غلب -.
إن هؤلاء الذين كان بالأمس محور كلامهم قائم على إنزال الضربات بالرأسمالية، والإجهاز عليها تحولوا إلى جانبها ضد البروليتارية، وتحولوا إلى خدم لها ، ف”لينين” كان قد شخصهم : بأنهم تعلموا، وعن ظهر قلب حفظ الشعارات أكثر بكثير من التأمل فيها، ويكررون كالببغاء كلمات حفظوها عن ظهر قلب دون أن يفهموها، لأنهم مصابون بداء الإفراط بالثورية، إلا أنهم غير قادرين على أن يبدو الثبات والصمود، فمن السهل جداً أن يظهر المرء ثوريته عن طريق الشتائم وحدها، في حين الاستمرار بالثورية، والسير بها حتى النهاية سيكون صعب، لذلك ليس من باب الابتذال أن نطلق عليهم تسمية “المناشفة الجدد” أو “المتلبرلون الجدد” في سورية .
2
في زمن الاتحاد السوفيتي والنظم الاشتراكية في أوربا الشرقية كان لحفنة “المتلبرلين الجدد” في سورية مواصفات خاصة من حيث المظهر، والشكل، والسلوك، فقد كانوا يتشبهون بمظهر الثوري الملتزم الزاهد من حيث الشعر الطويل، واللحية الكثيفة، والملابس الرثة غير المرتبة، و يصاحبها التجرد من ربطة العنق، وتعهد عدم الاهتمام بالمظهر بشكل عام، ومن أجل الظهوربمظهر الثوري الأممي المتحمس من حيث الموقف والسلوك، فهم مع كل حركات التحرر الثورية في العالم، ومع حرب التحرير الشعبية، ومع فلسطين والمقاومة الفلسطينية التي اختزلت عندهم بالفصائل اليسارية فقط . أما الباقون، فهم فصائل رجعية من البرجوازية الصغيرة كما كانوا عن قصد، وبسذاجة طفولية للإيحاء والادعاء : بأنهم مثقفون ماركسيون لينينيون يتأبطون مجلتي : الهدف والحرية اليساريتين الفلسطينيتين، ويحملون في جيوبهم أشرطة غنائية ثورية ل”مارسيل خليفة”، و”سيد إمام”، وأشعار يلقيها “مظفر النواب”، و”محمود درويش”، ويعلقون على جدران بيوتهم صور”ماركس”، و”انجلز”، و” لينين”، و”غيفارا”، و”غسان كنفاني”، والمطرقة والمنجل أو على الأقل تعليق صورة “غيفارا” أو طبعها على قمصانهم مع عبارة فلسطين، والنزول بها إلى الشارع، وكانوا يعدون ممارسة هذه الشعائر تحدي للنظام الحاكم البرجوازي اليميني الرجعي، ونوع من النضال الثوري والبطولة الغيفارية كما كانوا يستخدمون لغة التطرف والمغالة، فيتكلمون عن الاستعمار، والرأسمالية، والإمبريالية، وحتمية انتصار الاشتراكية، ودكتاتورية البروليتارية بمناسبة وغير مناسبة، ويكثرون من استخدام كلمات مبهرجة منتفخة وفارغة، مثل : أممي وأممية، واشتراكي واشتراكية، وطبقي وطبقية، وثوري وثورية، و شعبي وشعبية، ورجعي ورجعية، وتقدمي وتقدمية، وبروليتاري وبروليتارية، وبرجوازي وبرجوازية، وذيلي وذيلية، وانتهازي وانتهازية، وعدمي وعدمية، وشوفيني وشوفينية، وإمبريالي وإمبريالية، وكوسموبوليتي وكوسموبوليتية، وبطريركي وبطريركية، واكليريكي واكليريكية، وكومبرادوري وكومبرادورية، ودوغماتي ودوغماتية، وديماغوجي وديماغوجية، وديالكتيكي ودياليكتيكية، ولاتكاد تمر جملة إلا وفيها إحدى هذه المفردات، ويرافق حديثهم شتم الذات الإلهية لإظهار تقدميتهم، وثوريتهم، ويساريتهم – ظهر غالبيتهم متعصبين لعنصرياتهم، ومذاهبهم، وطوائفهم بعد أن كانوا يغلفونها بالماركسية اللينينية واليسار – ، وكذلك كانوا متهتكين لا يحترمون القيم والعادات الاجتماعية السائدة، فهم يرون كل معاني الوجود كأس شراب، وجسد امرأة، ويحيطون حديثهم بهالة قدسية من التضحية، والإيثار الغيفاري، فضلاً عن التغني والتبجح بالتجارب الاشتراكية في العالم التي قادها أعتى الفرديون والبيروقراطيون الذين جعلوا من الجمهورية وراثية، ونقلوا هذا الداء الذي لا يحترم إرادة الشعب إلى العالم،ومنه وطننا، وكانوا مهووسين بالطهر الثوري، وقدموا أنفسهم غيورين على النقاء الأيديولوجي للماركسية اللينينية، فاتهموا بعضهم البعض بالتحريفية، والذيلية، وبالمواقف اليمينية تجاه البرجوازية الكبرى، وبالممارسات الخاطئة، والأساليب الضارة المخالفة لمبادئ الماركسية اللينينية، والأممية البروليتارية، ولكن ثبت إنهم لم يكونوا أبداً أفراد اصلاء مؤمنين حقيقيين بها، فقد كانوا يمارسون الماركسية اللينينية الخادعة، وليست الحقيقية والأصيلة، بل أن أدعياء الماركسية اللينينية أرادوا قولبة الناس على مزاجهم وعلى هواهم، فأسقطوا بطفولة وسذاجة رغباتهم ونزواتهم، وصنفوا الدول والأشخاص على أساس يساري تقدمي ثوري بروليتاري، ويميني رجعي برجوازي، وتناولوا تاريخنا العربي الإسلامي، فزعموا قراءته قراءة طبقية تقدمية يسارية، وأسقطوا هذه المفاهيم عليه، فهذه الدولة رجعية يمينية وتلك تقدمية يسارية، وهذا يساري ثوري تقدمي وذاك يميني رجعي، وذلك بروليتاري وذاك برجوازي، أو كان يسارياً ثورياً بروليتارياً، وجذبه اليمين البرجوازي الرجعي إلى صفه، وبهذا الجهل الفاضح خلطوا الماضي بالحاضر، وضربوا عرض الحائط بتاريخية منطق الأفكار والمفاهيم، فضلاً عن ذلك كانت نماذجهم وأسوتهم أو قدوتهم الحسنة من كل تاريخنا، وحضارتنا العربية الإسلامية العظيمة “الصعاليك، وتمرد الزنج، والقرامطة”، وهذا الغث منها، ويبدو إن أمراضهم وعقدهم الاجتماعية المرسخة في وجدانهم وانغلاقهم قد أسهمت كثيراً في اندفاعهم هذا، ولكن في ظل المتغيرات الدولية الجديدة، تناغم وانسجم “المتلبرلون الجدد” في سورية على إيقاع ما ذهب إليه “فرانسيس فوكوياما” في حتميته الجديدة من أن الديمقراطية الليبرالية تشكل النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية أو الصورة النهائية لنظام الحكم البشري، أي أن التاريخ قد انتهى مع انهيار الشيوعية وسقوطها، وأن الفكر الرأسمالي الليبرالي المبني على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ومبادئ اقتصاد السوق الحرة قد انتصر، وبما إنهم يبدون معمعيون بالفطرة دخلوا الساحة السياسية ركوباً لموجة وطمعاً بالظفر كان تقديرهم هو: إن الساعة قد أزفت لتحقيق طموحاتهم غير المحققة المنفلتة من عقالها، فهم يمنون النفس باستلام السلطة على غرار الطريقة التي تسلمها “ليش فاليسا” في بولندا، و”فاتسلاف هافل” في التشيك، وبما أنهم تقودهم اعتبارات تبدو مصلحية وغوغائية، فقد تخلوا عن المبادئ الاشتراكية والثورية الأممية، وأعلنوا تأييدهم للديمقراطية الليبرالية، وراحوا يمتدحونها بلا حدود، فرفعوا شعار”الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان”، وربما بهدف تسليط الأضواء عليهم لاستدراج عروض من الخارج، وأصبحوا يتحدثون عنهما بخشوع لاهوتي إلى حد أن أي مواطن بسيط ضعيف الثقافة قد يصدق بسهولة ما يدعون به، ولكن أحاديثهم هذه ليست في الواقع سوى “إفك، وتدليس، وتضليل، وانتهازية” لهذه القضية الضرورية والحيوية لأن كل فكرة رفع شعار “الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان”غطاء لممارسة صعودهم نحو السلطة، واحتكار مكاسبها، ومن ثم أن كل خطابهم الديمقراطي هو : كلام فارغ، وزائف، ومفتعل في خدمة هذا الهدف، فهم يستعملونه لخدمة مصالحهم الشخصية، وأنانيتهم الضيقة، فركب موجة الديمقراطية الليبرالية، وقبلها ركب موجة الماركسية اللينينية هو : زخرف يخفي دوافعهم الحقيقية من أجل الغنيمة والكسب، فهم يتحدثون عن”الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان”هذا الموضوع الضروري والحيوي لحياتنا بترف فكري، وكأنه يبدو انسياق لإرضاء الآخر الخارجي، في حين أنهم عندما كانوا رفاق ماركسيين لينينيين لا يشق لهم غبار يرفضون الديمقراطية الليبرالية البرجوازية، لأن مهمتها إدامة النظام الرأسمالي، ويتمسكون باستخدام الديمقراطية الثورية أو الديمقراطية البروليتارية، والمركزية المطلقة، ونظام الطاعة البروليتاري الصارم، فلقد كان ركبهم موجة الماركسية اللينينية ادعاء يخفي دوافعهم الحقيقية، وهي محاولة الاستمتاع بالحياة عن طريق الكسب السهل الرخيص للجاه الاجتماعي، والتحكم والتسلط على أي سبيل، فالاتحاد السوفيتي الذي كان عندهم نبراساً، وأنموذجاً، وموجهاً، وقائداً للحركة الثورية والحركة الاشتراكية في العالم انتهى إلى الأبد، وبما أنهم موهوبون وماهرون بالانتقال من خندق أيديولوجي إلى آخر، ويرمون راية، ويرفعون أخرى على مبدأ “مات الملك عاش الملك”، فلقد انتقلوا من ادعاء التعصب العقائدي للماركسية اللينينية إلى ادعاء التعصب الأيديولوجي للديمقراطية الليبرالية، وأصبحوا لسان حال الليبرالية بامتياز، وعدوها الوصفة السحرية الشافية، والمنقذة لحالنا، فالإنسانية قد وصلت بصورة لا لبس فيها إلى نهاية التاريخ، وأن ذلك حقيقة لا تقبل الجدل، و لهذا يحاولون فرض قناعاتهم و تصوراتهم الجديدة، وإطلاقها بشكل غير موضوعي ومتطرف أحياناً، ويقومون بمحاولة تعميمها، وكأنها واحدة من مسلمات التطور التاريخي، ويدافعون دفاعاً مستميتاً عن الليبرالية البرجوازية التي أصبحت حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش، فالجميع يجب أن يكون ديمقراطي ليبرالي، وكل من يحاول أن يكون متمسك بما يؤمن من أيديولوجية في رأيهم، فهو رجعي غير متحضر ذو عقلية متخلفة قديمة، وأن منطقه خشبي، ومن ثم، فهو شاذ، ومتطرف فكري، وأيديولوجي أو متعصب (قومجي عربي أو عروبجي) – في حين أن المتعصبين والمتطرفين من البغاث العنصري، والطائفيين، والمذهبيين، والإقليميين هم من فصيلة الملائكة في السماء، وفصيلة الصديقين في الأرض – ، وبهذا يحاولون إغلاق وسد باب الرأي الآخر، وقتل الاختلاف بحرمانه، وقمع القوى السياسية الأخرى المخالفة، فهم يقومون بعرض قناعاتهم وتصوراتهم الفكرية الجديدة، وممارساتهم السياسية على أنها الصواب المطلق، ويحاولون فرضها بلغة شعارات براقة كبيرة دون أن نلمس مقومات لها في الواقع، وغض النظر على ملائمتها للمعطيات الموضوعية لواقع المجتمع السوري أو عدمه، وهم يريدون تقديم الوطن والأكثرية العربية إلى مذبح مراهنتهم على الأقليات التي تبناها الآخر الخارجي لتحقيق أهدافه السياسية باسم”الضرورة السياسية والضرورة الوطنية”. وقد جهلوا أن لا سبيل على الإطلاق لنجاح أي مشروع مهما كان إذا لم تكن حاضنته الأساس الأكثرية العربية أو الأكثرية السياسية .
إن رفع ” المتلبرلون الجدد “شعارات”الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان”غطاء أخلاقي يتم توظيفه في سياساتهم، فهم يتاجرون بهذه القضايا بلا خجل، ولاحياء، وهم في الوقت الذي يتحدثون فيه كثيراً عن الديمقراطية، ويرفعونها شعاراً وأنها الحل لا يمارسونها في حياتهم العملية، إذ يغلب عليهم الانغلاق، وتوجهات الإقصاء، والنظر بدونية إلى الآخر المختلف، ويتفشى بينهم كثير من الأساليب والممارسات غير الديمقراطية، مثل : ظاهرة تقديس الفرد، والولاء، والخضوع له بشكل أعمى رقيع، فعندهم كلامه قانون، وإرادته أمر، وهم يسيرون على مبدأ”الراعي والقطيع”، وبسبب الانغلاق ينتشر بينهم التعصب العنصري، والطائفي، والمذهبي، والإقليمي، ويمارسون”الإرهاب الفكري” الذي يقوم على فرض قناعتهم وتصوراتهم، وعدم قبول وتحمل الرأي الآخر الذي يتعرض للإقصاء، وتسود بينهم علاقات الريبة، والشك وتبادل الاتهامات كما أن أسلوبهم في الكتابة، والمخاطبة، والحوار مع الآخر المختلف يتسم بالتوتر، والحذر، والارتياب، والسلبية، وفقدان الثقة، وتغلب النظرة الذاتية الضيقة، والانفعالية المتسرعة لأنهم ليسوا أحراراً في تفكيرهم، فهم لا يسلمون بحق الآخر في الحرية، والتفكير، والاعتراف بحقه في إبداء الرأي، لأنهم يواجهون الفكرة والرأي الآخر بالتشويه، والقمع، والتحريم، فكل مخالف لهم يتهمونه بالتخلف، و(القومجية العربية) مع أن”الديمقراطية الليبرالية”هي : احترام الآخر، والاعتراف بوجوده، والاستماع له، وعدم تكفيره، وإدانته، وإلغائه، فهي تقوم على الحواروالاختلاف، وإنهم يدعون الوصل بالديمقراطية كمنهج وأسلوب حكم، ولكن جهلوا : ان العبرة بالفعل وليس بالقول، فهم ينادون ويتغنون بالديمقراطية، ولا يمارسونها، وخاصة عندما تعني : الآخرين لكونهم موهوبون بامتياز في تكييف أنفسهم لتحقيق مكاسب مع تغير المراحل، ولذلك، فإن تبني وعرض فكرة”الديمقراطية الضرورة الحيوية” لنا من قبلهم تبقى غطاء لمحاولة صعودهم نحو السلطة، واحتكار مكاسبها، في حين أن كل خطابهم عن الديمقراطية، والليبرالية مثلما كان خطابهم عن الماركسية اللينينية هو : كلام مزيف فارغ في خدمة هذا الهدف، فهم يلبسون لبوس الديمقراطية، ويستخدمونها زينة ولعبة جميلة لكي يقال عنهم :”ديمقراطيون” لخدمة مصالحهم الشخصية، وأنانيتهم الضيقة ف”الديمقراطية” قد كثر الإسفاف في استخدامها من قبلهم إلى حد الابتذال من دون القدرة على معرفة جوهرها، وما هيتها التي هي ممارسة وأسلوب للتفكير، والسلوك والتعامل، فأصبحت لديهم نوع من أحكام القيمة، وهم لا يؤمنون بالتنوع، والاختلاف أبداًً مع ان هذا أمر واقع في المجتمع، وتقره الديمقراطية في إطار التنافس السلمي، ففكرة احتكار الحقيقة المطلقة، والصواب المطلق في الديمقراطية غير موجودة، لأنها تلغي فكرتي : الأكثرية، والأقلية السياسيتين، والتداول بينهما، وهذا يعني : إن تفكيرهم شمولي لا ديمقراطي .
إن”المتلبرلين الجدد” بنهجهم الملتوي، وسلوكهم الخاطئ قد سخفوا، وحطوا كثيراً من قيمة الديمقراطية الضرورة الحيوية لنا، وفي هذا الشأن قال”لينين” : “إن أوثق وسيلة للحط من فكرة سياسية جديدة، والإضرار بها هي : السير بها إلى حد السخافة، وذلك باسم الدفاع عنها”، ولذلك فإن الديمقراطية المطلوبة التي تليق بالشعب السوري، والتي يجب النضال السياسي الحثيث من أجلها هي : القائمة على احترام حقوق الإنسان، والتعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، ومن منطلق سعي وطني بحت، وليس عبر تبني أجندة الآخر الخارجي في هذا الشأن، ولكن”المتلبرلين الجدد” بأفعالهم الرقيعة، ومواقفهم الغوغائية في عرض قضية الديمقراطية بالشكل الزائف والمفتعل الذي سخفها وأفقدها قيمتها، ومكانتها وضرورتها الحيوية، وجعلها تتماهى مع الديمقراطية المفروضة بالقوة من الخارج، والتي رفع شعارها”المحافظون الجدد” في عهد إدارة الرئيس”جورج دبليو بوش”، وكانت محل انتقاد من قبل وزيرة الخارجية الأميركية السابقة “مادلين أولبرايت” التي أدلت قائلة : “إن الديمقراطية لا يمكن فرضها” مشيرة إلى أن”الغزو الأميركي للعراق أساء لسمعة الولايات المتحدة واسمها وأساء للديمقراطية”، وهؤلاء قد أفادوا النظام الحاكم المستبد كثيراً، وقدموا له خدمة جليلة لا يقدمها أعوانه عندما ربطوا بشكل ما بين المطالبة بالديمقراطية، وعرض الآخر الخارجي لها، فأضروا بقضية الديمقراطية، وبالشعب السوري التواق إلى ممارستها، وبقواه السياسية الأصيلة التي تتبناها عندما أصبح المطالب بتحقيق الديمقراطية، والمنادي باحترام حقوق الإنسان عميل للآخر الخارجي، وقد عبئت الآلة الإعلامية للنظام الحاكم كثيراً بهذا الشأن، وهنا تكمن المأساة للقوى الوطنية التي تناضل من أجل التحول إلى الديمقراطية في سورية من خندق وطني، وبقدرات وطنية بحتة .
3
إن انتقال جوقة “المتلبرلين الجدد” من معسكر الدعوة إلى بناء النظام الاشتراكي إلى معسكر الدعوة إلى بناء النظام الليبرالي، ورمي راية الماركسية اللينينية، ورفع راية الديمقراطية الليبرالية كان تكيفاً مع المتغيرات الدولية الجديدة، أو تحت ذريعة ما سموه بجلساتهم الخاصة في الغرف المغلقة ب”الواقعية السياسية والبراجماتية”، فلقد تحول مفهوم”العمل السياسي” لديهم من نشاط ثوري مبني على إستراتيجية واضحة إلى ممارسة مكيافيلية متقلبة تحت مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، أي تبرير الالتجاء إلى وسيلة غير مشروعة باسم “الغاية المشروعة”.
نعم صحيح أن السياسة فن الممكن، وإنها حالة نظرية وتطبيقية متكيفة مع متغيرات ومستجدات الواقع، ولكن ممارسة الواقعية السياسية، والتكيف مع المتغيرات والأحداث، ومسايرة الأمور، والدخول في المساومات لها أوضاعها وضوابطها القيمية، فلا يمكن للسياسي الحقيقي أن يمارس العمل السياسي بمعزل عن الحفاظ على الثوابت المبدئية المشروعة، والسلوكيات المقبولة التي توحي بالتقدير والاحترام، وغير ذلك لا يحق له أن يسمى”سياسياً”، ومع افتراض أو حتى التسليم بأن السياسة انطلاقاً من مبدأ”الواقعية السياسية”هي : صراع بين قوى، ولكن يجب أن يظل للسياسي الحقيقي الذي يحترم ذاته، ووطنه، وشعبه الالتزام بالقيم والغايات الأخلاقية، لا سيما وأن الواقعية السياسية تعني : التوتر الحاصل دائماً بين المطلب الأخلاقي ومتطلبات العمل السياسي، ولذلك يجب على السياسي الحقيقي الالتزام بمبادئ موزونة، والخضوع سلوكياً إلى مبادئ مشروعة، وقيم أخلاقية إذا ما عرفنا : إن”الواقعية السياسية” “تفترض النظر بعين الممكن إلى الواقع، وتحقيق التوازن الضروري المطلوب بين هذا الممكن الواقعي، وبين الواجب الفكري والأخلاقي الذي يمنح للعمل السياسي شرعيته”، واحترامه الشعبي، وعليه فإن الواقعية في السياسة لا تعني أبداً : التخلي عن العقائد، وإنما امتلاك القدرات والإمكانات الماهرة في الخلط بين الإستراتيجية، والتكتيك، واختيار الوسائل الناجعة، والطرق المناسبة التي تصل إلى الهدف المطلوب مع الاحتفاظ بالثوابت، والتقدير الشعبي، واحترام الذات.
أما فيما يتعلق بالبراجماتية، فهي : إسهام فلسفي أميركي، ولذلك فإن السلوك البراجماتي واسع الانتشار في الولايات المتحدة، لأنه جزء من الثقافة الأميركية، ويمثل الروح العملية للسياسة والسياسيين فيها بشكل خاص، فهم في الممارسة السياسية، وبروحهم الذرائعية لديهم الاستعداد للتكيف مع المتغيرات والمستجدات دون الاهتمام بالثبات العقائدي، في حين يمثل السلوك البراجماتي في ثقافتنا السورية التي تستند إلى القيم العربية الإسلامية الروح الانتهازية المرفوضة . أما في الثقافة الماركسية اللينينية، فتمثل الميول الانتهازية والتحريفية اليمينية، لأنه انزلاق إلى مواقع البرجوازية الصغيرة، وتخلي عن الموقف الطبقي، وتكريس ظاهرة الليبرالية، ولذلك فإن هذا السلوك المنحرف ليس له مكان يحظى بالاحترام والتقدير في الحياة السياسية السورية، فالانتقال من خندق فكري إلى آخر من دون إعطاء المبررات الموضوعية المقبولة أو إتباع سلوك سياسي من منطلق”الغاية تبرر الوسيلة” يشكل عيباً أخلاقياً، وهذا لا يعني أبداً : إن الانتقال من مبدأ فكري إلى آخر، وخاصة إذا جاء الانتقال عن طريق الدراسة العميقة الهادئة، وعن قناعة تامة ودون أي تأثير سبة ومن العيب، ولذلك فإن واقعية وذرائعية “المتلبرلين الجدد” في سورية تدخل في باب الانتهازية الفجة التي تصل إلى حد الابتذال في السياسة، بل إنها خروج واستقالة من السياسة.
إن واقعية وبراجماتية “المتلبرلين الجدد” في سورية دفعتهم إلى توظيف تاريخ رجل وطني، ومناضل عربي سوري كبير أفنى عمره تحت راية الماركسية اللينينية، ومبادئ الأممية البروليتارية، فاستغلوا تاريخه بفهلوة بعد أن كان بلا طموح سياسي، فأيقظوا فيه بقايا طموح الشباب على أثرة الشيخ الحكيم، والمعلم المتمسك بالنظرة الطبقية، إذ كانت مواقفه تنطلق من منطلق طبقي، وماركسي لينيني، لأنها الأصح والأكثر فعالية لديه، وكان وفياً لها بعد أن قضى سنوات عجاف من عمره خلف القضبان ثائراً ومحارباً دون هوادة، وبعزم ماركسي لينيني الاستبداد، والرأسمالية، والإمبريالية، إذ كان تعز عليه قضية الشعب، والطبقة العاملة، وجماهير الفلاحين الفقراء، والمثقفين الثوريين، وكان من المأمول منه بعد كل هذه التجربة النضالية الكبيرة كونه المؤهل ليكون عامل جذب، وقاسم مشترك تجتمع حوله المعارضة السورية في الداخل والخارج أن يغادر انتمائه تنظيمياً ، ويصبح شخصية سياسية وطنية مستقلة واجبه، ووظيفته، ومهمته الكبيرة توفير أفضل الشروط المناسبة، وخلق الأوضاع الملائمة لتجاوز حالة العزلة، والعداء، وضعف الثقة، والحذر، والارتياب، والسلبية الموجودة بين القوى السياسية السورية بتذليل الخلافات بينها لقيام تحالف عريض له برنامج وطني مقبول من الجميع على الرغم من اختلاف المنطلقات الفكرية، ومن ثم مواجهة النظام الشمولي، ومطالبته بالتحول إلى النظام الديمقراطي، وبذلك يتحول إلى رمز تجتمع حوله كل أطياف المعارضة السورية ينتمي إلى الجميع، ويمثل الجميع، ويوجه الجميع، ويقود الجميع في هذه المرحلة، ولكنه لم يحسن التصرف، ولم يرتق إلى مستوى المسئولية التاريخية، ويتخذ القرار الصائب الحكيم، ويبدو انه لم يقرأ جيداً ما يجب أن يكون دوره الوطني الجديد، وافتقر إلى النصيحة الرشيدة، والرأي الأريب، والسديد من قبل المحبين، وأهل الثقة، ومع الآسف، فإن الرجل على الرغم من سعة تجربته النضالية، ورحابة فهمه لم يسلم من تشويشهم، ولسنا ندري ما الذي جذبه إلى هذا الميدان على الرغم من سعة الرؤية لديه، فالتقدير الخاطئ دفعه إلى القيام بمناورات والتفافات كان بغنى عنها، فلجأ في وجل وسحر إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصده كما يذهب “ماركس”، واندفع في تبعية التشبه متقمصاً ومحاكياً دور الزعيم الوطني الراحل “أكرم الحوراني” في اللعب بميدان السياسة على الرغم من إن تقمص شخصية الغير، ومحاكاة الآخر إزهاق لمعالم الشخصية، وقتل للإرادة، والذات، والموهبة، والإبداع ، والتأثير، وإلغاء متعمد للتميز في الطرح، والتفرد في العطاء، ففرض قناعاته وتصوراته، وقرب وأبعد أشخاص، وتنظيمات في أثناء صيغة مشتركة من صيغ العمل السياسي المعارض من مقوماته الأساسية في لحظته التاريخية الراهنة للنجاح استعمال سياسة المرونة، والحوار، والتنازلات المتبادلة، والتوافق لمواجهة الاستبداد . وقد فاته : إن “أكرم الحوراني” بدأت ألمعيته تظهر حينئذ على المناورة والالتفاف في الساحة السياسية لامتلاكه المؤهلات والتأييد الشعبي في وقت كانت سورية متخلفة سياسياً، واجتماعياً، وثقافياُ، في حين نحن الآن نعيش في عصر القرية الكونية الصغيرة، وعالم الثورة التقنية الذي يتسم بالمعرفة والمعلوماتية، ومن الصعب تأدية الدور نفسه في الميدان السياسي، لأن أغلب الذين يمارسون العمل السياسي في سورية لديهم قدر عال من الثقافة والوعي السياسيين، ولذلك فإن تجربة “أكرم الحوراني” السياسية كانت تجربة تاريخية في وقتها، لأنها مقيدة بزمانها وأوضاعها، ولا تتكرر، فالتاريخ لا يعيد نفسه، لأن لكل حدث تاريخي أوضاعه، وملابساته، وأسبابه، وفرادته، ومن منطلق ماركسي، فإن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر بالمرة الثانية كمسخرة، وبسلوكه هذا فهو يعمل على أن يرجع التاريخ القهقرى، ويسير دولاب التطور إلى الوراء مع أن التاريخ في حركة سائرة دوماً إلى الأمام، فتجربة “أكرم الحوراني” التاريخية استثناء لا تشكل قاعدة، ولذلك لا يمكن الإقتداء إلا بوطنيته، ونزوعه الاشتراكي المنسجم معه بصدق.
ومن جانب أخر، وفي إطار ممارسة الشطارة قام “المتلبرلون الجدد” للانفراد بقيادة المعارضة السورية في الداخل والخارج، وتوجيه بوصلتها بتوظيف التاريخ الوطني والقومي ل”أكرم الحوراني”عن طريق تبني ابنته الدكتورة “فداء الحوراني” الوطنية والعربية الأصيلة، والتي نكن لها الاحترام والتقدير، ودفعها إلى واجهة قيادة المعارضة السورية مع أنها تفتقر وبشكل واضح إلى الخبرة السياسية، فهي لم تحنكها التجربة، وتصقلها الخبرة، ولكنها تمتاز بحسن النية والصدق، ودلالة ذلك سيرها في طرقهم المتعرجة والملتوية، ومسالكهم الخاطئة، وموافقتها على مفردات وجمل خطرة جداًًً جاءت في بياناتهم تؤكد على الطابع العنصري، والطائفي، والمذهبي لسورية العربية، فلو كان والدها “أكرم الحوراني”على قيد الحياة لما تجرأ شخص منهم على أن يقترب منه، ويعرض عليه ما جاء بها .
إن رفع “المتلبرلون الجدد” شعار”الواقعية السياسية والبراجماتية” قد نسوا أو تناسوا ما ذهبت إليه تعاليم الماركسية اللينينية، ونرى أنفسنا مضطرين إلى أن نعيد على أسماعهم فقرات وجمل مهمة من دروس”لينين” في هذا الشأن، وبالنص فهو قد أكد على :”إن عدم استخدام المرونة في جميع الأوضاع أمر غير جائز…، وعلى أنه يجب أن يتأسس التكتيك على حساب دقيق موضوعي…، وينبغي أن يكون عقل المرء في رأسه لكي يستطيع تحليل كل حالة على حدة…، ولا بد من مناورات، وتوافقات، ومساومات مع كل القوى … ، ولا بد من المناورات، والاستفادة من تناقض الأعداء… ، ولا بد من الاستفادة من الأوضاع لمصلحة الشأن العام …، وينبغي الجمع بين الإخلاص الشديد لمبادئ الشيوعية، وبين القدرة في الإقدام على جميع المساومات العملية الضرورية، والمناورات، والتوافق، واللف والدوران، والتراجع،وما إلى ذلك…، فهناك فرق بين مساومة تفرضها الأوضاع الموضوعية مساومة لا تنتقص بأي مقدار من الإخلاص الثوري والاستعداد للمضي في النضال من جانب العمال الذين عقدوا، مثل : هذه المساومة، وبين مساومة أخرى هي : مساومة الخونة الذين يلقون على العلل الموضوعية جريرة أنانيتهم، وجريرة جبنهم، ورغبتهم في التزلف إلى الرأسماليين …، وضرورة لجوء طليعة البروليتارية، وقسمها الواعي، أي الحزب الشيوعي إلى المناورة، والتوافق، والمساومات مع مختلف الفئات، وجوهر القضية كله هو في معرفة كيفية تطبيق هذا التكتيك لأغراض الصعود بالمستوى العام لوعي البروليتارية، وثوريتها، وقدرتها على النضال، وعلى الانتصار لا النزول بذلك المستوى…، وانه يستحيل الانتصار بدون تعلم علم الهجوم الصحيح والتراجع الصحيح”.
ولهذا، فإن”المتلبرلين الجدد” كما يقول “لينين”:”يمثلون إنموذج الثوريين الأردياء الهزيلين”، لأنه تسيطر على عقولهم روح المغامرة، والميول الانتهازية، ويتمتعون بضيق الأفق السياسي، لأنهم غير مستقرين أيديولوجياً، وغير منسجمين مع أنفسهم من حيث المبادئ، واحترام وتقدير الثوابت، فهؤلاء الذين أمطرونا على مدى سنوات طويلة بمفاهيم التفسير الاقتصادي للتاريخ، والحضارات، والطبقات الاجتماعية، والعمل وقيمته، والاستغلال، وخلق طبقة البروليتارية، وفائض القيمة، وتراكم المال، وعهد ديكتاتورية البروليتارية، وذبول الدولة وزوالها، ثم تخلوا عن النظرة الطبقية، والموقف الأممي، وأداروا ظهورهم للماركسية اللينينية، ومبادئ الأممية البروليتارية بحجة حقيقة المتغيرات الدولية الجديدة، وضرورة مواكبة العصر، والحداثة، والعولمة، والواقعية السياسية، والبراجماتية، والعملية، ولكن في المعايير القيمية الإنسانية والأخلاقية، وحتى في السياسية لا يمكن أن يسمى “الدجال” عبقرياً، والوصولي “ألمعياً”، والانتهازي “سياسياً”، و” المتمسك بما يؤمن متخلفاً “، أو (قومجي عربي) لغته خشبية يعيش خارج الزمان والمكان، فالسياسة بغير إيمان دجل وشعوذة، لأن أهم ما يقاس به الفرد، والأسرة، والمدرسة، والتنظيم، والمجتمع، والدولة، والمدنية، والحضارة، والدين هو : مقدار ما يتضمن كل منها من قيم خلقية، وهذه القيم هي الأساس الرئيس للحياة البشرية، فالسياسة لا تعني أبداً : التخلي عن الأخلاق، لأن أبرز ما يميز العلم السياسي : إنه علم تقييمي معياري، فغايته هي : التهيئة للمواطنة الصالحة لخدمة المصلحة العامة، ولذلك فإن واقعيتهم السياسية، وبراجماتيتهم هي : ضرب من الانتهازية، ومجرد بهلوانية، وسلوك محتالين، والشعوذة بعينها، ولعب كشتبانات، والثلاث ورقات في السياسة .
4
سورية، مثل أي بلد بالعالم يعيش بين ظهراني، أكثريتها العربية المطلقة أقليات قومية وافدة، ولكن ليست من ذات الثقل السكاني، وأن البقاع التي تعيش عليها هذه الأقليات جزءاً من أرض سورية العربية، ولم تأت عن طريق الاحتلال، وأن أبناء هذه الأقليات كانوا جزءاً حياً من صلب الدولة العربية السورية، و تسلموا فيها مناصب سيادية مهمة عندما كان ولاءهم لها حصراً، ولكن في ظل المتغيرات الدولية الجديدة، وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على صنع القرار الدولي سيطر منطق “الأقليات”على المنطقة بعد أن أقرها الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبموجبه تعطي المنظمة الدولية أو من تفوضه – مثل الولايات المتحدة و بريطانيا – الحق في التدخل في دول العالم دون إذنها، فبدأت محاولات خارجية مشبوهة لإبعاد هذه الأقليات عن وطنهم وأشقائهم العرب بالدعم غير المحدود لمحاولات الشق التي تقودها عناصر متطرفة ضالة في أوساطها لإيجاد التعارض بينهم، وبين الأكثرية العربية عن طريق المطالبة بامتيازات تتخطى حدود المواطنة، وترسيخ تحويل ولاء البعض منهم من الولاء لوطنهم سورية، وشعبها إلى ولاءات خارج الحدود تعيش على أوهام وخيالات مريضة، وأفكاروأيديولوجيات فاسدة، فضلاً عن تشجيع التخندق المتطرف وراء العنصرية، والطائفية، والمذهبية الضيقة على حساب الوطنية، فبدأت التنازلات من قبل عصابة “المتلبرلين الجدد” تزداد للأقليات للمزايدة السياسية عليها لتحقيق أهداف سياسية ترضي الآخر الخارجي ومصالحه، ومحاولة تحقيق مصالحهم الضيقة في الوقت الذي نرى البعض من أبناء الأقليات في سورية لم يحسم بعد مسألة “الانتماء الوطني” كما ليس عند البعض منهم شعور كاف بالانتماء إلى الوطن، ويتغلب عليهم انتماءات خارج الحدود، ولا يمكن القبول أبداً في ازدواجية الولاء على حساب الجمهورية العربية السورية، والتشبث بأوهام بالية، فالنقطة المهمة هي : ولاء أفراد الأقليات إلى الدولة السورية التي ينتمون إليها، ويجب عليهم البرهنة على هذا الولاء.
لقد بدأ “المتلبرلون الجدد” يدقون بنغمة ثابتة عن طريق خطاب غوغائي تافه وضعيف الحجة قائم على الصراخ، والمزايدة، والفوضى الادعائية والدعائية على أنهم محاربين ومهمشين سياسياً، ومعهم في الخندق نفسه الأقليات المنتهكة حقوقها، وأن بسبب التقاء الاثنين على المشروع الليبرالي- بالأمس كانوا مع المشروع الماركسي اللينيني-، فهم متهمون بالعمالة للخارج، وأن معاناة المتلبرلين لا تختلف عن معاناة الأقليات، وإنهم بين فكي كماشة الأنظمة الاستبدادية، والمعارضات الشمولية، ويقصدون حصراً “تيار العروبة السياسية”.
وبعد دخول جوقة “المتلبرلين الجدد” إلى ضجيج الزفة السياسية للأقليات بالصراخ المدوي، وبدون الإحساس بالمسئولية الوطنية اختزلت قضية حقوق الإنسان في سورية بمبالغة واضحة وطاغية من زاوية الأقليات للإيحاء بأن الأكثرية العربية تتمتع بكل حقوقها، ولا ضرورة إلى الخوض في مطالبها، وبدأت تطالب بإيجاد حل ديمقراطي عادل للأقليات لخلق انطباع كاذب ووهمي بأن قضية المواطنة في الجمهورية العربية السورية هي في أساسها قضية أقليات، وهذا ليس صحيحاً أبداً، فالأكثرية العربية في سورية هي المستباحة حقوقها، في حين أن الأقليات كانت وظلت مكانتهم محمية على الدوام، إلا أن المتغيرات الدولية الجديدة، وسيطرة الولايات المتحدة، وتصرفها بطريقة أحادية الجانب في شئون العالم، وسياستها التدخلية الحثيثة في شئون الدول التي وصلت إلى حد احتلال العراق، وتدمير مقومات الدولة فيه أعطت الدافع والحافز لبعض العناصر المتطرفة الحالمة، والواهمة كثيراً من الأقليات على المراهنة على السياسة الأميركية لفرض مطالب مشروطة، والمطالبة بامتيازات أكبر من الحجم الطبيعي لها، وليس المطالبة بحقوق المواطنة، والحقوق الثقافية والدينية التي تؤكد عليها المواثيق الدولية، فقدم”المتلبرلون الجدد”مسألة حقوق الأقليات السياسية، والثقافية، والدينية التي تؤكد عليها المواثيق الدولية إلى الرأي العام المحلي والعالمي بصورة مشوهة، ومغايرة لحقيقتها مستخدمين التدليس والتضليل / أولاً، وعن طريق الإيحاء زوراً أن سورية دولة متعددة القوميات، وهذا غير صحيح، لأن العرب يشكلون أغلبية مطلقة لا تقارن أبداً بالأقليات الصغيرة جداً، وثانياً / عن طريق محاولة بائسة للمساواة في التكييف القانوني الدولي بين حقوق الأقليات السياسية، والثقافية، والدينية، والشعوب المستعمرة لاستخدام حق تقرير المصير كحل لمسألتهم متجاهلين ربما عن عمد أو جهل حقيقة تعايش هذه الأقليات الوافدة مع أهل سورية العرب بصورة متآخية وسلمية غير قائمة على الاحتلال والقهر، وهذا باعتقادنا يستهدف غايتين : الأولى / تقسيم الدول، وخاصة سورية إلى كيانات صغيرة على أساس عنصري، ومذهبي، وطائفي، وهذا صعب جداً، والأخرى / تشويه حق الشعوب في تقرير مصيرها، واستخدامه في غير محله، ولذلك، فإن مفهوم “الشعب” لممارسة حق تقرير المصير يجب أن لا يختلط أو يتداخل بحقوق الأقليات العنصرية أو الدينية أو اللغوية التي جاء ذكرها في المادة /2/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة /27/ من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، فالمستفيد من حق الشعوب في تقرير المصير هي : الشعوب المستعمرة، ولذلك يخرج عن هذا المفهوم الأقليات القومية، واللغوية، والدينية المتعايشة مع باقي السكان دون عنصر الاستعمار أو القهر، فهذه ينحصر حقوقها الجماعية بالحقوق السياسية عن طريق تطبيق مبدأ “المواطنة” التي تؤكد عليها المادة /2/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على : أن”لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق، والحريات المذكورة في هذا الإعلان دون تمييز : كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الأصل الوطني أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر” أما حقوقها الثقافية والدينية، فتتم عن طريق تطبيق المادة /27/ من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، والتي تنص على : أن”لا يجوز إنكار حق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقليات عنصرية أو دينية أو لغوية قائمة في دولة ما في الاشتراك مع الأعضاء الآخرين من جماعتهم في التمتع بثقافتهم أو الإعلان عن ديانتهم، وإتباع تعاليمها أو استعمال لغتهم”.
إن عرض”المتلبرلون الجدد”مسألة الأقليات بهذا الشكل الخطر قد خرج من إطاره الطبيعي عن غير طريق المطالبة بالحقوق السياسية، والثقافية، والدينية إلى اتجاه خطر يمس بالسلامة الإقليمية للجمهورية العربية السورية، وهذه محاولة بائسة لتشجيع النهج الانقسامي لتفتيت دول المنطقة، وفي مقدمتها : “سورية” إلى دويلات عنصرية، ومذهبية، وطائفية، ومحاولة قيام دويلات الأقليات على هذا الأساس خدمة للكيان الصهيوني، فقيام مثل هذا الوضع يجعل منه الأقوى سياسياً وعسكرياً، وتقنياً، فضلاً عن كسبه شرعية الوجود، لأن ما كان شاذاً في قيام هذا الكيان أصبح الأساس الرئيس الذي تقوم عليه الدول في المنطقة، وهناك محاولة لاستغلال الأقليات للمساس بسلامة الدولة . وقد لعب الأجنبي على وتر التقسيم العنصري، والمذهبي، والطائفي قبل استقلال سورية، وتواصل بعد نيل استقلالها، وليس هناك مسألة مثل مسألة الأقليات استخدمت ستاراً للتدخل في الشئون الداخلية للدول، وبدل الحيلولة دون استغلالها من الآخر الخارجي تما هى”المتلبرلون الجدد” مع المشروع الخارجي فيما يخص الأقليات، وشجعوها على التماسك الحركي المستقل عن التكامل الوطني، فلجأوا إلى التحريض العنصري، والطائفي، والمذهبي لا لشيء إلا لأن رغبة طاغية تتحكم فيهم،فسابقاً كانوا يؤكدون على التركيب الطبقي، والآن يؤكدون على التركيب العنصري، والطائفي، والمذهبي أي عنصرة، وطوئفة، ومذهبة السياسة، وهذا يحمل مخاطر الانقسام، والحرب الأهلية .
إن المواطنة الصالحة تتطلب من أجل كمالها سلوكاً حضارياً، و”المتلبرلين الجدد” لا يتصفون به، وبعيدون عنه كثيراً، لأنهم يمتلكون غرائزودوافع بدائية تستند إلى رواسب عنصرية، وطائفية، ومذهبية، وإقليمية مرسخة في وجدانهم ، فإثارة النزعات العنصرية، والطائفية، والمذهبية، والإقليمية يجعل منهم سلاحاً خطراً في يد الأجنبي لضرب الوحدة الوطنية، ونياتهم، ومواقفهم، وسلوكهم تؤيد ذلك، فهم يؤدون دوراً تخريبياً بامتياز بعد مراهنتهم على الأقليات نتيجة تبني الآخر الخارجي لهم في برامجه تجاه المنطقة لإضعافها، ومن ثم تقسيمها، والانفراد بها لتحقيق مصالحه، فذهب بعضهم في مقالاته المتكلفة، ودون الإحساس بالمسئولية الوطنية، والاستناد إلى الجانب العلمي والموضوعي بالعودة إلى الإحصاءات الأممية حصراً، وبشكل يدعو إلى الارتياب إلى إعطاء بعض الأقليات نسبة إحصائية من عدد سكان سورية أكبر من حجمها الطبيعي على أرض الواقع، ومحاولة تعويم الهوية العربية لسورية عن طريق تجاوز حقائق التاريخ، والجغرافية، والديمغرافية تماهياً مع مشاريع خارجية مشبوهة تسعى إلى إلغاء هوية المنطقة العربية من أجل إدخال الكيان الصهيوني في نسيج المنطقة وقيادتها، وليس إرضاء لعيون الأقليات المغرر والمتلاعب بالبعض من أبنائها من الآخر الخارجي لكي يكونوا أداة متقدمة له في العبث وتخريب الوطن، ففي المنطقة مخططات لإقامة دويلات على أساس عنصري، ومذهبي، وطائفي ف”شمعون بيريس” يؤكد في مؤلفاته على واجب كيانه الصهيوني في أن يجعل من منطق دولة الأقليات محوره الدعائي والاتصالي، و معنى ذلك : إن لغة الأقليات، والدفاع عن الأقليات، وتأكيد نعرة الأقليات منطلق لتحقيق مثل ذلك التصور الذي يسعى إلى خلقه وبنائه الكيان الصهيوني، ولو في الآمد البعيد.
كما إن أفكار”المتلبرلين الجدد”البائسة، وكتاباتهم، وتبريراتهم، وخطابهم، ومواقفهم غير المسئولة المثيرة للاشمئزاز تجاه الأقليات التي راهنوا عليها بعد الاهتمام بها من الآخر الخارجي شجعت البعض من أفرادها، وأسهمت في تعبيد الطريق لهم، ودفعهم إلى اقتطاع أجزاء من أرض الجمهورية العربية السورية، وضمها نظرياً إلى خارطة دولة موجودة في أضغاث أحلام البعض من الذين يعاقرون الأوهام والأحلام دون أي رد فعل وطني من جانبهم، فقد التزموا الصمت المطبق، والسكوت المريب، كأن الأمر لا يعنيهم، وهذا يعطي المبرر، والذريعة، والحق للآخرين في إصدار أحكام قيمية سلبية ضدهم، واتهامهم بما يستحقون لتشجيعهم، وغض الطرف عن هذا السفه، ومن يفعل ذلك لا علاقة له بالقيم الوطنية التي يفترض أن تكون جوهر قضيتهم، فالوطني الحقيقي أمام وطنه ينسى المعادلات، ولا يجيد الحسابات، ولا يراهن على احد .
ومن الجدير بالإشارة إلى أن”المتلبرلين الجدد” كانوا في أدبياتهم الماركسية اللينينية أيام الاتحاد السوفيتي والنظم الاشتراكية في أوربا الشرقية :”يحذرون من إثارة المخاوف من الأكثرية العربية لدى الأقليات في سورية العربية، ويطالبون بعلاج مسألة الأقليات القومية من منطلق أممي، ومن منطلق مصلحة النضال المشروع لهذه الأقليات لنيل حقوقها، ومن منطلق مصلحة النضال المشترك لهذه الأقليات مع نضال حركة التحرر العربية، ويؤكدون على انه في الوقت الذي ينبغي مجابهة المظاهر الشوفينية في حركة التحرر العربي، والنضال ضدها بمختلف السبل ينبغي على الشيوعيين أيضاً معالجة ظاهرات الانعزال والحذر القوميين بروح أممية صحيحة بروح التعاطف مع الحركة التقدمية في حركة التحرر العربية، والسعي للتنسيق مع ممثليها من الديمقراطيين الثوريين لخوض المعركة المشتركة المعادية للإمبريالية والرجعية، وأن دفع حركة التحرر الوطني العربية إلى الأمام هو في مصلحة الجماهير العربية، ومصلحة القوميات الأخرى التي تعيش بين العرب، وأن سلوك غير ذلك لن يكون في مصلحة الأقليات القومية نفسها” – هذا كلامهم بالنص- .
إن”المتلبرلين الجدد”عندما بدأوا يطالبون بإيجاد حل ديمقراطي عادل لمشكلة الأقليات قد تناسوا : إن وضع سورية الحالي هو أساساً غير ديمقراطي، وليست فيه حقوق المواطنة، لأن الحد الأدنى لاعتبار دولة مراعية لمبدأ “المواطنة” من عدمه يتمثل في وجود دولة المؤسسات الديمقراطية، وعد جميع السكان الذين يتمتعون بجنسيتها مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وعندما يتحقق انتماء المواطنين جميعا للوطن يتحقق ولاؤهم لوطنهم، وحسب الدستور السوري النافد : يتمتع جميع المواطنين بحقوق متساوية غير أن الحال لم يكن كذلك على صعيد الواقع، إذ تم حرمان الشعب السوري كله من المشاركة السياسية، فالنظام الحاكم الشمولي الذي نصب من نفسه قائداً للدولة والمجتمع قيد كثيراً من حقوق المواطنين وحرياتهم، وجعل المشهد الوطني السوري يعاني اختلالاً مما أدى إلى أزمة حقيقية تنخر في المجتمع السوري في ضلالة أيديولوجية الانقلاب، وثقافة الشمولية، ومنطق القهر، وروح الإقصاء، وسياسة التهميش ضد الآخر المختلف، ولذلك فالتمييز ضد الأقليات أمراً مرفوضاً، وأن تبني مبدأ التسامح وقيمه الأساسية عن طريق إقرار الحقوق السياسية، والحقوق الثقافية، والدينية لهم يشكل المدخل الحقيقي لقطع الطريق على أي سياسات خارجية مشبوهة تستخدم سلاح الأقليات لتنزع المواطن من وطنه عن طريق تحويلهم إلى أداة مشاركة بالنشاطات المعادية لتمزيق الوطن وسلامته الإقليمية، لا سيما أن الاختلاف في القومية والدين لا يحول دون الانتساب لمواطنة مشتركة، ونحن نعتقد جازمون : إن السوريين قادرون على ذلك، لأنهم مؤمنون بأن ما يجمعهم هو أقوى بكثير مما يفرقهم، ولذلك سيتفهمون أكثر من أي وقت مضى حاجتهم للعيش المشترك على وفق دستور جديد يحتكم إلى العقل، وحقائق التاريخ، والجغرافية، والديمغرافية عنوانه الأبرز: التسامح القائم على الاعتراف بالآخر، والإقرار بحق الاختلاف، ولكن هذا لا يعني أبداً : تبني مبدأ عنصرة، وطوئفة، ومذهبة السياسة، لأن ذلك يحمل مخاطر قاتلة، بل يجب بناء المؤسسات على أسس ديمقراطية دون تمييز أو إقصاء فالوطن للجميع، وكل مواطن هو ركن أساس فيه.
وتبقى ضرورة المحافظة على السلامة الإقليمية للدولة هو من الاهتمامات المشروعة لكل دولة، ومواطنيها الأصلاء الغيورين، فصلب المصالح يشمل حماية كيان الدولة، وتأمين بقائها ضد كافة التهديدات الخارجية القائمة والمحتملة، وهذا النوع من المصالح لا يقبل مقايضة، لأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بالسيادة، فالقوانين الأممية تؤكد على حق أي شعب في ممارسة سيادته، وفي سلامته الإقليمية، وعدم جواز التدخل في شئونه الداخلية، وعلى الأقليات السورية ايلاء احترام تام لسيادة وسلامة وطنهم سورية، وعدم السماح للأجنبي التدخل في شئونه الداخلية، وهذا مهم لقطع الطريق على استغلالهم في نهج يؤدي بالنتيجة إلى المساس بسيادة وطنهم، ولذلك فإن”المتلبرلين الجدد” ما كان يمكن أن يجرؤا على أن يمارسوا وظيفة الابتذال السياسي التي تبدو، وأنها تتفق بشكل ما بتحقيق أهداف سياسة الآخر الخارجي لولا الضعف الوطني والعربي، وتتحمل كافة القوى الوطنية السورية، وخاصة “تيار العروبة السياسية” شطحات، واندفاعات المراهقة السياسية لهؤلاء النفر التائه والضال بسبب سكوتهم عن عدم المواجهة الفكرية والسياسية الصارمة لهم لاستخدامهم الأقليات ضد سورية الأرض والشعب، وعليه لا يمكن أبداً للوطني الغيور التقاعس عن الواجب الوطني، والقومي، و الشرعي، والتعامي عن الخطر المحدق بسلامة أرضنا العربية، ووحدة شعبنا السوري، وإلى من يهمه الأمر أن يعي ويفهم : إن لا سبيل على الإطلاق لنجاح أي مشروع مهما كان إذا لم تكن حاضنته الأساس الأكثرية العربية، وأن سورية العربية تبقى وطن وضريح لكل من ينتمي إليها، ويكون من أهلها، ومن أكثريتها الوطنية باللسان والجنان .
5
لقد بدأ البعض من شلة “المتلبرلين الجدد” في سورية يقدمون بعضهم البعض إلى الرأي العام السوري، وحتى العربي على أنهم مفكرون، وكأن كل من خط بالقلم، وصف جملة مفيدة، وكتب مجموعة مقالات هنا وهناك أو سفسط كلام أو كتب كتاباً أو دراسة علمية أصبح من فئة المفكرين، وهذا من الجهل والبساطة، والادعاء الفارغ، والضحك على الذات والآخرين، فليس من بين هؤلاء المدعون من يتمتع بشخصية المفكر الرائد الذي لا يكذب أهله، والذي هو أكثر الناس حكمة، وعلماً، وثقافة، ويظهر اهتماماً خاصاً بالقيم المركزية السائدة في مجتمعه، ويتولى مهام مميزة وكبيرة، فهو عالم، وخبير، ومجرب، ومنظم، ومرب، ومحرض، ومحرك، وموجه، ونذير، وبشير كونه صاحب فكر نير ونظرية خلاقة تكمن مكانته في تكوينه الفكري والسلوكي لامتلاكه عمق الفكر، وصفاء الروح، وتفرده في الإبداع والإنتاج الفكري، وتميزه بالطروح والحلول الناجعة، وتحليه بالقوة، والعزم، والإيمان، والانموذج بالبذل، والتضحية، والإيثار، والنابع من آلام وآمال شعبه، والمنطلق فكره من قاعدة أصالة أمته الثقافية والحضارية، والواثق بقدراتها، والمؤمن بمكانتها ودورها الإنساني، ومن الدافعين بالحياة فيها إلى الحركة لإسهامه في مواكبة العصر وصناعة التمدن، فالمفكر شخصية من نوع خاص، ولذلك فهو يمثل علامة مضيئة لأنه من فئة المثقفين الذين يمثلون صفوة الصفوة، ونخبة النخبة، وطليعة الطليعة، فمواهبه، وقدراته، وصفاته تجعل منه من أهم الأشخاص، لأن لديه من الإمكانات الفكرية، والقدرات المعرفية بما لا يتوفر لدى غيره لسعة ثقافته، وسلامة فكره، وبعد نظره، وحسن تخطيطه الاستراتيجي لربطه الغاية بالوسيلة، والنيات بالقدرات، والأهداف بالموارد، وغزارة إنتاجه الفكري والعلمي، وحمله راية التغيير لتفسيره، وتحليله الواقع، وتقديمه الحلول الناجعة لتغييره، وإعادة بنائه من جديد على أسس سليمة وصحيحة بناءً على رؤيته الفكرية، وخطة عمله، فسمو هدفه وعظمة غايته، تطور وتقدم شعبه ليرقى إلى درجات الكمال كونه صاحب مشروع ورسالة ثقافية وحضارية، فهو العقل المفكر اليقظ ، والقلب النابض الحيوي، والضمير الرقيق الحساس لشعبه ولوطنه، وهو أدق من يتفهم المشكلات و الأزمات، ويعين الأهداف والغايات، ويرسم الخطط والاستراتيجيات، ويحدد المهام والواجبات، لأنه من يحس ويتلمس، ويدرك ويعي، ويعيش تحت وطأة مشكلات وأزمات شعبه ووطنه، فيشعر دائماً بالخطر المحدق بهما، وهذا الإحساس العالي بالمسئولية يدفعه إلى أن يكون نذيراً وبشيراً لهما، ولذلك فإن المفكر الحقيقي من تماهى مع مشكلات وأزمات شعبه ووطنه، ويقاس به القدرة على التحدي والمواجهة، والقابلية للعبور بهما إلى بر الأمان والبقاء، بحكم مهمته كونه دليل ماهر في الطريق، ووقوعه على الحقيقة ، ففي أوقات المشكلات والأزمات لحلها ومعالجتها يجب أن يذكر شعبه بحضارة وأمجاد أمته، ولاطلاعه على ثقافات العالم، فواجبه تذكير شعبه ببعض الحقائق الأساسية عن تاريخ وحضارات الأمم الأخرى، وتطورها، وتقدمها ورقيها سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وإعلامياً، وعسكرياً، وعلمياً، و فكرياً، وتقنياً، ومدنياً، وحضارياً للاستفادة من خبرتها وتجربتها، وبما انه من العناصر المؤثرة في صياغة الوجدان العام، لأنه يمثل ضمير ووجدان شعبه، ويحتضن قيم أمته، ويعبر عن صوتها العالي، فإن مواهبه الخلاقة، وقدراته المتميزة، وطاقاته المتجددة، وصفاته الحميدة، و تفرده بالإبداع والعطاء، وتميزه بالطروح والحلول الناجعة تجعله يحتل مركزاً فعالاً موجهاً إلى التطور، والتقدم، والرقي، إذ في رؤيته الفكرية يستعيد الشعب ثقته في ذاته، فأطروحاته، وحلوله، ومواقفه الفكرية والسياسية تزيد من قدرة الشعب على التحدي، والمواجهة لتجاوز الأوضاع لوعيه القوانين الموضوعية للواقع التي من أبسط بديهياتها عد المشكلات والأزمات في حياة الشعب والوطن حدثاً عابراً قابلاً للحل لا حتميات .
إن المفكر الحقيقي هو من أهل الهمم العالية، والعزائم القوية، والرغبات الصادقة في تخليص شعبه من مشكلاته وأزماته لينطلق في الحياة، ويكون له مكان بين الأمم، وتحت الشمس، فهو يعبر عن أصالة وطنه وأمته القادرة على تجاوز مشكلاتها وأزماتها، وإعادة تكوين ذاتها، فقوته مستمدة من الإيمان بثقافة وحضارة شعبه، ومن إخلاصه لها، ومن الموقف القوي الذي يتخذه، ويسير عليه، وأهميته تتوقف على الدور المسئول الذي يقوم به، فهو بما أوتي من إمكانات فكرية عالية، وقدرات معرفية واسعة، ولأنه في مقدمة من يرفض واقع مجتمعه بكل ما فيه من عيوب قادر على أن يستنهض الهمم لتجاوز واقع الحال السلبي للوصول إلى مستوى الكمال ببث الحياة الصحيحة في المجتمع، والأخذ بأسباب التطور، والتقدم، والرقي لأفراده بتحفيزه الصفات الحميدة، والمواهب الكامنة في أبناء شعبه بإبقاء جذوة الأمل فيهم حية مهما واجهوا من مشكلات وأزمات، وإفهامهم إنهم يمرون بمحنة وشدة سوف تزولان، فمهمته يحتاط ويحذر لإيقاظ أمته من الغفلة، وإنقاذها من الخطر، ولذلك من أولويات الهموم التي يجب أن تشغله هو : إعادة الثقة إلى النفوس، وتحويل العجز إلى قدرة بتنبيه أبناء وطنه لكي يصحوا على أوضاعهم السلبية، ويدعوهم إلى مواجهتها وتجاوزها، والتطلع بجسارة إلى اقتحام المستقبل الذي هو انجاز وليس هبة .
إن وظيفة المفكر الأصيل، ورسالته الأساس هي : الإسهام في تطور، وتقدم، ورقي شعبه ليرقى درجات الكمال عن طريق التغلب على الصعوبات والتحديات التي تواجهه بتقدير دقيق لمشكلات وأزمات مجتمعه ووطنه، وأن في مقدمة واجباته أن يكون فاهماً لحقيقة تلك المشكلات والأزمات واعياً لها منبهاً إلى وجوه الخطر فيها، ويقوم في تشخيص الداء، ووضع الدواء، وأن يدرك ويعي : إن المشكلات والأزمات التي تجابه الشعب والوطن كلية، وأخرى جزئية، فلا يجوز إهمال الكلية من الأصول، والانصراف إلى معالجة الجزئية من الفروع، وان واجبه في هذه الأوضاع لا يقحم المشكلات على الأزمات إقحاماً، ويتناولها جملة واحدة، وأن يتدرج في اختيار حل المشكلات، ومعالجة الأزمات التي تواجه تقدم، وتطور، ورقي شعبه ووطنه، بتناوله الأهم فالمهم .
إن بعض المدعين بأنهم مفكرون من”المتلبرلين الجدد” الذين غيروا انتماءاتهم، وولاءاتهم الفكرية والسياسية دون أن يغيروا ما في أنفسهم في الوقت الذي يجابه فيه الشعب والوطن مشكلات وأزمات بدون حلها ومعالجتها تتعسر الحياة، تدور أكثر مواضيعهم حول مسائل جزئية تافهة، بل لا تستهدف في أحيان كثيرة أي موضوع حقيقي، فهم يثيرون مجموعة من المسائل الفرعية والهامشية، ويقومون بتغذية شهوات الجهلة، وغرائز المتخلفين المرضى من بغاث العنصريين، والطائفيين، والمذهبيين، والإقليميين الذين يملكون رغبات غير مشبعة، وطموحات غير متحققة، أي أنهم يلهون عن حلها و معالجتها بالسفسطة والثرثرة الفارغة، والعبث الغوغائي الطفولي ليرضوا نزوات مريضة تصرفهم عنها، في حين تحتاج فيه إلى جهد فكري موضوعي، ونيات وطنية صادقة بعيد عن الغوغائية والردح، ويبدو إنهم يستسلمون بسفاهة لأضغاث أحلام جهات، ودوائر مشبوهة، ولبعض إدارات أنظمة قوى كبرى وعظمى غربية أحقادها التاريخية على العرب والمسلمين أفقدتها البصر والبصيرة، فوقعوا تحت تأثير ضغط الانبهار بثقافتها العدوانية المشوهة التي ما تزال تحت سلطة غرائز الأثرة والتحكم، وتنظر إلى الآخر المختلف حضارياً بدونية، وأفكارهم البائسة، ومواقفهم المثيرة للاشمئزاز تؤيد ذلك، في حين أن المفكر الحقيقي تكون ثقافة وحضارة شعبه قاعدة وأساس فكره مع انفتاحه، وتفاعله مع ثقافات وحضارات الأمم الأخرى، كما انه يرفض سفساف الأعمال، والأمور التافهة، ولا يكون أداة للغير وبوق، ثابت الجأش لا ترهبه السلطة أو يغريه المال أو الجاه، يترفع عن الصغائر، ويسعى إلى الرفعة والسمو، ولا يهتم إلا لمهمات الأمور، فوظيفته تفرض عليه أن يضع مصلحة الشعب والوطن فوق أي مصلحة، لا سيما، وأن له مكانة فكرية، ومعنوية كبيرة، ومهمة عند شعبه، وفي وطنه، لأنه صاحب مشروع ورسالة ثقافية، وحضارية، وإنسانية لا يقصد من ورائها أي مكسب أو غنم، فهولا يبحث إلا عن تطور، وتقدم، ورقي شعبه، ووطنه، وأمته عن طريق العمل الجاد الحثيث على انبعاثهم، وتحقيق ذاتهم بأن يكون لهم مكانة بين الأمم، ودور في الحضارة الإنسانية .
6
إن عملية التنمية، والتطور، والتقدم، والرقي تتم عن طريق العودة إلى المنابع الروحية، والأصول الحضارية مع انفتاح راشد على العصر ومدنياته، وحضاراته الإنسانية الأخرى، والاستفادة من كل ايجابياتها، ولكن شرذمة “المتلبرلين الجدد” يطلون علينا من شرفة الآخر، ويحاولون استيراد حلول جاهزة لأوضاعنا عن طريق التبشير بالحداثة والعصرنة على الطريقة الغربية بعد أن انبهروا وفتنوا فجأة بالغرب، وسيطرت على قلوبهم وعقولهم الثقافة الغربية، وأقروا لها بعالمية تتخطى حدود الثقافات والحضارات الأخرى، فانقلبوا إلى محطة تبشيرية هزيلة لها بعد أن اغترابوا وارتبطوا بها، وعدوها معيار التقدم والتمدن، فقام خطابهم الفكري، والسياسي، والإعلامي على استحضارها، وتحولوا إلى قلم وبوق لها، وابتعدوا عن تراث الآمة وحضارتها، وأعلنوا احتقارهم لها، وإحساسهم بالتميز عنها، وخجلهم من الانتماء إليها، فاشتدوا في الهجوم على ثقافتنا وحضارتنا العربية الإسلامية إلى حد الابتذال، فوضعوا التراث موضع التناقض مع المعاصرة، وغفلوا أن حركة المجتمع تأخذ اندفاعها من معطيات الماضي لتواجه الحاضر، وتقتحم المستقبل، فالأمة التي لا ماض لها لا يمكن أن يكون لها مستقبل، فالعبرة من العودة إلى الماضي هي لإدراك الذات، وفي تاريخنا من القيم الثقافية والحضارية ما هو كفيل بان يكون لنا حافز للتقدم إلى الأمام، ولكنهم شنوا حملة غوغائية عنيفة على ثقافة وحضارة العرب مركزين في السلبيات بشكل يثير الدهشة، والاستغراب، والاستنكار مع أن لكل امة في حياتها سلبيات، فالتخلف مثلاً ليس له علاقة بنا كعرق عربي ودين إسلامي، فالعيب ليس فيه، فلقد حصل لشعوب أخرى خلال مراحل تاريخها، وهو حاصل اليوم لأكثر شعوب الأرض، وإنما العيب في التقاعس عن مكافحته ، وأن مصير أي أمة من الأمم متوقف آخر الأمر على مؤهلاتها للحياة لا على الأوضاع التي تحيط بها، فالأوضاع قد تقدم بعض الشيء أو تؤخر، ولكن كما يبدو أن لهم موقف أيديولوجي من التراث والحضارة العربية الإسلامية، لأنهم يصورون كل ما هو عربي بشكل سلبي، ويرددون الخطاب الشعوبي القديم نفسه، إذ يرمون العرب بكل العيوب، لأنهم معبأون بأحقاد العنصريين على العرب، فموقفهم ليس مجرد موقف سلبي بقدر ما هو أيديولوجي، ولذلك يؤدون دوراً تخريبياً بامتياز، فأسلوبهم فج، فهم يتحاملون على قدرة الأمة على الانبعاث، وتحقيق الذات بان يكون لها مكانة بين الأمم، ودور في الحضارة الإنسانية من جديد، فعلى الرغم من أن الوجدان العربي السوري ما يزال متعلق بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية أعلنوا الحرب عليها، وجعلوا منا نحن المعتزون بهويتنا، وثقافتنا، وحضارتنا العربية الإسلامية – (القومجية) – متهمين بإثم كبير، وعقوبتنا الطاعة الملزمة لأفكارهم المعلبة المستوردة، نعم هناك مشكلات وتحديات تواجه مجتمعنا السوري، واعتقد لدينا القدرة على مواجهتها، إذ أدركنا قيمة العلم والتعليم، وأمنا بالديمقراطية بالقول والفعل، فالحداثة والعصرنة تحصل بدون الحاجة إلى نقل التجربة الغربية عن طريق أن يكون لدينا مشروعنا الوطني الخاص مع الاستفادة بما لدى الآخر من خبرة وتجربة، ولكن عن طريق مشروعنا الثقافي والحضاري المستلهم من تراث هذه الأمة وحضارتها، فالعالم اليوم قد ارتبط بعضه ببعض، وأصبح قرية كونية صغيرة نتيجة للثورة التكنولوجية في وسائل الاتصال والمواصلات، ومن الصعوبة الانغلاق أو القطيعة الحضارية، ولكن، أي محاولة لاستيراد أفكار خارجية لا بد أن تخضع لعملية توفيق تجعلها متلائمة مع مفاهيم المجتمع، أي ضرورة المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، ولا بد من تدشين عصر جديد قاعدته الأصالة، وبنيانه المعاصرة عن طريق الموازنة بين تحديات عصر العولمة، والمحافظة على الهوية العربية الإسلامية لمجتمعنا السوري، إذ لا نصبح مجرد متلقين لقيم الآخر دون مساءلة، ولا نسعى في الوقت نفسه إلى الانعزال عن العالم المحيط بنا دون الأخذ بما هو ايجابي من قيم العولمة، ولذلك لا بد من التعامل مع ثقافة العولمة بحكمة توازن بين الاستفادة من ايجابياتها، والحفاظ على القيم العربية الإسلامية للمجتمع السوري . ولكن”المتلبرلين الجدد”يريدون نقل التجربة الغربية إلى بلادنا بحذافيرها من دون أقلمتها مع القيم السائدة، ففي ظل المتغيرات الدولية الجديدة انتشرت الدعوة إلى تبني الديمقراطية الليبرالية، وبشكل محموم مع أن تطبيقها وتحقيقها في البلدان التي خضعت للنظم الاستبدادية لمدة طويلة، مثل سورية : عملية صعبة وشاقة، ومحتاجة إلى مستوى ثقافي معين، ومن البناء الديمقراطي والارتقاء بحقوق الإنسان، وفي هذا الشأن تقول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة “مادلين أولبرايت” :”الديمقراطية عملية مستمرة، وتحتاج إلى وقت، وهي لا تعني الانتخابات فقط، بل تحتاج إلى وجود مؤسسات، ومعارضة قوية، ومجتمع مدني، وإعلاء حكم القانون”، ولكن ما يطرحه”المتلبرلون الجدد”يشكل ظاهرة من الانسلاب، والارتهان الحضاري، فهم ما يزالون يتمسكون بالديمقراطية الليبرالية بصورتها المطبقة في الغرب، والتي هي حصيلة تطور كبير مر به الغرب استغرق أكثر من قرنين، ولكن هذا الانموذج الديمقراطي الغربي ليس من شأنه أن يساعدنا على تحقيق أهدافنا في بناء مجتمع عصري ومتمدن، لأن مجتمعنا السوري غير جاهز من الناحية الثقافية لتطبيق مثل هذه الديمقراطية في الوقت الحاضر، فالمجتمع ما زال يعيش حالة من التخلف- يتحمل النظام الحاكم مسئولية تخلف الثقافة الديمقراطية للشعب السوري – مما يشوه الصورة لهذه الديمقراطية التي يجب أن تتأقلم وتتكيف مع أوضاعنا، ومن قاعدة الإيمان بمبدأ “المواطنة”، واحترام حقوق الإنسان، والتعددية السياسية، وتداول السلطة سلمياً، والعدالة الاجتماعية، أي الجمع بين الحرية السياسية، والحرية الاجتماعية، والتوافق بين الأصالة والمعاصرة، فنحن نريد ديمقراطية تكون في مصلحة أكثرية الشعب السوري، وتحافظ على التكامل الوطني، ومتلائمة مع قيمنا وثقافتنا العربية الإسلامية، ومع انفتاح وتفاعل، وانطلاق على أفكار وتجارب، ومتطلبات العصر والحضارة الإنسانية، ولكن”المتلبرلين الجدد”جهلوا : إن الديمقراطية ليست وصفة طبية جاهزة، فهي لا بد، وأن تنسب إلى المكان والزمان، وتمارس في واقع اجتماعي محدد، لذلك لا بد أن ينسجم التطبيق الديمقراطي مع القيم، والحقائق الثقافية والحضارية للشعب السوري من دون إغفال معطيات العصر، وتجارب وخبرات الشعوب الأخرى، أي لا بد من إيجاد حل متوازن لمعادلة الأصالة والمعاصرة بحيث لا يصبح مفهوم الديمقراطية غريباً، فالثقافة والحضارة اليابانية ازدهرت، لأنها استطاعت أن تأخذ من الثقافة، والحضارة الغربية أسمى ما وصلت إليه من التقدم مع محافظتها على تراثها الروحي والفكري، فلو كان”المتلبرلون الجدد”صادقين بالقول والفعل، ومؤمنين حقيقيين ب”الديمقراطية الليبرالية” لقاموا بصياغة المشروع الديمقراطي الليبرالي بعد إخضاعه لعملية توفيق تجعله أقرب لطبيعة المجتمع السوري، ومتلائماً مع مفاهيمه، ولكنهم ارتهنوا لتقليد الانموذج الثقافي الغربي بحذافيره دون موازنته بالقيم المحلية السائدة، وقد قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة “مادلين أولبرايت” :”إن لكل دولة ثقافتها وعاداتها، وأن الديمقراطية تختلف من دولة لأخرى”، ولذلك فإن الهجوم على التيار الديمقراطي الليبرالي بدعوة أنه عميل للغرب، ويتحرك في فلكه ومشروعه لإعادة استعمار المنطقة من جديد يتحملها هؤلاء الغوغاء الرداحون الذين لا ينتمون إليه بالحقيقة، ونحن من منطلق عربي إسلامي منفتح على معطيات العصر، واحترام الفكر الإنساني، والرأي الآخر ضد كل من يقول : بأن من يدافع عن الديمقراطية الليبرالية، ويؤمن بها، ويدعو إلى تطبيقها في بلادنا، فهو موال للآخر الخارجي، لأن بعد استقلال سورية طبقت في بلادنا، ولكن بما ينسجم مع قيم، وثقافة، وطبيعة المجتمع السوري العربي الذي يشكل فيه الإسلام كديانة، وثقافة، وحضارة أساساً مهماً في تكوينه النفسي والحضاري، وفي بنيته العقيدية والاجتماعية .
ولذلك فإن محاولة طرح قيم جديدة مستوردة، وتشويه وإلغاء قيم سائدة بما يتفق وأهداف سياسة الآخر هو : محاولة بائسة لعولمة ثقافة، وحضارة الغرب لتنميط الجميع بدعوة الحضارة العالمية الواحدة، وتسيدها كانموذج للحضارة الإنسانية الشاملة، في حين ما يزال الغرب تحت سلطة غرائز الأثرة والتحكم، ففي الماضي اتجهت سياسة الدول الاستعمارية نحو طمس الهوية الثقافية والحضارية للشعوب المستعمرة، وفصلها عن تراثها القومي بغية تفكيك الشخصية القومية، والقضاء على هويتها، وإغراقها في ضياع تام، واليوم يسعى الغرب إلى فرض انموذجه الثقافي و الحضاري على العالم بفضل تفوقه العلمي والتقني مما أخذ يهدد ثقافات وحضارات الأمم الأخرى بالذوبان والانقراض، لذلك فإن ثقافات وحضارات الأمم الأخرى مهددة في الوقت الحاضر أكثر مما كانت مهددة في الماضي، وهي مطالبة بمضاعفة الجهود التي تحافظ على وجودها، وهويتها الثقافية والحضارية، فوجود الأمم يرتبط بوجود ثقافتها الخاصة، وهويتها المميزة، فإذا زالت ثقافتها أو انمسخت في ثقافة أخرى زالت تلك الأمة من الوجود، وفي هذا الشأن يقول “فرانز فانون” :”لا أمة بدون ثقافة خاصة، ولا ثقافة بدون أمة”، والأمم الحية لا تتأقلم أبداً بإطار ينفي قيمها الثقافية والحضارية، ويفرض عليها الخنوع والذوبان في ثقافة وحضارة الآخرين .
إن حضارة كل أمة هي : “مجموعة القيم، والمبادئ، والمفاهيم التي تؤمن بها وتعتنقها، وتوجه سلوكها، وتقوم مجتمعها” . إنه تراثها التي استقام لها عبر القرون، وعن طريقه تكونت أخلاقيات وصفات نابعة من ركائزها الروحية، وأصولها الحضارية، فهوية أي أمة هي : صفاتها التي تميزها عن باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الثقافية والحضارية، ولكن المفارقة في الوقت الذي يساندون فيه حقوق الأقليات العنصرية، والمذهبية، والطائفية ، ويدافعون عنها بقوة يراد لنا وحدنا أن نتنكر لحضارتنا الروحية، والفكرية بمحاولة قطع بيننا، وبينها بعزلنا عن الإسلام الذي هو عقيدتنا وثقافتنا، ودفعنا في متاهات الضياع ليسهل القضاء علينا، فهنالك باحث غربي ويدعى هانز فيشر لا يتردد في القول : بأنه”لا أمل للمجتمعات الإسلامية في الخروج من بوتقة الركود والتخلف إلا في التنكر لكل ما يربطها بالإسلام، والاقتداء بالانموذج الديمقراطي الغربي”، فالهدف الاستراتيجي لهم هو : اجتثاث جذورنا لتتهاوى مقوماتنا، ونصبح كغثاء السيل، وفي مهب الريح . ولكن جهل”المتلبرلون الجدد” أن تراثنا العربي الإسلامي يمثل إحدى الحلقات الأصيلة للتراث الإنساني،”فقد كانت هناك دائما حضارات تسود، وحضارات تتنحى إلى حين لكن دورات الصراع والتفاعل الحضاري كانت تسمح دائما للحضارات الأصلية بالازدهار مجدداً، وحضارة الغرب تسود الآن، في حين حضارتنا في وضع المتنحي لا الميت” كما يقول قسطنطين زريق، ففي قمة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية التي ورثت في القرون الإسلامية الأولى الثقافات العالمية الهندية، والفارسية، واليونانية، فسطعت على العالم منذ القرن السابع الميلادي في زمن كان فيه الغرب يخيم عليه الانهيار والتدهور، ويعيش في الظلام وإنهم في الوقت الذي يهاجمون ويهجون تراثنا العربي الإسلامي، ويصفونه بأبشع الصفات لا يعرفون أن الفكر العربي الإسلامي استطاع أن يضع حداً للجهالة والتخلف التي فرضتها على العالم الغربي التقاليد الدينية، واستطاع عن طريق الفارابي، وابن سينا، وابن رشد أن يعيد صياغة العقل الأوربي مقدماً لتلك الانطلاقة التي بدأها القديس “توماس الأكويني” لتنتهي بحضارة عصر التحرير والتنوير، وقد عملت بعض المدن الأوربية المتوسطية، مثل : كريت، وصقلية، وأثينا، وأماكن، مثل : قبرص، والأندلس كمراكز وسيطة لحركة الترجمة، والنقل والتطوير عن العرب المسلمين، وأقلمته مع عصر النهضة في كافة المجالات، ولا يخجل الغرب من ذكر هذه الحقيقة، أي إنهم نقلوا عن الحضارة العربية الإسلامية علومهم وطوروها، فالفكر العربي الإسلامي يخلق الحركة، و يقدم للعالم الغربي عصر النهضة عندما كانت حضارة العرب المسلمين في قمة الازدهار وسائدة، في حين كان الغرب ليس في وضع المتنحي، بل كان يخيم عليه الجهل والتخلف، ويعيش في الظلام، ولذلك فإن تجاهل وإقصاء تراثنا الثقافي والحضاري الذي كان له دوراً فعالاً في تشكيل الحضارة الإنسانية في أن يكون له دوراً في عملية التحديث والتغيير في بلادنا هو : الجهل، والتخلف، والصفاقة بامتياز .
وبناءاً على ما تقدم، فإن”المتلبرلين الجدد” الذين انبهروا وفتنوا بالغرب، فأصيبوا بعقدة النقص، وجلد الذات لعدم نضجهم الفكري والسياسي، وحكموا علينا بالجدب، والإفلاس، والعقم، أصالتهم هشة، وثقافتهم ضحلة، وإنهم ليسوا من أبناء سورية إلا بالاسم، لأن جذورهم لا تتصل بالمنابع الروحية والأصول الحضارية التي ولدت إبداع الأمة في الماضي، فالذين لا يعون ماضيهم، وثقافتهم، وحضارتهم يشك فيهم، فجهلهم جعلهم يعتقدون : إنهم بشتم وإهانة ثقافتهم، وحضارتهم قد دخلوا العصر والحداثة، وأنهم بما يقومون به مقبولون من الآخر، ولكنهم بذلك يمارسون النخاسة، ويفتقدون إلى التربية الوطنية، وأن ما نراه منهم بعد أن فقدوا أصالتهم انحطاط حضاري، وانحراف فكري، وانهيار أخلاقي لمحاولتهم استيراد تجارب معلبة، والتجديد لا يكون باستيراد أفكار جاهزة، وإلغاء لقيم سائدة، ونحن لا يهون علينا أبداً التفريط بثقافتنا وحضارتنا العربية الإسلامية التي تمنحنا شرف الانتماء، وعزة الأصالة بالذوبان بهامش أو التعلق بذيل ثقافات وحضارات الآخرين، ولذلك هناك مسافة بعيدة، وفراق دائم بيننا، وبينهم نحن المعتزون بفخر بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية .
7
المعمعيون الرقعاء”المتلبرلين الجدد”الذين كانوا يدعون : إنهم فرسان المبادئ الاشتراكية والثورية الأممية بعد سقوط جدار برلين، وانهيار النظم الاشتراكية في أوربا الشرقية، وتفكك الاتحاد السوفيتي وزواله، وسيطرة الولايات المتحدة الأميركية على فضاء العلاقات الدولية في هذا المنعطف التاريخي بدل الدفاع عن أيديولوجيتهم عن طريق التوقف لتقييم وتقويم تجربتهم بالقيام بتصحيحات، عليها بالاستفادة من الإمكانات، والقدرات الفكرية، والنضالية، والتجربة الحزبية، والسياسية الطويلة والمريرة لهم، وبدل أن يعملوا بخطوات حثيثة على تنمية قدراتهم الفكرية، والسياسية، والذاتية تمهيداًًً لدور يؤدونه في المستقبل بناءاً على ما يقوله لينين :”إن الهزيمة الكبيرة بالذات تعطي في الوقت نفسه الأحزاب الثورية درساً واقعياً من أنفع الدروس، درس الديالكتيك التاريخي، ودرس فهم النضال السياسي، والحذق في فن خوضه، والجيوش المهزومة تتعلم دائما بهمة واجتهاد”، ولكنهم بدل الإصرار بالحماسة الثورية نفسها، والأممية التي كانوا يدعونها على مواجهة وتحدي محنتهم، وحل وتجاوز أزمتهم هربوا إلى الأمام، ورفعوا راية أخرى مناقضة بدل الاستمرار في المسيرة من أجل تحقيق المبادئ، وحل القضايا التي ناضلوا من أجلها، وصعروا خدهم بوقاحة، وانعطفوا نحو الانتهازية، وانتقلوا دون تعليل أخلاقي واضح من الدعوة إلى بناء النظام الاشتراكي إلى الدعوة إلى بناء النظام الليبرالي، وأعلنوا تأييدهم للديمقراطية الليبرالية التي كانت عدو لهم، وتحولوا إلى دعاة أيديولوجيين مبشرين لها حين راحوا يمتدحونها، ويثنون عليها بلا حدود كنهج حياة، وهذا اضطراب فكري، وسياسي، وخيانة للماركسية اللينينية، لأنهم غيروا ميولهم الفكرية والسياسية، وسلكوا هذا الطريق، واتبعوا الأساليب الميكيافلية القائمة على شعار”الغاية تبرر الوسيلة” لعدم وجود المناعة الفكرية، والأخلاقية، والوطنية،والروحية لديهم، لأنهم عناصر مائعة سياسياًً تقودهم اعتبارات مصلحية وغوغائية، فمثلما رفعوا بالأمس راية الماركسية اللينينية يرفعون اليوم راية الديمقراطية الليبرالية، ويقومون بالمتاجرة بالقضايا الوطنية الحيوية، ولاسيما رفع شعارات “الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان”، وأن سلوكهم هذا قد جاء لعدم قدرتهم على تقديم بدائل وحلول لأنهم لم يتعلموا أبداً من دروس تجربتهم النضالية القاسية لكي يجددوا تفكيرهم، ويجروا تعديلات في أساليب عملهم لمواجهة الحاضر، واقتحام المستقبل بكل ثقة . لقد خضع هؤلاء لنزواتهم ورغباتهم، فانزلقوا تماماً إلى الانتهازية بالارتداد عن المبدأ، وبهذا فإنهم يسلكون سلوك المحتالين، ويمثلون”الانتهازية الحمقى أحقر أنواع الانتهازية” كما يقول “لينين”، وأن سلوكهم هذا يعد انهيار أخلاقي وسياسي، ويبدو أنهم قد ضلوا الطريق، لأنهم عناصر متذبذبة انتهازية يتعاملون مع السياسة على أنها ضرب من البهلوانية، ولعب الكشتبانات، والثلاث ورقات، وقد شخص هذا السلوك”ماركس” قائلاً :”أما رعاع المدن، هذه الحشرات الجامدة حثالة أدنى جماعات المجتمع، فقد تجرهم ثورة البروليتارية إلى الحركة، ولكن أوضاع معيشتهم، وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعداداً إلى المكائد الرجعية”، وقال فيهم”لينين” محذراً :”هناك وصوليين ونصابين لا يجدر بهم سوى الإعدام بالرصاص…هؤلاء الوصوليون والنصابون المتذبذبون كان يأملوا بالحصول على المناصب الوثيرة… لقد أحلوا رغباتهم وطموحاتهم محل الواجب والمبدأ، وكان الواجب عليهم الاستفادة من الإمكانيات العلنية للدفاع عن أيديولوجيتهم، ولكنهم مجرد مجعجعين، وإنهم خوان الاشتراكية يحملون روح البرجوازية الصغيرة، والعقلية الإمبريالية…، وإنهم يمثلون انموذج الثوريين الأردياء الهزيلين …، ونشأ صنف من الخونة، والانتهازيين بين الاشتراكيين يدافعون عن مصالح فريقهم الخاص، وفئتهم الخاصة…، وكانوا رفاق غير أمينين…، تحولوا إلى خدام للرأسمالية…، وأن انتصار البروليتارية الثورية مستحيل بدون مكافحة هذا الشر، وفضح الخونة الانتهازيين”.
ولذلك،فإن التعامل بالسياسة يفترض أولاً، وأخيراً الالتزام بالثوابت، والمبادئ الأيديولوجية التي تنسجم مع المصلحة الوطنية العليا، ولا سيما أن المعارضة تمثل ضمير الشعب، وصوته العالي في ضلالة سلطة مستبدة في بلادنا تمنعها من العمل السياسي العلني، وخاصة المطلوب منها الاختلاف عن السلطة، ويكون سلوكها الفكري والسياسي أكثر تميز وأخلاقية، وليس العكس، لأنها تطرح نفسها بديل سياسي، ولذلك فإن ما قاموا به لا علاقة له بالسياسة الصحيحة، ولا بالمصلحة الوطنية التي يفترض أن تكون جوهر قضيتهم، ولكن ماذا يعطي شعبه ووطنه من يخسر نفسه؟.
إن الموقف الوطني يتطلب استعدادات خاصة، فصيانة الوطن، وخدمة الشعب تتطلب رجال حقيقيين، وهؤلاء النفر التائه لا علاقة لهم بالوطن، ولا بالشعب الذي يفترض أن يكونا جوهر قضيتهم، لأنهم مقتنصو الفرص، وملاحقو الموضة، ولو كانت ضد القيم والمبادئ، والمصلحة الوطنية، فهم أحلوا نزواتهم، ورغباتهم، وطموحاتهم التي هي أكبر من إمكاناتهم وقدراتهم الحقيقية محل المبدأ والواجب، لأنهم ينزعون إلى السطوة، والتحكم في الوقت الذي لا يكادون يفقهون قولاً، فخطابهم السياسي لم يصدر أبداً عن رشادة، وبعد نظر، ولذلك هم وجوه من الماضي لا من الحاضر، ولا من المستقبل، لأنهم عناصر ليس فيهم شيء من أحلام الوطن وصبواته، فهم عبيد مصالحهم الخاصة، ومتشبثون بانتماءاتهم العصبية العنصرية، والطائفية، والمذهبية، والإقليمية التي هي لديهم في المقام الأول، وقبل أي انتماء مع أن الوطني الحقيقي الأصيل ينتمي أولاً إلى وطنه وشعبه، ويكون على مسافة واحدة من كل أبناء وطنه، وينتمي إلى الجميع، ولذلك من غير الممكن ترك الأمور الوطنية الحيوية والمصيرية تسير على هوى، وعلى وفق رغبات، ونزوات مثل هؤلاء الشرذمة، لأن العنصري، والطائفي، والمذهبي، والإقليمي مريض لا يمكن أبداً أن يكون وطنياً مهما زايد ورفع من شعارات كبيرة، وتستر خلفها لتبرير الابتذال السياسي .
ومن الجدير بالذكر في الأحوال غير الطبيعية يحك السياسيين الأيديولوجيين، ويختبروا،وخاصة الذين هم في صفوف المعارضة، فأما أن يرتفعوا إلى مقام الوطنيين المخلصين، وأما أن ينزلوا إلى درجة العابثين المخربين، ومصيبة سورية، والشعب السوري إلى جانب الابتلاء بنظام غير ديمقراطي لا يحترم الإنسان وإرادته، فإن الساحة السياسية قد خلت ل”لمتلبرلين الجدد”، فتقدموا صفوف المعارضة، واعتلوا نواصي المنابر عن طريق التسويق الإعلامي الخارجي المشبوه لهم بالطبل والزمر على أنهم “دعاة ديمقراطية، واحترام حقوق إنسان” في ظل تقاعس وسكوت مريب من كل القوى الوطنية، والقومية، والإسلامية، والليبرالية الحقيقية عن مواجهتهم، ونقدهم،وفضحهم، والتحذير منهم تحت ذريعة الخوف من تهمة واهية وتافهة ألا وهي : تقديم خدمة مجانية للنظام، ومن ثم يصبح من يهاجمهم محل شك وريبة مع أنهم يمثلون دور الناعقين على الوطن والشعب، ولا بد من ضرورة التنبيه واليقظة منهم، فما جاءوا به لا يمكن أبداً التزام الصمت حوله، خاصة إننا في ضلالة زيفهم الغوغائي، وردحهم السياسي مقبلون على كارثة، وخاصة أن إعلام النظام قد أسهم أيضاً في تلميعهم قاصداً بأن يجعل منهم (أبطال) ليقدم إلى الشعب السوري معارضة تافهة، وسفيهة، ومشوهة، وهي في المعايير الوطنية، والسياسية، والأخلاقية ليست معارضة أبداً، لأن الذي يريد بناء الوطن على أساس القسمة العنصرية، والطائفية، والمذهبية، وليس على أساس المواطنة ليس بوطني أبداً، ولذلك يدفعنا وفائنا لوطننا العربي السوري، وحبنا لشعبنا السوري، وأمتنا العربية، واعتزازنا، وفخرنا بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية، لأن نقول فيهم ما ينبغي أن يقال، فخشيتنا تدفعنا إلى مجابهتهم، ونقدهم، وفضحهم، والتحذير منهم تحت قاعدة الضرورة الوطنية، والقومية، والإسلامية والإنسانية .
وفي الختام : إننا في هذا التوصيف ل”لمتلبرلين الجدد”في سورية، والذين كانوا سابقاً رفاق ماركسيين لينينيين، وأصبحوا يروا في الماركسية اللينينية، ودكتاتورية البروليتارية فكر متكلس، وبدعة ضارة قد شخصنا ضعفهم، وبينا عيوبهم، وانتهازيتهم، وتهافتهم، وهذا لا يعني أبداً : إننا ضد المدرستين الليبرالية، والماركسية اللينينية، وأتباعهما الحقيقيين، بل العكس، فنحن نكن الاحترام والتقدير لهاتين المدرستين العظيمتين، لأنهما نتاج فكري إنساني، وخاصة النظرية الماركسية اللينينية، ففي بلادنا تيار ماركسي لينيني كبير وواسع عربي سوري الولاء والهوى، ويعطينا الحق في أن نبني عليه الأمل، لأن فرسانه الذين قدموا الكثير من أجل الحياة المنشودة للشعب السوري ما زالوا في الصورة، وأثروا احترام ماضيهم الفكري، وتاريخهم السياسي، وما زالوا يقارعون الاستبداد كل من خندقه، وهؤلاء ينطبق عليهم ما قاله “لينين” :”هناك ثوريين ذوي إخلاص مدهش، وحماسة، وبطولة، وقوة، وإرادة”، ونحن ما نزال نراهن عليهم، وعلى كل القوى الوطنية السورية الأصلية من أجل التغيير والتحول إلى الديمقراطية، والدخول في العصر والحياة، فنحن ما نزال واقفون على أقدامنا، لأن هنالك على أرض سورية ما يستحق الحياة .
خاص – صفحات سورية –