«حكايـــات الغبـــار»
سمر يزبك
بقعة صغيرة تتهادى على سطح الشاشة: أحمر. أبيض. أسود.
حشود متدافعة حول عربة مدفع عليها نعش ملفوف بعلم البلاد. رجال ونساء يتلاصقون وتلتحم أعضاؤهم بتداخلات سريالية، لا يفكرون فيها الآن. في هذه اللحظة فقط! ولو كانوا في حالتهم العادية لصرخوا واستشاطوا غضباً من بعضهم. لا يعبؤون باللطمات أوالانحناءات والركلات. كل واحد منهم يبحث عن مكانه وسط الأمواج البشرية. أياد غريبة ومختلفة الحجوم تتعانق، ورؤوس مربعة الشكل يناطح بعضها بعضاً في سباق هستيري لاختراق السد البشري المحيط بالعربة. كانوا يريدون الوصول إلى النعش، يحلمون بلمسه وتوديعه، لا نية أخرى لديهم سوى أن تلمسه أكفهم . ربما يصدقون أن ما يحدث حقيقة، وهذا المدفع الحربي اللامع ليس لعبة أو زياً تنكرياً لسلاح ما، وهذه الحشود ليست مجرد أوامر جديدة للبدء بمسيرة تجعلهم يصيحون بأعلى أصواتهم.
على حزنهم أن يكون حقيقياً، ولا يذهب جزافاً، على الرغم من أنهم، بعدما لمسوا النعش، كانوا غير مصدقين ما حدث.
الكاميرا تقفز من وجوه الحشود إلى العلم الذي يغطي النعش. صورة كبيرة تحتل المساحة المضيئة كلها.
ـ إنه يرقد هنا!
تمتم سعيد ناصر وهو يراقب شاشة التلفزيون.
كان يستطيع رؤية رجال الأمن الذين أحاطوا بالعربة ليمنعوا الأيادي الممتدة كأغصان نبتة، من وصول النعش المتحرك ببطء شديد. ومن الصعب تقدير المدة التي عليه استغراقها لتجاوز الساحة الكبيرة؛ فالزحام الشديد وتدافع البشر، على الرغم من ترتيبات الجنازة، واستنفار قوات الجيش، صعب الأمر على العناصر الذين توزعوا في المكان، واندسوا بين الناس، وأحاطوا بالساحة، وأمسكوا باللافتات البيضاء الكبيرة، والصور التي تحمل الشريط الأسود على طرفها، وراقبوا المداخل الأربعة للشوارع المتقاطعة التي يتوجب أن يخرج النعش من أحدها، ثم تفرقوا في الجهات المقابلة لنهايات تلك التقاطعات، وتوزعوا على مفارق المدينة، وتحلقوا حول البشر الذين لم يحضروا الجنازة، وتوقفوا أمام بعض المحلات القليلة التي بقيت مفتوحة، وأنصتوا لكل شاردة وواردة يهمس بها الناس، وكل ذلك لم يمنعهم من أن يكونوا حاضرين في كل عشرة أمتار من المدينة.
مع ذلك خرج الأمر عن سيطرتهم عندما صار الحشد البشري المتهافت من كل الجهات، أقوى من أن يقفوا في وجهه، وينظموا حركة تنفسه وانضباطه، كما اعتادوا في المسيرات العادية. وهم في الحقيقة كانوا غير مصدقين ما حدث وخائفين ومرتبكين مما يمكن أن يحدث بعد هذه المصيبة.
الكاميرا تبتعد عن النعش، والمدينة تحت سفح الجبل والبشر بدت رمادية.
يحدق سعيد في الشاشة الصغيرة الميالة إلى اللون الأحمر، ليس من فعل مصيبة يواجهها الآن في بيته الجبلي الذي يجاور الغيمات، عبر ذلك الاحمرار الداخل من النافذة المطلة على اتساع البحر والتي تتوهج بغروب نادر لم يشاهده طوال حياته. لون أحمر يخطف الألوان من شاشة التلفزيون، ويستقر عميقاً داخل الجنازة.
يراقب الغروب باستمرار. يشعر به مختلفاً هذه المرة. يدور حول نفسه. يتأمل في اللون الأحمر الخالص النقاوة. أحمر يحيل لون الشاشة إلى الأرجواني، ويجعل من المدفع الذي يحمل نعش الرئيس الراحل عربة إلهية نزلت بغتة من السماء، واخترقت الجموع البشرية. تخيل سعيد للحظة أن المدفع سيطير، وأنه سيغيب مع زرقة السماء، أو يخرج من مربع الشاشة. هكذا تخيل واستراح قليلاً لهذه الفكرة التي ستعفيه من غصة الأسى القادم. لو يبقى الجناحان الأبيضان اللذان سيعودان بجسد الراحل المبجل إلى أصله.
تنفس بعمق، واتجه نحو النافذة بعد أن حمل جهاز التحكم، وكتم الصوت، وفكر أنه لن يسمع الأصوات والنواح، وسيكتفي بمشاهدة الصورة التي ستطير أيضاً بجناحين بيضاوين، وتعفيه من ضيق يزداد اتساعاً في نقطة عمياء من صدره.
لن يستطيع البكاء ببساطة وقد قطع الخط الهاتفي، وأغلق كل منفذ للاتصال به من العالم الخارجي. إنه الآن محكوم بتلك النافذة؛ بهجته الوحيدة. يا لخراب اللون الذي أخذ يتداعى بين السماء والبحر، ويترك وراءه مساحة ضبابية ودخانية من الفوضى.
انهمر نصفه العلوي خارج النافذة وهو يجرب أن يفتح عينيه ثانية، ويستدير لينظر إلى الشاشة اللعينة، ويتأكد من أن تلك الصورة هي مجرد وهم، لكن الساحة التي كانت طريقه اليومي إلى مكتبه لا تزال على حالها، ويحفظ تفاصيلها، ولا تزال الألوان المضيئة تتحرك ببطء شديد.
ـ إنها جنازة الرئيس. ما سمعته لم يكن إشاعة! الأوغاد أهملوني حتى في موته. رحلة صيد تجعلني بعيداً كل هذا البعد!؟
كان يصرخ من جوفه المعبأ بالغازات وروائح الشواء من الليلة الفائتة. وحرقة العرق لم تتركه منذ أن تعود شربه من دون خلطه بالماء مكتفياً بقطعة ثلج صغيرة تكسر حدته، وتحول لونه، ببطء إلى الحليبي الناصع.
تجشأ وشم رائحة العرق ثانية، وعنَّ على باله أنه بحاجة لكأس عرق جديدة، لكن الوقت لا يزال مبكراً لينزل إلى البهو الداخلي حيث حفر قطعة من الجبل الصخري، وصنع منها صالة فسيحة، تركها على حالها، وأدخل في التجويف الصخري للنتوءات التي أحدثتها عملية الثقب، أضواء خافتة وملونة، فبدت مثل ناد ليلي رخيص. كان مفتوناً بهذه الأضواء والظلال الملونة، ولم يمارس طقوسه في شرب العرق إلاَّ وتلك الأضواء منارة، حتى إن بعض أصدقائه كانوا يتندرون بأن سعيداً جعل بيته على هيئة الملهى الليلي الأول، الذي ارتادوه معاً، هو ورفاقه العسكريون منتصف الخمسينيات، عندما جاؤوا إلى العاصمة. وأحيانا كان تندرهم هذا يصل مسامعه، فيضحك، ويقرر جعلهم يتقيأون أحشاءهم، على ضوء تلك الأنوار المقدسة لديه: الأحمر والأخضر.
هو بحاجة الآن لتلك الأنوار قبل أن يطفئ التلفزيون، ويقرر ألاّ يشاهد بأم عينيه غياب أحب الناس؛ الرجل الذي كان مستعداً لحمايته بروحه وحياته إلى اللحظة الأخيرة.
كان من المستحيل تخيل أنه سيموت يوماً. ربما تخيل ذلك، لكنه كان جازماً بأنه سيرحل قبله، ولن يشهد اللحظة التي تجعله يصدق أنه غاب إلى الأبد. كان مؤمناً أنه لن يموت، وما يراه الآن على الشاشة هو مجرد مشهد تمثيلي جديد، يضاف إلى هوسه بمتابعة المسلسلات التلفزيونية.
اتجه نحو جهاز التلفزيون، ووجه إصبعه المتشنج نحو أحد الأزرار، على الرغم من أنه يحمل جهاز التحكم في كفه، فأصدر الجهاز صوتاً عالياً، وزعيق مذيع، وسُمعت الأصوات البشرية تتدفق، كأنها تأتي من رأس الجبل. ولوهلة تخيل أن الدفق البشري سيخرج من الشاشة، ويستقر كله في قلبه.
تهالك على الكنبة المنفردة، وفتح عينيه مدهوشاً، شبه مخدر. عيناه تضيقان، ثم تنفتحان على اتساع مبهر لحركة الشاشة التي تتنقّل بين الوجوه الغريبة، واللافتات البيضاء وصور الرئيس.
استغرب أن تكون فوهة المدفــع واضحة بهذا الشكل. ولوهلة، فكر أن صاحب فكرة عربــة المدفــع أحمق، وأن النعش كان يجب أن يُحمل على الأكتــاف. هكذا خرج رئيسه؛ من الشعب، وعليه أن يعود معه!
هب واقفاً، واستشاط غضباً. فلو أنه كان ما يزال هناك في المدينة، لتصرف بشكل مختلف، ولجعل من هذه الجنازة، يوماً تاريخياً لن ينساه العالم لمئات السنين. اقترب من التلفزيون، وثبت نظارته، وشرع يحدق في تفاصيل الجنازة، يراقب حركة الكاميرا المتنقلة بين المدفع والناس، ومن ثمّ السماء الزرقاء وأسراب الحمام في سفح الجبل. يضرب كفاً بكف، ويتمتم بعبارات غير مفهومة. الجملة التي استطاع حرّاسه سماعها، وراء الباب الذي وقفوا وآذانهم ملتصقة عليه، خوفاً على معلمهم: الأغبياء، ما هكذا تقام جنازات العظماء!
صوت ارتطام كفه بالكف الأخرى يدوي ويعلو فوق أصوات الجنازة. يبرطم ثانية بنفس الجملة، ويفتح النافذة ويغلقها، ثم ينظر باتجاهات عدة، ويقول، وكأنه يريد للجميع من حوله أن يسمع: الأغبياء..الأغبياء..
بعد أن يترك النافذة، يرخي يديه وراء ظهره، ثم يشبكهما، ويقترب من الشاشة، يقرفص أمامها. يرفع كفه عالياً، ثم ينزلها ببطء وحنو، وتلامس أصابعه النعش. تمر عليه بهدوء، فتنتفخ خدوده وتلمع عيونه باحمرار قان. يجلس على الأرض، مرخياً رجليه بسلام، قبل أن ينشج بخفوت، نشيجاً يمنعه من متابعة ما تنقله الشاشة، أو مواصلة اللمس بحنو على النعش الذي يتهادى بين الحشود مثل قارب تائه. تعالى نخيره، ومن حلقه خرجت بضع زفرات، تشبه تنهدات النساء، وهو ما أغاظه أكثر. ابتلت عيناه بدموع حرقت وجنتيه، وجعلته يتجشأ، فخرج سيخ نار من معدته، وشم رائحة الشواء من جديد، وعرف أنه بحاجة لقيلولة حتى لا ينفجر بطنه، قبل قلبه.
كانت نافذته تشبه إطلالة على نهاية العالم. تسلل من خلالها الغروب الأحمر، وجعله حزيناً إلى حد أن وجعاً بدأ ينمو في أحشائه، وهو يمرر رأسه عبرها، فيكتشف أنه معلق في الفضاء. ليس هو فحسب؛ النافذة مع الغرفة معلقة في الفضاء أيضاً. وما سماه تجاوزاً: بيتاً جبلياً، كان أشبه بقلعة صغيرة، بناها على شكل عش سنونو؛ نصف دائرة كروية ملتصقة بمنحدر صخري. أعلى نصف الدائرة، سطح تغطيه أشجار تبدو قطعة من حدائق بابل، وعلى امتداده، بركة مائية عميقة تحيط بها طاولات حجرية صغيرة ومقاعد خشبية، ويعلو السطح قبة بلورية شفافة، تُفتح في أيام الصيف، وتُغلق في أيام الشتاء، وأسفل العش المعلق، بهو الأضواء المحبب إليه، وفي وسط العش، تتوضع بنفور حاد مساحةٌ من عشرات الأمتار، ناتئة عن البناء المصقول للجدران، تصطف منحنية على شكل موشورات زجاجية، تفتح بجهاز خاص يحتفظ به في جيبه. تلك الأمتار الزجاجية المعلقة بين السماء والأرض، كان يسميها نافذته. الحقيقة الفعلية أنها كانت دائرة زجاجية مفتوحة على أفق مطلق بين البحر والسماء، حيث لا يمكن أن يبدو منها سوى الفراغ، قرب قمة جبل يشكل امتداداً طبيعياً لقريته الساحلية الجبــلية التي خــرج منها، من دون أن يخطر بباله، أنه سيعود يومــاً ويعــيش في أكثر أماكنها وحشة ورعباً؛ المكان الذي يطلـق عليه أهل القرية: عش النسر.
مدَّ جسده ثانية. تطاول عبر النافذة، وأحس بخفته وهو أمر يعرف أنه سيريح قلبه، حيث يستطيع أخيراً إطفاء موته، لكن تأرجح نصفه العلوي من النافذة لم يمنحه السكينة المعتادة لتلك الحركة التي درب نفسه عليها، كلما نما الوحش في أحشائه والذي لم يفصح عنه، لأن وحش المغص يختفي حالما يقرر الحديث عنه. وقد جرب ذلك مراراً، وكانت النتيجة نفسها. ترك الــنافذة المعــلقة وفتح بابه وصرخ بأعلى صوته، فهرع إليه مجموعة من الرجال ضخام الجثة. مرت ثانية فقط، قبل أن يتحلقوا حوله، مذعورين من أن مكروها أصابه لكنه ما إن صرخ أيضاً، حتى انطفأ الوجع، فقرر التمادي:
ـ كأس الزوفا يا أولاد.
اختفى الوجع نهائياً في تلك اللحظة، واختفى معه الرجال لجلب كأس الزوفا، فعاد سعيد إلى غرفته، وأغلق بابه بهدوء وهو يفكر بنافذته، ويبعد عينيه عن شاشة التلفزيون. لم يكن يعرف إن كان حزنه على حبيبه الذي رحل، أم على رؤية روحه المتدلية من نافذته؟
(كاتبة سورية)
([) فصل من رواية «حكايات الغبار» تصدر قريباً عن دار الأداب.
ملحق السفير الثقافي