حسين العوداتصفحات العالم

ما قبل مفوضية الإعلام

حسين العودات
أجل مجلس وزراء الإعلام العرب في اجتماعه الأسبوع الماضي، البت في إنشاء مفوضية للإعلام العربي إلى الخريف المقبل، بعد أن تقوم اللجنة الدائمة للإعلام بإعداد مشروع قرار تضعه بين يدي مجلس وزراء الإعلام.
ومن تجاربنا ـ نحن الإعلاميين ـ مع المجالس العربية، فإن هذا التأجيل يعني من جهة أولى فشل المجلس في الاتفاق على المشروع، ويعني من جهة ثانية أن المشروع في طريقه إلى الموت المبكر قبل أن يولد، بسبب إحالته إلى لجنة، واللجان مقبرة للمشاريع قلما ينجو منها مشروع أحيل إليها.
وعلى أية حال، ليست المسألة لا في التأجيل ولا في الإحالة إلى لجنة، بل في السياسات الإعلامية العربية، سواء في كل بلد عربي أم تلك ذات الطبيعة القومية، التي تسمى غالباً السياسة الإعلامية العربية المشتركة.
أعتقد أن وزراء الإعلام العرب يجدون صعوبات كبيرة أمام تنفيذ المهمات الإعلامية الجسيمة في بلدانهم، ولذلك يحاولون الهروب إلى الأمام بتبني مثل هذا المشروع، مع أنه مهم جداً، لكنه غير مجد في الظروف العربية السياسية والإعلامية الراهنة، وغير قابل للتطبيق، أو قادر على إصلاح السياسات الإعلامية العربية التي لم تعد تستطيع استيعاب متطلبات القضايا القومية أو المحلية.
أو مواجهة نتائج العولمة والنظام العالمي الجديد، أو نظام ما بعد الحداثة، الذي حمل معه الرغبة الجامحة في اللذة ونمط الحياة الاستهلاكي، والعنف والتحلل من القيم، وفقدان الهوية والتفاخر ب«الأمركة»، وإفراغ الثقافة من أي ثوابت، وإلغاء الأيديولوجيا، وجعل كل شيء نسبيا، بما في ذلك الإيمان بأي شيء.
ولهذا كله أخذت وسائل الإعلام العربية تجد نفسها جزءاً من منظومة إعلامية وأخلاقية عالمية، لا تستطيع الخروج منها، ولا سد حاجات مجتمعاتها أو المحافظة على خصوصية هذه المجتمعات (والملاحظ أننا لا نتذكر هذه الخصوصية، إلا إذا أردنا استخدامها سلاحاً ومبرراً ضد الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة وتداول السلطة.. وغيرها).
وبدلاً من أن يبحث السادة وزراء الإعلام العرب مشكلات وسائل الإعلام العربية، وضعف الخطاب الإعلامي العربي، وسبل قيامه بمهماته في كل بلد وعلى النطاق العربي والدولي، ودراسة المخاطر التي تحيط بوسائل الإعلام، وبثقافة الأمة وقيمها..
بدلاً من كل هذا، هرب السادة الوزراء إلى الأمام، واقترح بعضهم تأسيس مفوضية للإعلام العربي، قيل إن مهمتها «تحديث منطلقات الخطاب الإعلامي العربي، واحترام المبادئ المهنية الإعلامية حول حرية الرأي والمصداقية والشفافية، وحماية محتوى المادة الإعلامية من التحريض على العنف أو التمييز على أسس دينية أو عرقية».
والملاحظ أن مفاهيم هذه المهمات فضفاضة وعامة وقابلة للتأويل، وربما ستكون حصان طروادة لبعض وزارات الإعلام العربية لتفسرها على مزاجها.
يعرف وزراء الإعلام العرب قبل أي أحد آخر، الصعوبات التي يواجهها معظم وسائل الإعلام العربية (ولا أقول كلها)، وخاصة تلك المملوكة للدولة، وأولها أن الحكومات حولت تبعية هذه الوسائل من تبعية للدولة إلى تبعية للحكومة، وبالتالي تغيرت مهماتها من خدمة أهل الدولة (الشعب بجميع شرائحه، المجتمع بكل فئاته، قضايا الثقافة القومية والهوية والخصوصية، متطلبات التنمية الشاملة، مراقبة الحكومة وإداراتها ومؤسسات الدولة… الخ).
وتحولت إلى خدمة الحكومة والمسؤولين الحكوميين والإشادة بمنجزات الحكومات (الحقيقية والوهمية)، وبالتالي لم تعد وسائل إعلام تابعة للدولة تهتم بشؤونها وشجونها، بل للحكومة ومصالح متنفذيها.
ولذلك عزف معظم وسائل الإعلام هذه عن النقد، أو الحديث عن الحريات والديمقراطية والمساواة وتداول السلطة، وإتاحة الفرصة لكل من لديه رأي لإبداء رأيه، وخلق المناخ الذي يضمن حيوية الحوار، وبالتالي المساهمة في تشكيل وعي الفرد وإتاحة الفرصة له للمساهمة في تنمية مجتمعه وإحياء ثقافته، ومساعدته على مواجهة الغزو الثقافي وتشويه التاريخ ومسخ الشخصية الوطنية.
والتدمير الأخلاقي والتخريب القيمي الذي نلمسه لمس اليد، وعدم التماهي مع معطيات العولمة وما بعد الحداثة الأمريكية، لأنها وسيلة خطيرة لإلغاء ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها، وقيادتها إلى الغرق في تقاليد الاستهلاك واللذة ونسبية كل شيء، وتبني جوانب «ومزايا الأمركة» الأخرى.
ومن ثم إبقاء صوت المواطن مخنوقاً من خلال الرقابة القائمة في جميع البلدان العربية.. وبالمناسبة فهي رقابة غير مكتوبة وعائمة وقابلة للاجتهاد وللتأويل، بل وذات أهواء قادرة على وأد الحوار والتحاور والإبداع.
إن «تحديث منطلقات الخطاب الإعلامي العربي، والمصداقية والشفافية، وإلغاء التمييز والتحريض والعنف» التي وردت في تبرير إنشاء المفوضية، لا تتحقق في الظروف العربية الراهنة من خلال تأسيس مفوضية للإعلام العربي، وإنما من خلال تلمس الصعوبات التي أشرت إليها، ومحاولة التغلب عليها، وإيجاد المناخ المناسب لتخليص الإعلام العربي من ثغراته.
ولا شك أن جميع وزراء الإعلام العرب يعرفون بدقة هذه الصعوبات ويعرفون الحلول، ولكن الشروط القائمة التي يعملون من خلالها، لا تساعدهم على اتخاذ قرارات نوعية عامة شاملة، قادرة على حل المشكلة الإعلامية العربية حلاً جذرياً.
يخشى إعلاميون كثر أن تتحول هذه المفوضية (إذا تم تأسيسها والاتفاق عليها) إلى وسيلة جديدة، لكم الأفواه ومحاصرة الحريات، وعرقلة الوسيلة الإعلامية التي تسعى لتأدية مهماتها في إطار مصالح الأمة ومتطلبات العصر.
لقد صرح الأمين العام لجامعة الدول العربية، بأن لكل بلد عربي الأخذ بمقررات المفوضية أو رفضها ووضعها جانباً، فإن كان الأمر كذلك، فما هي فائدة هذه المفوضية إذن؟ أم أنه من الضروري أن تولد من صلب النظام العربي القائم منظمة جديدة تحمل خصائصه وصفاته وجيناته؟!
البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى