صفحات مختارةياسين الحاج صالح

من «الخيار الثالث» إلى «وضعية يسارية» جديدة

null
ياسين الحاج صالح
اتجه الاجتماع السياسي في البلدان العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى الانتظام في صيغة قطبين، قطب حكومي جنح في الفترة نفسها إلى التخفف من أي بعد إيديولوجي وإلى تسلطية متشددة وضيقة الأفق، وقطب إسلامي معارض، ينزع إلى مزج الإيديولوجي بالسياسي أو الدين بالدولة. ولطالما أفضى تمسك الأولين بسلطة غير مقيدة وإلى مطابقة الأخيرين أنفسهم بحقيقة مجتمعاتنا وأصالتها المفترضة إلى صراع عنيف بينهما، يسجل منذ سنوات استقراراً عند مستوى الحرب الباردة.
وبفعل هذا الاستقطاب الحاد الممزِّق تعذر على الدوام تبلور «قوة ثالثة» عمل لقيامها وعرف نفسه بها معارضون يساريون ووطنيون ليبراليون. لكن يشارك في المسؤولية عن هذا التعذر تصور ممثلي هذا البديل لأنفسهم وخيارهم. ومن المثال السوري الذي يوجد ما يضاهيه في مصر وتونس، وبصورة مختلفة في أكثر البلدان العربية الأخرى، يبدو أن الخيار الثالث انطبع دوماً بطابع سياسي بارز، بل حصري.
الشيء الذي قلما اعتبر ذا قيمة سياسية في عين «الثالثيين» هو الجانب الاجتماعي الثقافي المتصل بأنماط الحياة و«الحريات الاجتماعية». الواقع أن «الثالثيين» على تعارض تام مع الإسلاميين في هذا الشأن، لكن هذه الحقيقة تبقى معزولة عن تفكيرهم السياسي إلى درجة كبيرة. تعريف معارضتهم بدلالة النظام والموقف منه يهمش التفكير بالدور العام للدين، أو يحصره في صورة خيار ثالث مضاد للاستبداد الحكومي وللعنفية التي تتبناها حركات إسلامية.
لكن شكل حضور «الإسلام» في الحياة العامة اليوم لا يتعادل مع الإسلام السياسي، وأقل من ذلك مع الإسلامية العنيفة. في العقد الحالي هو أكثر حضور «اجتماعي» و«رمزي» و«حقوقي»، وقد لا يضع نفسه في موقع الخصومة مع الإسلاميين السياسيين، إلا أنه غير مطابق لهم، ومتحفظ حتماً على نهج العنف. الإسلام السياسي ذاته يعرض في السنوات الأخيرة وجهاً اجتماعياً أكثر وسياسياً أقل، محافظة وتشدد سلوكي واجتماعي وخفوت نسبي في اعتراضه السياسي.
وبفعل هذا التحول، يتلامح الآن أكثر وأكثر استقطاب اجتماعي ثقافي، تتقابل فيه أنماط حياة «ليبرالية»، تحميها السلطات بمقياس متفاوت، لكنه أوسع على الدوام مما يمكن أن يتقبله إسلاميو البلد المعني، وبين نمط يوصف بأنه إسلامي، ويقضي بالفصل بين الجنسين وبإرادة نشر زي إسلامي معياري، وبحظر مآكل ومشارب محرمة، وبتنظيم مجال الأحوال الشخصية على أساس مللي، الكلمة العليا فيه للشريعة. وإذ يهمل الخيار الثالث التقليدي وجه الاستقطاب الاجتماعي الثقافي هذا، ينقسم على نفسه، ويجنح تيار منه إلى تعريف نفسه بمخاصمته دور الدين العام، سياسياً كان أم اجتماعياً. أما مكونه الرئيس الذي يثابر على تعريف نفسه بمعارضة النظام السياسي فيفقد بإطراد زمام المبادرة الفكرية والسياسية، لأنه يتثبت على صيغة فات أوانها لبناء دور عام مستقل، تتصف كذلك بأنها ضعيفة الحساسية لتغيرات حاسمة على مستوى بناء السلطة وتكوين نخبتها القائدة.
لنلق نظرة عن كثب.
على مستوى مركز النظام، التسلطية معزّزة، لكن تحدّها لبرلة اقتصادية تنعكس أيضاً لبرلة اجتماعية وإعلامية، وبصورة ما دينية، أو ترجمة أوضح لحضور الإسلام الاجتماعي (وشتى العقائد والأديان، كل بمقداره) في الفضاء العام. وعلى المستوى الاجتماعي الديني تنمو المللية والوعي الذاتي المللي المرافق لها، بما يرفع الطلب على التسلطية سياسياً، ويُطبِّع الحكم التسلطي ثقافياً. وعلى مستوى الحركية الإسلامية يبدو أنه تحقق تحول ناجح من استراتيجية السيطرة السياسية إلى استراتيجية الهيمنة الاجتماعية والثقافية بصورة جديرة بأن تثير فخر غرامشي. الإسلامية المهيمنة تلك ليست على خصام مع السلطات، لكنها ليست تابعة لها ولا مؤتمرة بأمرها أيضاً. إنها القطاع الأصعب مراساً من النخبة الاجتماعية للدولة التسلطية الليبرالية الجديدة. هذا لأن لها مصادر قوة اجتماعية مستقلة، غير معتمدة على النظام، وكذلك لأن لها امتدادات إقليمية أو أممية فوق وطنية.
وبمــوازاة هـــذه الواقعـــة الدينامية تفرض نفسها في المشهد الاجتماعي ظواهر الفقر والبطالة المتوسعة والتهميش وتوسع القطاع غير النظامي، اقتصادياً واجتماعياً وسكنياً؛ ويتمايز طابقان اجتماعيان، نخبوي ضيق مدوّل في مستوى حياته وأذواقه وثقافته ومجال حركته، وطابق آخر أوسع، لكنه مشتت وتعاني قطاعات منه تدهوراً مترقياً لأحوالها ومقدراتها.
هذا هو المستوى الجديد، والحاسم، للاستقطاب الوطني، الذي تحكم على نفسها الثالثية التقليدية بالهامشية والسياسوية حين تخفق في رؤيته.
وهو يأخذ شكل ما يمكن تسميته «وضعية يسارية»، أي انتظام بُنانا الاجتماعية السياسية في صورة استقطاب بين نخبة امتيازية متعددة الأجنحة وبين كثرة مجتمعية مبعثرة وممزقة ومستتبعة سياسياً للنخب العليا النافذة. تتكون النخبة من مركب سياسي أمني ينفرد بالسلطة العمومية وأجهزتها الضاربة، ومن بورجوازية جديدة تكونت بآليات «تراكم أولي» في الزمن ما قبل الليبرالي. وفي كنف هذه النخبة ذات الجناحين ينمو الطلب على إيديولوجيين يبشرون بالعلمانية والحداثة، وكذلك على تيار إسلامي «عقلاني» و «مستنير».
هناك مشكلة في استيعاب المفهوم الإسلامي الاجتماعي المحافظ ضمن النخبة العليا، التي لا تستطيع التراجع عن اللبرلة التسلطية، ولا جر هذه التنويعة الإسلامية إلى ملعبها المفضل، القوة والعنف، لتتمكن من سحقها.
وضمن هذا الإطار الكلي الجديد يبدو أن الاستقطاب الخاص بأنماط الحياة، هو ليس مصطنعاً بحال، بحجب الاستقطاب الأعمق (السلطة والمال والوحدة في جهة والتبعثر والبؤس في جهة أخرى)، ويسهل تمزيق شرائح الطبقة الوسطى، القاعدة الاجتماعية الطبيعية لأي قوة ثالثة.
تلزم حيال هذه الوضعية سياسة يسارية جديدة، تعمل على تحويل الكثرة المجتمعية المبعثرة والتابعة إلى أكثرية اجتماعية مستقلة، وعلى إبطال السياسات النخبوية التي تعمل على نقل الانقسام إلى المجتمع المحكوم بينما تحرص على وحدة أجنحتها وتفاهمها.
أساسي في هذا الشأن تطوير تحليل مركب وغير اختزالي، يكشف وحدة تناقضات البنية الجديدة، بالخصوص ترابط الاستقطابين المشار إليهما وكشف جذرهما المشترك في البنية السياسية الاقتصادية الجديدة. يناسب النخب المتحكمة انتشار تحليلات ورؤى تجزيئية، تفصل مسائل الدين عن مسائل السياسة، والحريات الاجتماعية عن الحريات السياسية، وقضايا الاقتصاد عن قضايا السلطة، وشؤون السياسة الخارجية عن السياسة الداخلية. يناسبها جداً أن ينشغل البعض بقضايا الدين وحدها، وبعض بقضايا السياسة، وبعض ثالث بـ «القضايا القومية»… بهذا يجري تمزيق حقلي التفكير والعمل العام فوق تمزيق المجتمع بالمللية. التجزيئية في التفكير والتجزؤ في المجتمع وانقسام التيارات المستقلة وانعزالها عن أية قوى اجتماعية هو عز ما تطلبه التسلطية الليبرالية.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى