صفحات ثقافية

المثقفون والإرهاب

null
رشيد ميموني
يعيش المثقفون الجزائريون وضعا مأساويا، إذ أقسم الإرهابيون على اغتيالهم الواحد تلو الآخر. لا يتعلق الأمر في هذا السياق بتهديد لا طائل من تحته، إذ تعرض العشرات منهم للاغتيال. تلقى الكاتب الطاهر جاووت رصاصتين في الرأس ولقي الكاتب المسرحي الشهير عبد القادر علولة المصير نفسه وتعرض الشاعر يوسف سبتي للذبح داخل منزله. أما الطبيب النفساني محفوظ بوسبسي فأثخن بالطعنات وهو يهم بالدخول إلى عيادته فيما قطع رأس البروفيسور الفليسي داخل عيادته. ثمة بالإضافة إلى كل هؤلاء وفرة من الصحافيين والأساتذة أصبحوا أثرا بعد عين.
نشهد للمرة الأولى في التاريخ وجود حركة إرهابية تقترح استئصال النخبة المثقفة داخل البلاد، كما لو أن للأمر تعلقا بنبات ضار أو مرض، وذلك في سياق مشروع مجنون يتوخى تصفية كل أشكال التفكير والإبداع. يتحدد رهان هذا المشروع في استئصال العقل المفكر للبلاد. وبصرف النظر عن وجوب الشعور بالقلق على مستقبل وطن تمت تصفية نخبته الحية برمتها، فإن ثمة في غمرة ذلك رجالا ونساء يتساقطون الواحد تلو الآخر لسبب بسيط يتمثل في تعبيرهم عن أفكارهم.
آثرت السلطة التنصل من مسؤوليتها. ولئن كانت عاجزة عن توفير الوسائل والإمكانيات اللازمة لضمان سلامتهم داخل البلاد، فقد كان حريا بها إبعادهم عن المكان الذي يسلط فوقه سيف ديموقليس. كان لزاما عليها والحالة هاته التفكير في صيغ متعددة وإدخالها إلى حيز التنفيذ. ومن هذا القبيل على وجه التخصيص إيفادهم إلى التمثيليات الجزائرية في الخارج؛ حيث كان في مقدورهم القيام بعمل رائع خلافا لهؤلاء البيروقراطيين المغمورين الذين يركنون إلى الكسل وهم ينعمون بالرواتب المجزية. كان من شأن هذه الصيغة والحالة هاته أن تسهم في الحفاظ على مستقبل البلاد.
هكذا، إذن، اضطر عدد من المثقفين إلى اللوذ بالمنفى، ويبدو أنهم فعلوا ذلك على وجه السرعة ودون أن يتوفر لهم اليقين في إمكان الحصول على مكان آمن للجوء.
بدأت البلدان الأجنبية التي أعارتهم آذانا صماء ما دامت حاجتها إليهم منعدمة في النظر بشكل مباغت إلى جهة أخرى. ولم يتمكن هؤلاء المثقفون الذين كان المتطرفون ينعتونهم بعملاء حزب فرنسا لا لسبب إلا لكونهم يعبرون عن أفكارهم ورؤاهم بلغة موليير من الحلول ضيوفا على بلاد هذا الكاتب.. لقد ألفى الواحد منهم نفسه مضطرا إلى أن يفارق زوجته وأبناءه ويحط الرحال في عالم لا يعرف عنه أي شيء، فيما وجد الآخر نفسه في حالة من الخصاص. انتهى المطاف بأحد كبار الرسامين الجزائريين إلى أن يصبح في وضعية إقامة غير شرعية في فرنسا. قالت له الموظفة الفرنسية حين تقدم بطلب تجديد تأشيرة الإقامة التي انتهت صلاحيتها: أنصحك بأن تعود إلى بلادك مرفوع الرأس عوض العودة مقيد اليدين بالأصفاد. هل كانت هذه الموظفة تجهل أنها بصنيعها ذاك ترسله إلى الموت؟ ألفى أحد الأساتذة الجامعيين المبرزين الذي كانت الحاجة إليه قوية في كل المؤتمرات العلمية المتعلقة بحقل اشتغاله عاجزا عن الحصول على منصب أستاذ مساعد في البلاد التي اضطر إلى اللجوء إليها. يعيش هذا الشتات المثقف باعتبار ذلك في حالة من العزلة والشعور بالمرارة.
لم تتوقف بعض الضمائر الطيبة عن مقابلة ضحايا الإرهاب بالعنف القمعي للسلطة وما يستلزمه ذلك من إعدامات جماعية وتعذيب، كما لو أن المثقفين كانوا محرضين على ذلك. ولئن كان المثقفون يعارضون المشروع المجتمعي للمتطرفين، فهل يشكل ذلك ذريعة لتحميلهم وزر شطط النظام؟ وهم لم يتوقفوا فضلا عن ذلك عن فضح الارتشاء وتخاذل وانحراف المسؤولين.
لقد تخلى عنهم الجميع، ولا يبدو أن مصير هؤلاء المبعدين الجدد يثير عاطفة وانفعال بلد ما. ينضاف فيما يخصهم إلى انعدام اليقين والطمأنينة فيما يهم المستقبل الآلام المترتبة عن الاقتلاع من الجذور. وهم ما يفتأون يتسكعون بين هذه المدينة أو تلك وبين هذه البلاد وتلك الأخرى. أصيب بعضهم بالاكتئاب فيما غرق البعض الآخر في الكحول. وها هي ذي خيرة النخبة الجزائرية تذبل في الخارج في إطار من اللامبالاة التامة.
عقب وقف المسلسل الانتخابي في كانون الثاني (يناير) من عام 1992، تم استقبال الآلاف من المتطرفين في البلدان الأوربية. وفي المقابل، لا يجد أولئك الذين يواجهون راهنا تهديد تلقي رصاصة في الرأس أي مسعف. وتتمثل جريرتهم الوحيدة في أنهم دافعوا عن مبادئ الحرية والديمقراطية والحداثة والتي كانوا يعتقدون أن أشخاصا عديدين يقاسمونهم إياها. غير أنها في نظر المتوحشين جريمة تستحق عقوبة الموت.
ما إن يرخي الليل سدوله على الجزائر البيضاء حتى تجد نفسها نهبا لجنون قاتل. يموت شعراؤها أو يضطرون إلى مغادرتها، ولا يجدون قبالتهم غير جدار من اللامبالاة والتجاهل. وهم يشعرون بالانسحاق في الأغوار العميقة لوجودهم، ويأملون على الرغم من كل ذلك في أن تمتد في النهاية يد لنجدتهم وأن ينفك إسار القوانين التي تتحكم في دخول وإقامة الأجانب في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو البحر الذي ينبغي أن يوحدنا عوضاً عن أن يفرق بيننا. كان الرومان يرددون: هذا بحرنا. يا قابيل، ما الذي فعلته بأخيك هابيل؟
ترجمة: عبد المنعم الشنتوف
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى