دبي: نموذج الوهم الاقتصادي
سلامة كيلة
غالباً ما كانت توضع مدينة دبي في موضع «المعجزة الاقتصادية»، خصوصاً أن لا نفط لديها، وبالتالي جسدت الحداثة وسط الصحراء بموارد محدودة. ولهذا أصبحت مثال «النجاح العظيم»، والمدينة التي نجحت في أن تصبح مركز أهم الشركات العالمية متعدية القومية، ومحط كبار رجال المال، وحيث استطاعت أن تمركز المال الهائل من لا شيء تقريباً. ولقد أصبحت المثال الأساس في نجاح العولمة وأهمية الليبرالية الاقتصادية.
دبي، هزمت هونغ كونغ وسنغافورة، واستطاعت أن تبني أضخم الناطحات وأعظم جزيرة اصطناعية، وأعلى برج وأضخم فندق. وأن تعبّر عن كل ما هو «خرافي» تقريباً.
وبالتالي أصبحت مجال تقليد من قبل مدن أخرى في الخليج، والمثال الذي يثبت صحة كل الآليات التي باتت تتبعها الرأسمالية وهي تحرر الفضاء المالي، و تطلق التحرر المنفلت في هذا القطاع.
لكن أشّرت الأزمة المالية العالمية في أيلول من السنة الماضية إلى أزمة باتت تعيشها دبي، وإن كان يجري الصمت إزاءها، أو كان يُعتقد بأنها «محمية» من الإمارة ومن أبو ظبي وربما دول الخليج، وبالتالي فإنها قادرة على تجاوز «الصعوبات» التي يمكن أن تمرّ بها. لكن «الفقاعة انفجرت» أخيراً، وتبيّن أن شركة واحدة من شركاتها تعاني من أزمة مديونية تبلغ 59 مليار دولار، وأن مجموع ديونها يصل إلى حوالى 80 مليار دولار. فقد تبيّن أن شركة دبي العالمية وفرعها شركة النخيل عاجزة عن سداد مبلغ 3,5 مليارات دولار مستحقة أواسط هذا الشهر، فتقدمت بالطلب من الدائنين تأجيل الدفع لمدة ستة أشهر. رغم أن إمارة أبو ظبي كانت قد دفعت مبلغ عشر مليارات دولار لدبي قبل مدة وجيزة. والأخطر هو أن الإمارة أعلنت بأنها لن تحمي الشركة (التي تعود للإمارة)، وحمّلت الدائنين مسؤولية ما جرى، ربما لأنها اتكأت على ارتباط الشركة بالإمارة.
وبدأت التداعيات تتوسع، حيث بدا أن الإمارة تسير نحو الإفلاس، وتأثرت بنوك أساسية في كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وبدأت آليات الانهيار تصيب الأسواق المالية في الهند والقاهرة وقطر، إضافة إلى الأسواق الأوروبية. وهي مرشحة لأن تتوسع.
يمكن أن نعتبر انفجار هذه الفقاعة من تداعيات الأزمة التي بدأت في أسواق العقارات الأميركية وشملت كل العالم. وربما تكون بداية تفجر فقاعات مختلفة في مختلف أنحاء العالم. وهو ما يعني بأن الأزمة المالية لا زالت تتفاعل، وأن آثارها لم تنته، وربما لم تنته الأزمة ذاتها. مما يطرح مسألة الأخطار التي سوف تنتج عن التفجر المستمر للفقاعات المالية. ولا شك في ذلك، حيث أن سياسة التحرير المالي قد أوجدت تضخمات هائلة في الاقتصاد العالمي، قامت على الديون والمشتقات المالية، والنشاط في «اقتصاد افتراضي». وبهذا أصبحت الكتلة المالية التي تنشط خارج الاقتصاد الحقيقي هي عشرات أضعاف الرأسمال الموظف في كل قطاعات الاقتصاد. وكل نشاطها يقوم على تشكيل فقاعات مالية تتكئ على مديونية مرتفعة (وهي تبلغ في شركة دبي العالمية ثلاثين ضعفاً من قيمتها الحقيقية).
إذن، المعجزة تلاشت أو تكاد، والأوهام حول التراكم المالي الذي يأتي من النشاط المالي على هامش الشركات الاحتكارية سقطت، تاركة كتلاً من الإسمنت والحجارة يملأ شاطئ دبي الذي كان سيصبح جزيرة العالم، كما يملأ دبي ذاتها، حيث بدت كل الأبراج والفنادق الفاخرة و«مدن الأحلام» وكأنها بلا بشر، مما سيجعلها ركاماً لا تمتلك الإمارة المال من أجل إزالته. ربما يكون مبكراً هذا الوضع، لكن ليس من إمكانية غير ذلك، لسبب بسيط هو أن كل الأساس الذي انبنت عليه المدينة، من غير الممكن أن يستمر بعد الأزمة المالية العالمية، التي ستستمر ولن تسمح بالعودة إلى ما تأسس حينما كانت الفقاعة تتضخم، موهمة بأن الاقتصاد العالمي في أحسن أحواله.
فقد ركزت الإمارة على السياحة والقطاع العقاري لكي تبني «قاعدة تحتية» لنشاط الشركات العالمية، وفعلاً اجتذبت نشاطاً هائلاً، هو الذي جعلها «معجزة». لهذا كان من المنطقي أن تدخل الأزمة على ضوء الأزمة العالمية، حيث انسحبت الشركات العالمية بسرعة فائقة، وهو ما جعل كل ما بني من دون حاجة. الأمر الذي أدى إلى انهيار القطاع العقاري والتراجع الشديد في السياحة. وهنا يبدو أنها انكشفت على الدائنين، لأنها فقدت الكثير من مداخليها. وبالتالي كان المصير واضحاً، أي الإفلاس.
وربما كان وضع دبي يوضح مشكلة «نموذج الوهم الاقتصادي» الذي تغذى على التضخم المالي، وتحرير الفضاء المالي. حيث أننا نلمس السهولة التي بات يمكن الحصول عبرها على الديون، فقد أصبح ممكناً أن تحصل شركة على ثلاثين ضعفاً من قيمتها من دون ضوابط ولا قيود. وهو الأمر الذي سيفضي بالأساس إلى أن يكون مردود الشركة عاجزاً عن الإيفاء بأقساط الديون، فكيف إذا تراجعت المداخيل؟
ومن ثم يمكن تلمس كيف أن انفجار الفقاعة في دبي انعكس على مناطق واسعة من بريطانيا إلى الهند إلى وول ستريت. فشركة دبي العالمية مدينة إلى البنوك البريطانية بمبلغ 50 مليار دولار، والفرنسية 11,3 مليار، والألمانية 10,6 مليارات، والــولايات المتحدة 10,6 مليارات واليــابان تسعة مليـــارات. إضافة إلى تأثير الانهيار على رؤوس الأموال الموظـــفة من أطراف مختلفة، وكـــذلك أثر الانهـــيار على استثمارات الإمارة على الصـعــيد العــالمي.
إن أزمة دبي هي نموذج مثالي للأزمات التي نشأت عن تحرير الفضاء المالي، نتيجة الحاجة الموضوعية بعد التراكم الهائل في الأموال التي لا تجد مجالاً للتوظيف في الاقتصاد الحقيقي. وهذه هي الأزمة الحقيقية التي باتت تحكم النمط الرأسمالي، والتي سوف تبقي الأزمة مستمرة. لكن من دون أن ننسى بأن الأزمة المالية العالمية قد نهبت مبالغ هائلة (2,5 تريليون دولار كما أشير حينها) من الدول الخليجية نتيجة الإفلاسات والانهيارات في الشركات الأميركية، وربما تكمل أزمة دبي على ما بقي.
السفير